عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

محسن الغالبي - السويد

بـريـفــــان


محسن الغالبيفجأة وخارج كل حدس ممكن، من العدم أو من اللاشيء، من الضباب، من الحلم، من الهواء، -قل ما تشاء- أطلت بقامة متوسطة تناسب كل المقاسات، وبشعر أسود فاحم غجري يمكن للمرء أن يتيه بين خصلاته أعواما.

بخطوات ملؤها اليقين، استدارت لتحتل المقعد المقابل لي في قاطرة كان نصفها فارغا. كانت الطاولة تفصل بيننا، لكنني أحسست أن أهداب حاجبيها الممتدة بجنون قد لامست جفني فأعمتني في لحظة يستوي فيها الأعمى والبصير، وأن شعرها هبط كليل أو كموج بحر يرخي سدوله (*) ليكنس أفكاري ويأتي بأخرى.

كانت ابتسامتها المهذبة تفصح عن تحية تخافها أخريات. تقرفني تلك الحشمة التي تفتعلها بعضهن دون أن تضفي عليهن وقارا. رددت التحية بمثلها أو بأقل منها فأنى لي المزايدة عليها.

أشحت بعيني عن الالتقاء بخطوط نظرها التي اقتحمت عالمي دون سابق إنذار، تماما كالشهب تخترق السماوات. كانت هناك العديد من الأماكن الشاغرة وكان لها أن تختار ما تشاء منها.

مثل هذه الأمور لا تحدث صدفة أبدا. كان من الجلي أن هناك يدا خفية ترتب الحوادث بوضوح لا ريبة فيه.

قالت ما رأيك أن تجلب قدحي قهوة من مقهى القطار، فالسفر لا يكتمل بدون قدح شاي أو قهوة؟

أربكني وضوحها، لا أقول شجاعتها، فليس الموقف بالذي يتطلب شجاعة، لكنه الوضوح بعيدا عن التصنع. وضوحها الذي لم يترك لي سوى خيار القبول بكل سرور.

صورة مع نص محسنوقبل أن ترفع قدح القهوة مدت يدها معرفة نفسها: بريفان. لم أسمع بهذا الاسم من قبل. بحثت في الذاكرة سريعا فلم تسعفني. كانت ملامحها الغجرية توحي بأنها من بلاد لست أعرفها. تصفحت خبرتي ومعرفتي التي منحني إياها سفر عشرين عاما، لكنني لم أفلح. أيقنت حينها أنني بحاجة إلى أسفار جديدة.

ما زال أمامنا الشطر الأكبر من سفرنا هذا. تبادلنا أحاديث عديدة، كان يطرح معظمها على شكل أسئلة لمعرفة الآخر. كانت إجاباتها واضحة حد الإرباك لرجل شرقي مثلي. وكانت إجاباتي شاعرية حد المراوغة.

كان حوارا بين الوضوح وبين الفوضى، بين الصراحة والإشاحة، بين المعرفة والشعر، بين الدقة والتقريب، بين الواقع والحلم أو قل الوهم، كان حوارا بين الغرب وبين الشرق، أو هكذا خيـّل إليّ، فلقد تخلى كل تاريخ تجاربي عن المعرفة حينها، وكان لا بد لي من إدامة السفر.

وقبل نهاية السفرة ألقت صاعقتها منتفضة من مقعدها وقالت: "أنا وأنت من بلد واحد، الفرق أنك من جنوبه وأنا من شماله". حينئذ أدركت سبب جهلي لاسمها: بريفان، وعادت الذاكرة أدراجها يوم كنا بلدا واحدا ثم فرقّه شيآن هما في الواقع شيء واحد: الأهواء والأديان.

ألقت بريفان مودعة إياي تحية كالتي ألقتها في البدء، مجرد ابتسامة. دلفت بين جموع المسافرين واختفت، ولكن ما زال شعرها الغجري يتمايل في دمي وكياني.

قالت لي بريفان قبل رحيلها بضع كلمات حطمّت فيّ قواعد كنت أظنها راسخة، وفتحت أمامي سفرا لا أدري متى سيبلغ مقصده، إذ قالت: "كل ما تحتاجه هو الوضوح".

= = = = =

تمت في الساعة السابعة صباحا والثلج يُـرى بوضوح من خلال نافذة المبنى (ل) القسم رقم (63) لأمراض القلب في مستشفى اوربرو – السويد بتاريخ 25 ديسمبر (كانون الأول) في الليلة السابقة لعيد الميلاد لعام 2012.

(*) العبارة مقتبسة من بيت للشاعر امرؤ القيس:

وليل كموج البحر ارخى سدوله - - - علي بأنواع الهموم ليبتلي

D 25 كانون الثاني (يناير) 2013     A محسن الغالبي     C 4 تعليقات

3 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 80: العدالة الاجتماعية ونهاية التاريخ

دعوات توحيد الفصحى والعامية

قراءة في قصّتين

إبراهيم يوسف: مبادرة تكريم