غانية الوناس - الجزائر
نصوص قصيرة
فواصلْ
في الحياةِ التي نعرفْ لحظاتٌ قد يُصادفُ أنْ يمرُّ بها بعضنا. وفي الحياةِ الّتي لا نعرفْ، أشياءٌ سنقرأ عنها ذات يومْ.
مشروعُ رجلْ
أتشعرُ أنّك مرهقٌ جداً يا فتى؟ متعبٌ من كلّ شيءٍ، وساخطٌ على كلّ شيءْ، تبدُو لِي كذلك، وعيناكَ الضيّقتانِ، تزيدانِ من حدّتكْ، كلّما اكتملتْ تلكَ العقدةُ الّتي تعلُو وجهكْ.
اهدأ، فأنا أستطيعُ أنْ أتفهّم غضبكْ ونقمتكَ على الحياةِ كلّها، وأنتَ تجلسُ كلّ صّباحٍ في هذهِ الزاويةِ المعتمةِ منْ هذا الكوكبِ المقفرِ، تنتظرُ منْ يمرُّ من هُنا راغباً في مسحِ حذائهِ.
تشعرُ بالخجلْ أليسَ كذلك؟ أو ربّما تشعرُ أنّك مطحونٌ في ركنٍ منسيٍ من هذا الكونْ، تشعرُ بالرّغبةِ في البكاءْ، كلّما ناولكَ أحدهمْ نظيرَ عملكْ، أنا أفهمكْ حقاً، لكنّي أفهمُ أيضاً أنّنا لا نختارُ ما نحنُ عليهْ، بينما نستطيعُ تغييرهُ بأيدينا مسْتقبلاً، أنتَ تبْنِي نفسكْ، فلا تسْتهنْ بكلّ الّذي تقُومْ به الآن.
غداً حينَ ستكبرْ، ستدركُ أنّك قدْ صقلتَ الرّجولة فيكَ مبكراً جداً، وأنّ الطّفولةَ الّتي حُرمتَ جنّتها، ستعوّضُ برجولةٍ مكتملةٍ وقادرةٍ على مواجهةِ صُعوباتِ الحياة، أنتَ تصنعُ من نفسكَ الآن رجلاً، وقليلُون جداً همُ الرجالُ على هذا الكوكبْ.
يا صّغيرِي، لا تخجلْ منْ نفسكْ أبداً، فأنتَ الآن درسٌ للعالمِ كلّه.
أنتَ درسٌ للعالمِ أجمعْ.
بطلْ
عادَ لتوّهِ من الجّبهة، يبدُو تعباً مرهقاً بعض الّشيءْ، هزيلاً فقد كانَ قبلَ سفرهِ مكتملاً، شيءٌ منْ زرقةِ عينيهِ مالَ إلى السّوادْ، وشعرهُ الأشقر الجميلْ لمْ يعدْ تماماً كذلك، غابتْ ضحكتهُ الجميلةُ الآسرة، وحضرتْ مكانها ابتسامةٌ خافتةٌ على شفيرِ الحزنْ، سألهُ ابنُ أخيهِ الطّفلُ ذو السابعة، عمّي: يقُولُ أبّي إنّك بطلٌ، وأنا أخبرتُ عنكَ كلّ أصدِقائِي، وجعلتُ الجميعَ يرى صورتكَ بالبزّة العسكرية، نحنُ فخُورونَ بكْ، وأنا أريدُ أنْ أصبحَ مثلك حين أكبرْ.
جيمسْ لمْ يستطعْ أن يفرحَ بكلامِ الصّغيرْ، خانتهُ دمُوعهْ، أختنقَ في صدرهِ كلّ الكلامْ، تراجَع قليلاً إلى الوراءْ، أسندَ ظهرهُ إلى الحائطْ، وراح يتمتمْ:
أنا بطلْ؟ كمْ كذبةً بعدُ سنكذبُ على أطفالنا، ونحنُ أنفسنا لسنا نصّدقْ؟
بطلٌ يحتلُّ أرضاً، ويعُودُ إلى أهلهِ، بعدَ أنْ يكونَ قدْ قتلَ أهلَ أطفالٍ أخرينْ.
حياةْ
نظرَ إليّ مطوّلاً، كانَ في عينيهِ كلامٌ كثيرٌ، لكنّه فجأةً توقّفْ، اختنقَ الحديثُ في حلقه، غصّة بدتْ لي ظاهرةً للعينْ، سألتهُ ودمعةٌ ما رأيتها تسلّلتْ على غيرٍ موعدٍ.
أنتَ ذاهبٌ، أليسَ كذلك؟
رفعَ عينيهِ إلَى السّماءْ وقالْ لي: إنّهم يَطلبوننِي كيْ ألتحقَ بهمْ، ألاَ تسمعينَ صوْتهمْ يا سّلمى، ألا تسمعينْ؟
كان بيديهِ كوفيّةُ جهادْ، وضعها بيدِي وقالَ لي: إنْ لمْ أعدْ، أخبِري جدّتِي أنّي رجلٌ كما أرادتْ لي أن أكونْ.
مشى خطوةً، خُطوتينْ، ثلاثُ خطوّاتْ، أربعٌ، خمسٌ، عشرْ. صارَ أمامَ الحاجزِ تماماً.
كانَ أمام الحاجزٍ، وفي لحظةٍ لمْ يعدْ موجوداً، لمْ يعُدْ إلاّ نّاراً أحرقتْ كلّ شيءٍ كان هناكْ.
وطنْ
وقفتُ علَى عتبَةِ العمرِ للحظةٍ. سألتُ نفْسِي منْ أكونْ؟
بعدَ كلّ هذا الوقْتِ الّذي مضى، وأنا أقلّبُ صفحاتِ الماضِي صفحةً صفحةً، وجدتُ نفْسِي جالساً على معقدٍ في مطارٍ، أقلّبُ صفحاتِ الجوازْ.
كنت جالسا أنتظرُ أنْ أسمعَ ذلكَ الصوتَ الّذي يأتينَا ليخْبرنَا بقربِ إقلاعِ الطّائرة، كنتُ كمريضٍ خرج لتوّه من عمليّة صعبَةٍ معقّدةٍ، يهْذِي باسمِ الحياةْ.
أينَ أنا، وما هذاَ الجّنونُ الّذي يجْتاحُنِي فجأةً؟ ما هذا الّذي أفعلهُ؟
ماذا حلّ بذلكَ المهنْدسِ النّاجحِ الّذي عاشَ عمرهُ بينَ مكتبهِ البسيطِ، وبيتهِ؟ ماذا حلّ بعالمِهِ الّذي بنّاهُ لنفْسه؟
كانَ هذياناً، وجنُوناً، وحلماً لمْ أدركَ حجمَ الواقعِ منه، لذلكَ تركتهُ يسْتمرُّ، لعلّي أستيقظُ فجأةً لأدركَ ما الذي حدثْ.
"أيّها الركّابُ الأعزّاءْ، اسْتعدّوا للهبوطْ".
فتحتُ عيْني. أنا قدْ أصبحتُ على بعدِ سلّمٍ منْ الجزائرْ، أحملُ معِي طفولةً مكسُورةً، وذاكرةً خاليَةً، وشوقاً لأنْ أضمّ هذهِ الأرضَ أخيراً.
◄ غانية الوناس
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
7 مشاركة منتدى
نصوص قصيرة, محمد التميمي | 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 - 04:41 1
الاستاذة غانية
نصوصك القصيرة في أسطرها كبيرة جدا في معانيها وتختصر كثيرا مما يقال ويعاش.
في نصوصك عاطفة جياشة وحس مرهف أغبطك عليه.
دمت مبدعة
1. نصوص قصيرة, 24 كانون الأول (ديسمبر) 2012, 12:26, ::::: غانية الوناس.الجزائر
أستاذ محمد،
يسعدنِي كلّ مرة أن أتلقّى هذا التشجيع الّذي لا يزيدني إلا حرصاً على تطوير نفسي للأفضلْ،
هو المعنى ما نلاحقه دائماً فيما نكتب، وما نحاول أن نوصله حتى حين يقلّ الكلامْ..
شكراً جزيلاً على مرورك الطيب ، أسعدنِي بحقّ.
نصوص قصيرة, ماء الماس سوريا | 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 - 06:03 2
رااائعة غانيا قصص جميلة جدا"
وانا من عشاق احرفك ^_^
1. نصوص قصيرة, 24 كانون الأول (ديسمبر) 2012, 12:35, ::::: غانية الوناس.الجزائر
الاروع هو انتِ صديقتِي،
يسعدنِي تشجيعك،وكذلك دعمكِ لي هنا او في أي مكان آخرْ..
ممتنّة لكِ حقاً يا رائعة ..
نصوص قصيرة, ماء الماس سوريا | 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 - 06:05 3
رائعة غانيااا
انا من عشاق احرفك ^_^
نصوص قصيرة, زهرة يبرم/ الجزائر | 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 - 12:17 4
غانية الوناس و نصوصك القصيرة
بكل الروعة جسدت فواصل من الحياة تدعو للتأمل،
مصقولة بكلمات من نبع احساسك المرهف،
هي دفقات من شلال عواطفك الانسانية.
دمت على درب الابداع و احييك بكل الود
1. نصوص قصيرة, 8 كانون الثاني (يناير) 2013, 14:30, ::::: غانية الوناس.الجزائر
العزيزة زهرة،
كلّما مررتِ بما أكتبه هنا أشعرُ بسعادة غامرةٍ، يسعدني في كل مرّة أن أتلقى منكِ كل ملاحظةٍ أو تعقيبٍ، بحق رأيكِ يعطيني رفعاً للمضي قدماً والكتابة كلّ مرة بشكلٍ أفضلْ..
أشكركِ اهتمامكِ عزيزتِي كلّ مرة ففي ذلك كل الدعمِ الذي أنشده..
تحياتِي إليكِ أيتها الزهرة ..
نصوص قصيرة, منال الكندي - اليمن | 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 - 04:17 5
فعلا نصوص قصيرة ولكن كبيرة في المعاني والقيمة الأخلاقية التي صرنا نفتقدها في هذا الزمان ونكافح من أجل أن نعيدها ولو بالذكرى... سلم قلمك والمعنى الذي عبر عنه في زمن تشتت فيه حتى المعاني.
1. نصوص قصيرة, 8 كانون الثاني (يناير) 2013, 14:34, ::::: غانية الوناس.الجزائر
ما الكتابة إلاّ محاولةٌ لاستعادةِ ما فقدناه من قيّمٍ ، لعلنا إذ نقرأ نستعيد من خلالها كل تلك القيم التي نحتاجُ عودتها إلى حياتنا ..
وسنبقى نحاول ولن نياس ابداً، ما دمنا نملك شيئاً ما نحاول به..
أشكركِ عزيزتِي منال، وأسعد دائماً بمروكِ الجميلْ..
تحياتِي لكِ.
نصوص قصيرة, هدى الدهان | 22 كانون الأول (ديسمبر) 2012 - 04:40 6
مؤلم ان تكون طفولتنا مكسورة فهي لن تشفى مهما سندنا الاخرون بسواعدهم ..التي تمسك بنا احيانا او تراقصنا لتخفف عنا عبء الحياة احيانااخرى ,اما الذاكرة الخالية ف كنز نرسمه للاطفال في كتب الرسم ونقصه عليهم وهو في مغارة بعيدة لاتفتح الا بكلمة سر,اين هي الذاكرة الخالية لاخط عليها مااشاء ولاغلقها انا بكلمة سر انساها حتى لاارتكب مزيدا من الاخطاء وحتى اضل محتفظة لارض الوطن وللاخر وللانا الذي فيّ باحلى صورة ...تلمع كذاك الكنز.
1. نصوص قصيرة, 8 كانون الثاني (يناير) 2013, 14:39, ::::: غانية الوناس.الجزائر
طفولةٌ مكسورةٌ بسبب الفقر أحياناً، وأحياناً بسبب الغربة، ذاكرةٌ خاليةٌ هي نتاج قسوة الحياة على الكثيرين ، لانها بشكل أو بآخر تخلّف فينا إحساساً هشاً يرافقنا دائماً حتى بعد أن نكبر،
هي الحياةُ بفصولها وفواصلها،تمضي بنا كما هو مقدر لها أن تمضي..
سعيدةٌ بمروكِ عزيزتِي هدى،اشكركِ كثيراً..
تحياتِي لكِ
نصوص قصيرة, مدى وفا | 14 كانون الثاني (يناير) 2013 - 11:29 7
هواجس وتداعيات ممتعة لكثافة سردية تحمل بثناياها الحنين والذكريات .