هبة محمد الآغا -غزة/فلسطين
ملف غزة: إلى مدينة مختلفة
نشر هذا الموضوع في العدد 70 (2012)
هبة محمد الآغا - فلسطين
إلى مدينة مختلفة
شتاء مجنون، وبردٌ هرم، يتسلل إلى بيوتنا الحالمة بالدفء، الخالية من المصابيح، المحترقة بينها وبين نفسها، والتي —رغم كل شيء— تغني في آخر الليل أغنية النوم الطويل، وتحلم بكلام غير مفهوم.
لا يعرف أهل مدينتي رجل الثلج أبداً، فهم منذ أن خلقوا في هذه المنطقة، وهم لا يرون إلا الريح والمطر، وإذا ما حالفهم الحظ فهم ينظرون من نوافذهم إلى "البَـرَد" الذي يطرق أسطح "الزينكو" فلا يستطيعون فتح الباب للضيف المتعب. إنهم لا يملكون إلا حماية أنفسهم من البلل، لكنهم يعيشون على صخب المطر طيلة الشتاء، فصوت طرق المطر، يعني لهم موسماً حافلاً بالماء والزرع والحصاد.
يقطع هذه المدينة شارعان كبيران يمتدان من شمالها حتى جنوبها، ثم يلتقيان في منتصفها حيث تتفرع الحارات والزقاق والشوارع الصغيرة، وتتقاسم البيوت أنفاس المدينة ومصابيحها المتعبة التي تقف طيلة الوقت في انتظار القليل من الكهرباء، كي تستمد طاقتها مجدداً.
إنني أسأل نفسي دائماً: كيف تستطيع مصابيح الشوارع الصمود طويلاً؟
لا شيء يقلق هذه المدينة إلا أن تبحث عن طفلها الصغير فلا تجده، ثم تأتيها أخبار من هنا وهناك، أنه يقف على حدود البلاد، يحمل بندقية، ويرافقه أصدقاؤه الذين يمدونه بالشجاعة، ويحفظون له جميل المخاطرة، إن سقطت عليه قذيفة حمقاء لا تدري طريقها.
إنها مدينة تحسب حساب كل شيء، تصحو من نومها مبكرة، تفطر من عند "سليم" الفلافل والحمص، وتوصل أطفالها إلى مدارسهم، وموظفيها إلى أعمالهم، ثم تعود لتنام قليلاً حتى يستيقظ من تأخر عليهم الليل فناموا صرعى لأحلامهم، تصحو معهم من جديد، لتخبرهم بأنها اليوم نشيطة جداً، لدرجة تسمح لنفسها فيها بسؤالهم أسئلة أكبر من حجمهم.
أيتها المدينة العائمة على بحر من أحلام البسطاء، كم تحتاجين من الوقت لتحملي إلينا بشريات تخفف عنا وطأة الأسى، ومرارة الانتظار؟ كم من الوقت تحتاجين لتغلقي شبابيك الاثم في وجوهنا، ونقترب معاً من معبد نعتكف فيه من أجل البقاء أخياراً، لا نحمل في نفوسنا سواداً مغلفاً لجيراننا، ولا لبني عمومتنا؟
إن الكلام عن مدينة تعيش فينا، يختلف كثيراً عن مدينة نعيش فيها، إنها رغم شوارعها المتكسرة، وسوقها الذي ينتهي بكل أنواع القذر، ودكاكينها التي لاتجد فيها إلا بضاعة مغبرة، وخبزاً يابساً، تبقى مدينتنا "الأحب".
لماذا يقود الكلام دائما للحديث عن المدينة التي كنّا فيها ذات يوم، ولما نشعر بالحب تجاهها دون أن نفكر. أيصنع الحب فلسفة فيي معرفة المدينة؟
ألا تكون المدينة التي نغرق في حبها الآن هي ذاتها المرأة التي نحب؟ السيدة التي قاتلنا العالم لأجلها؟ ألا نكون مبالغين بعض الشيء إن قلنا إن مهر المدينة أغلى بكثير من مهر امرأة؟ أم أن السيدة التي ستدخلنا في عوالم جديدة، تستحق مهراً اكثر بكثير من مدينة اعتدنا وجهها وصمتها ونحيبها، وشقاءها، وما عادت تدخلنا في "دنيا" كما تفعل أي امرأة فيها؟
حين سألتهم آخر مرة عن بحرها في الشتاء، قالوا لي : إنه يرقص كل ليلة على وقع الريح، ويغازل السفن الآتية إلى شواطئه، إنه يتفلسف دائماً ويقضي معظم وقته مترنحاً متمدداً متفرجاً على آهات الناس.
وبينما يفتش في دفتره الأزرق عن رسائل حبه القديمة، وجد الحبيبة الأولى قد خطت مكتوباً بيدها المكسورة، على ضوء الشموع، والحبر المنسكب، كتبت فيها "إنني أحترق".
لم وعد البحر مدينتي بالزواج؟ هل كانت تعرف أن زواجها منه تتويجاً لأمان طال انتظاره، أم هل كان انتظار البحر لمدينتي سنيناً طويلة كي تنضج وتصبح فتاة المكان الأولى، مبراً لوعده بالزواج؟ إنه لم يعد يعرف الآن كيف يمكن أن يبرر لها صمته الطويل، ووعوده المؤجلة، ومسرحياته الهزلية.
أمام عينيه سقطت في البحر الأحمر القاني، وأمام عينيه وقفت من جديد، وأمام عينيه غرقت في الظلام.
المجنونة صارت تحبُ رجال المدينة كلهم، ليس لعهر فيها، إنما انتقاماً لرجل أهمل أنوثتها وانتظارها الطويل. وصار كل الرجال يهيمون فيها، ويضحكون عليها أحياناً، ويبتسمون لها بخبث، و"هي" تحترق وتضيع ملامحها الأصيلة في ثورة الماكياج وظلال العيون.
وحين كان الوطن يشنق الوطن، وحين كان يقتل الوطن الوطن، كانت تختبئ خلف كومة من الأحلام، وتستر جسدها بثوب شتوي مهترئ، وفي اللحظة التي كان يجمع فيها كل رجل ما تبقى من أحلامه السياسية، كانت مدينتنا تنظر بعينها الواسعتين إلى ذلك الرجل الواقف هناك بعيداً، وترسم في فضائه لوحة الدماء المشهورة.
العدد 70 (نيسان/4/أبريل 2012)
◄ عود الند: ملفات
▼ موضوعاتي