عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عبد الهادي شلا - كندا

سر القماشة السوداء


عبد الهادي شلاعلى عجل كان استدعاء الشيخ إبراهيم إلى بيت الحاجة معــزوزة، التي استردت وعيها من غيبوبة لازمتها ثلاثة أيام وما أن أفاقت حتى طلبت استدعاءه. توجس خيفة كل من اجتمع ببابها من أبناء وأحفاد ومن رجال ونساء العائلة.

قطع المسافة على عجل، تسبقه ضربات عكازة في الأرض تارة وفي جدار الزقاق الضيق تارة أخرى وهو يتمتم بآيات من القرآن، ويستعيذ بالله، ورغم أنه ضرير لا يرى منذ أن كان طفلا إلا أنه يعرف كل تضاريس الطريق إلى بيت الحاجة معزوزة، وعدد الـحـُفـَر، فقد ظَـن الصـِبيَة أنه يدعي العمى حين رأوه ذات مرة وقد وضع عُكازه على ذراعه بينما حمل بكلتي يديه أكياس الخضار والفاكهة، وهو أمام حـُـفرة أو سـَيل مياه الأمطار يقفز عنها، الأمر الذي كان الصـِبيَة يتندرون به فيما بينهم ويقولون: إن الشيخ إبراهيم يرى، ولكنه يتعمد العمى كي يعطف عليه الناس.

وما أن وصل إلى بيتها، حتى أدخلوه إلى حجرتها مباشرة دون أن يعرف أحـَدٌ سِــر استدعائه بهذه السرعة بمجرد أن استردت وعيها لدقائق، ثم ما لبثت أن عادت لتفقده، وهي مسجاة على فراشها شبه واعية. همست له أن يقترب منها بعد أن أمرت من أدخله عليها بالانصراف وعدم دخول أي من أبناء العائلة ولا حتى زوجها أبو سالم.

تحول الشيخ إبراهيم إلى أُذن كبيرة مُصغيــًا ومُنتظراً أن تنطق أو تبوح بسر كما تبادر إلى ذهنه فلا يمكن أن يتم استدعاؤه بهذه السرعة دون أن يكون الأمر هاما وعاجلا، وهو يسمع أنفاسها المتلاحقة رغم ما استشعره من سوء حالها، أو هكذا ظن الشيخ إبراهيم في ظلمة عماه وانشغال فكره.

"يعرف كل سكان زقاقنا الضيق هذا أن لي عينا تحسد بمجرد أن تقع على رؤية شيء ما، أو أشتهيه يا شيخ إبراهيم، ولذلك تراني..."، وأفلتت منها ابتسامة واستدركت، "ليس أنت الذي يراني".

فقاطعها قائلا: "بل أراك وأرى مكرك حتى وأنت على وشك..."

ولم يكمل لأنها قاطعته تستكمل حديثها:

"وقد غَطـَّيتُ عيني اليسرى بقطعة قماش سوداء مما جعل نساء الزقاق الضيق خاصة يتوجسن مني ومن حسد عيني لو رفعت عنها هذه القطعة السوداء، وخاصة الجميلات واللاتي لهن أطفال ذكور، فقد كنت أسترق السمع وهن خائفات من أن أحسد إحداهـُن فيتحول عنها زوجها أو يرغب في زوجة أخرى. لذلك كــُنَّ يحرصنَ على مـُراضــَاتي".

بعد أن شدت انتباهه طلب منها الشيخ إبراهيم أن تكمل حديثها.

"كنت ألاحظ أنهن يُغلقن أبواب بيوتهن في وجهي إذا ما تحسسن مروري في الزقاق، وكنت أمعن في تذكيرهن وأنا أُمازحهن ،بأنني لا أرفع هذه القطعة السوداء إلا عندما تزعجني إحداهن، واستشعرت خوفهن من هذه القطعة السوداء وأتصورهن الآن في الخارج ينتظرن موتي مع باقي أفراد العائلة الطامعين في الميراث."

"كلنا يعلم أن لك عينا تحسد. حتى أنا الضرير كنت أخشى على نفسي من عينك مما سمعته من نساء الزقاق، فأنت تعرفين أنني أتردد على كل البيوت لأقرأ لهن القرآن يوميا"، أردف الشيخ.

"أأحسدك على عماك يا شيخ؟" خرج صوتها متحشرجا يلازمه سعال قوي يخترق ضحكة فلتت منها.

واستطردت: "أتعرف لماذا استدعيتك بهذه السرعة؟"

"لا".

"أشعر بدنو أجلي وأنني سأموت، لذلك سأفشي لك سر قطعة القماش السوداء التي غطيت بها عيني منذ سنوات، وبالتحديد منذ تزوجني أبو سالم في قريتنا وأحضرني للعيش هنا في المدينة. الحقيقة أنني لا أحسد أحدا ولا أحقد على أحد فأنا سيدة ككل سيدات هذا الزقاق، أحب الجميع ولكنني خشيت إن علمن بأنني قروية فإنهن سيسخرن مني أو يستضعفنني وهن بنات المدينة. هكذا قالت لي أمي قبل أن أغادر قريتنا وأوصتني بالحذر من بنات المدينة وجرأتهن ومكرهن ذلك.

" كان الأطفال وأنا صغيرة يسخرون من قصر قامتي وملابسي التي تحيكها لي فكنت أضيق بهم ذرعا مما تسبب لي في عقدة داخلية وأصبحت حريصة على عدم المواجهة مع أحد، لأنني ما كنت أثق في قدرتي على الانتصار في أي صراع، وقد هداني عقلي إلى هذه الحيلة كي لا يسخر مني أحد.

"وأشعت خبر عيني المغطاة بأنها تحسد أي شيء أشتهيه أو تقع عليه. فـحـقـقـت هذه الحيلة الكثير مما تمنيت، وما علم سرها أحد حتى أبو سالم الذي تزوجني منذ أكثر من أربعين عاما، فقد كنت أدعي أمامه بأنني لا أقوى على رؤية الضوء بعيني اليسرى ولا أكشف عنها غطاءها إلا هنا في هذه الحجرة، وما علق على هذا أبدا. أما أولادي وأحفادي فقد أقنعتهم بأنني لا أحسدهم لأنهم من ذريتي، وأنت يا شيخ إبراهيم أول إنسان أبوح له بهذا الســِر".

"اللــــــــــه يخرب بيتك يـــــا معزوزة"، قالها وهو يكتم صرخة في وجهها.

"أنت عفريتة في صورة امــرأة. وماذا أيضــًا؟ المصيبة أن الكل يناديك "الحجة معــزوزة"، والمصيبة الأكبر لو اتضح أنك لم تحجي أو لم تغادري الزقاق".

"نعم، هو كذلك يا إبراهيم. أنا لم أغادر قريتنا إلا حين تزوجت من أبو سالم وأحضرني إلى هذا البيت في هذا الزقاق، وأنجبت كل هذه الذرية التي تنتظر موتي خارج الحجرة طمعا في الميراث".

"والآن هل ما زلت تضعين القماشة السوداء على عينك، أم كشفتها وأنت في غيبوبة منذ أيام؟"

"لا أدري إن كان أحدهم قد نزعها أم أنها على حالها. وأريدك بعد موتي أن تنشر هذا السر بينما أنا في عالم آخر، خاصة أنك تدخل كل البيوت والنسوة يصدقنك".

"سأفعل. المهم أن تموتي الآن، ونرتاح من عملك الشيطاني".

"أتسخر مني يا إبراهيم؟"

"أبدا، فأنت تعرفين مقامك، وأنك ما بخلت علي في شيء طلبته منك أو لم أطلبه، فدوما ترسلين إلى بيتي الكثير مما نحتاجه في المناسبات وفي غير المناسبات، وأنني سأكون أكثر الناس حزنا عليك، وإنما أواسي نفسي فأنا حزين أكثر من حزن زوجك وأولادك وأحفادك الذين ينتظرون فراقك طمعا في الميراث".

"يخرب بيتك. أتتمنى لي الموت يا شيخ الغــَبرة؟" هبت في وجهه وكأن مسـًا أصابها أو خوفــًا من سيرة الموت الذي يتنازعها من الدنيا، وجلجلت منهما ضحكة تردد صداها خارج الحجرة، مما جعل كل أفراد العائلة التي تنتظر منذ أيام موتها يتجهون بأبصارهم وآذانِـهم إلى الحجرة التي ترقـُد فيها الحاجة معــزوزة.

وسط الصمت الذي طال في الحجرة وعــَــمّ المكان في الخارج بين حزن وقلق، أمــَـرَ زوجها أبو سالم أحد أبنائه بأن يذهب إلى دكان عطية ويشتري بعض البـُن والتـَمر وأن يطلب من سلمان صاحب المقهى أن يحضر عددا كبيرا من الكراسي وميكروفونا وأن يستدعي الشيخ مصباح كي يقرأ مع الشيخ إبراهيم في بيت العزاء، كما أمــَر بعض أحد أحفاده بأن يجهزوا ساحة البيت الكبير لاستقبال المعزين ظنا منه أن الصمت الذي خــَيَّم على الحجرة قد يكون سببه أن الشيخ إبراهيم يتلو على الحاجة معــزوزة آخر آيات يمكن أن تسمعها وهي تحتضر.

"هل تذكر يا شيخ إبراهيم، المقلب الذي أوقعتك فيه أنت وصديقك الشيخ مصباح في أحد شهور رمضان وأنت تقرأ "الختمة" السنوية في بيتنا هذا منذ ما يزيد عن عشر سنوات؟" قالت وهي تحاول أن تسند جسمها إلى الوسادة الكبيرة التي تتكئ عليها.

"الله يجازيك على ذاك المقلب. أضحكت علينا أهل الزقاق يومها"، قال وهو يكتم حزنا في صوته الخفيض.

"لقد ملأت لكما زجاجة العطر بالحبر الأسود وعرضت عليكما أن يمسح كل وجهه بالعــِطر بعد أن فتحت زجاجة عطر حقيقية وشممتما رائحتها، ثم طلبتما المزيد، ولكنني صببت لكما الحبر في كفيكما ومسح كل منكما وجهه بها بينما رائحة العطر الحقيقي تفوح في المكان".

"يوم لا أنساه، فقد تندر بنا الصبية وظنوا أننا عائدان من جهنم بعد أن أحرقتنا نارها".

وهنا جلجلت مرة أخرى ضحكة الشيخ إبراهيم، أفزعت كل من في الخارج. وهــَمَّ أبو سالم بفتح باب الحجرة إلا انه توقف في آخر لحظة لعله يسمع ما يدور بداخلها.

قالت وصوتها يزداد اختناقا وتتلاحق أنفاسها وتوشك أن تغيب عن الوعي: "وهل تذكر يوم كنا نجلس تحت شجرة العنب في ساحة بيتنا هذا ذات صيف، وطلبت مني أن أصنع لك كوبا من الشاي بالنعناع، ولم أتمكن من إشعال "وبور الكاز" حين انطفأ فجأة، وما استطعت أن أضع الإبرة في عينه، فأخذت من يدي الإبرة وأدخلتها وأنت تتحسس مكان العين وتقول لي: "هو إنتي بتشوفي؟"

ابتسم الشيخ إبراهيم بحزن شديد دون أن يدري هل رأته أم أنها في غيبوبة، فقد ظن أنها بدأت تهذي وأن سكرات الموت تتوالى عليها فبدأت في تذكر بعض ما علق في ذهنها ورغبت في أن تودع الدنيا وهي على حالها هذه.

"نحن أصحاب العاهات يمنحنا الله سبحانه وتعالي قدرات غير التي عند الأصحاء، وقد اعتدنا حياة الظلام ونتصرف على أساس أننا نرى كل شيء. فأنا أراك بقلبي ومشاعري التي تربطني بك وبمن أتعامل معهم بالود، وللجميع صورة في ذهني ربما ليست مطابقة لأصلها فهي خاصة بي وربما لكل ضرير قدرات تختلف عن الآخر في رسم صورة الذين يتعامل معهم ولكنني أحبها وأسترجعها كلما اشتقت إلى أحد ممن أحبيت وألــَفت. أما من يؤذيني فإن له في ذهني صورة مختلفة. ومثلي لا يعرف كيف يكون وجه الإنسان السعيد ولا الحزين ،ولكنني أستشعر ذلك من نبرة صوته أو من ملامسة كفه. هكذا منحنا الله قدرات مغايرة لما عند الأصحاء لذلك يا معــزوزة اختمي هذه اللحظات بالرضى بما أنعم الله عليك وعلى عائلتك، وسامحي الجميع فأنت الآن في مقام عال تحيط بك الملائكة".

"ملائكة؟ أكيد ملائكة الموت".

"الله أعلم ولكن هذه اللحظات غير عادية، وبها بركة الرحمن فأنت سيدة صالحة، وأدعو الله أن يُـدخلك فسيح جناته".

"الله ياخدك قبلي يا شيخ النحس. أتتمنى لي الموت مرة أخرى؟"

"لولا لسانك هذا لربما دخلت الجنة مرتين، الأولى وأنت على قيد الحياة والثانية بعد الموت"، مازحها بنبرة حزن وقلب كسير.

الزمي الصمت الآن فأنت في مقام كريم وأعيدي ورائي ما سَــأتلوه عليك من الآيــات لعلها تكون لك شفيعا في ظلمة القــبر ويوم الحساب: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نُــزلا".

أعاد عليها فتحركت شفتاها تردد وتعيد من ورائه بينما ينسحب صوتها إلى بئر عميق، وما عاد الشيخ إبراهيم يسمعها إلا همســَا، ثم ســـكتت.

D 25 كانون الأول (ديسمبر) 2012     A عبد الهادي شلا     C 16 تعليقات

14 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

واقعة من سنين الجمر

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 79: عامان على محاولات التغيير في العالم العربي

تهنئة بالسنة الجديدة

ابيجرامات الشاعر عثمان حسين