محمد محمود التميمي - الأردن
في قاعة الامتحان
أصوات دعوات وتهجدات تسابيح وقرآءة لآياتٍ من الذكر الحكيم، ليست جلسة ذكر أو حلقة في مسجد من بعد صلاة الفجر. هي دقائق قبيل امتحان نهائي لإحدى المواد الدراسية. خوف، ترقب وقلق على وجوه الطلبة، وقاعة رغم ما فيها من إضاءة الا أنها كانت معتمة باردة. كل طالب جلس في مقعده يمارس طقوس اللحظات الأخيرة قبل بدء الامتحان.
دخل رجل سمين يشبه المعلمين في الافلام، رجل في أواخر العقد الخامس من العمر، كث الشاربين، متجهم الوجه، يلبس بدلة "السفاري" ويتأبط شرا ملف الأسئلة. يتقدم بهيبة اتجاه الطاولة المعدة مسبقاً له ليضع فوقها الملف ويبدأ هو بدوره اعداد نفسه للمراقبة عليهم.
بدأت اصوات الطلبة بالتلاشي شيئا فشيئا، لتحل محلها اصوات إعداد عدة الكتابة من استخراجٍ لأقلام أو تجريبها بالتشطيب على ورق فارغ، يتبعها بعض همهمات بين الطلبة لطلب دعم لوجستي أو عقد صفقة تبادل منافع قبل أن يحرم الكلام بينهم.
رمى المراقب الاسئلة على طاولته متعمدا أن تظهر صوتا يلفت انتباه الطلبة ويقطع الكلام بينهم، ودون أن يغير من ملامح وجهه الجدية صاح:
"كل ما يتعلق في المادة من كتب وملخصات وملاحظات يجب أن يترك هنا".
وأشار بسبابته الى زاوية القاعة التي لا تحتوي سوى سلة المهملات.
انسل بعض الطلبة ووضعوا أوراقهم حيث أراد وعيونهم بقيت معلقة بها كأم تودع ابنها المغترب لأول مرة.
قام بتغيير أماكن بعض الطلبة ليفرق بين المرء وصحبه فلكل منهم شأن يغنيه. اعترض بعضهم دون فائدة تذكر، وتململ بعضهم دون أن يغير من قرارات التنقلات شيئاً.
فتح المراقب الملف واستخرج أوراق الأسئلة وهو يصيح مرة أخرى بصوته الأجش:
"الآن سأبدأ بتوزيع الأسئلة، لا أريد ان اسمع اي نفس".
هدأت القاعة تماما ولم يعد يُسمع سوى صوت الأوراق وصوت المراقب وهو يتحرك بين المقاعد.
وبدأ الامتحان
هدوء يلف المكان، يقطعه صوت سعلة هنا أو سقوط قلمٍ هناك. خطوات ثقيلة يخطوها المراقب بين الطلبة يتفحص الوجوه، يتحين الفرصة ليلقي القبض على من يسرق نظرة من ورقة زميله أو من يحاول الاستعانة بورقة خبأها بين ثنايا ملابسه؛ تعود نظراته عليه بالفشل دائماً.
تمر الدقائق ثقيلة على المراقب، بطيئة على الطالب، على عكس الحياة، ففي الامتحان وحده يمر الوقت على المهموم سريعاً وعلى المسرور ببطء.
يقطع المراقب الصمت وملله ببعض عبارات التحذير لمن اشتبه في أن نفسه تسول له الغش، لا يقبل نقاشهم ويهددهم بطردهم من القاعة اذا عاودوا الكرة، ويعود للدوران بين المقاعد ببطء ورتابة.
"بقي خمس دقائق" يعلنها فرحا بقرب الافراج عنه، فقد مل الوقوف والجلوس والمشي لساعتين، حفظ الوجوه والملابس وألوان الأقلام والصور المعلقة على الحائط، ملَّ كل شيء من حوله. خمس دقائق وينتهي الكابوس بالنسبة له.
خمس دقائق، يزداد صرير الاقلام وقعاً، همسات الطلاب تذكر بالاتفاقات المعقدة قبل الامتحان تزداد إلحاحاً ولكن عجز الطالب والمطلوب. يا إلهي! أهكذا يكون حال البشر اذا علم أحدهم ساعة أجله قبيلها بأيام؟ وماذا لو عرفها قبل سنين؟ هل سيعد لها أكثر؟ نحن نعرف أن لكل أمة أجل، فهل أعددنا له؟
"دقيقة واحدة، تأكد من وجود اسمك على الأوراق التي ستسلمها، اكتب آخر ما تعلم، وآخر ما تريد أن تقول"، قالها المراقب بخشوع، كأنما يستذكر ان بعد ذلك يوم الحساب.
"ضع القلم"؛ صاحها بأعلى صوته مكرراً هذه العبارة أكثر من مرة.
"ضع القلم. قلت ضع القلم، انتهى الامتحان".
بعضهم اكتفى بالابتسام فقد أعد جيداً لهذا اليوم ولم تكن الأسئلة بالشيء المفاجيء له، آخرون بدأوا يحسبون العلامات، ويظنون بالمحاسب خيراً عله يتغاضى عن زلة هنا أو خطأ بسيط هناك، وآخرون ضربوا كفاً بكف، يا حسرة على العباد!
ينتهي المراقب من تسلم الأوراق، ويلملم الطلبة حاجياتهم ودموعهم وابتساماتهم ويغادر الجميع القاعة.
تعود القاعة فارغة تنتظر موعدا جديدا لامتحان جديد لطلبة جدد.
◄ محمد التميمي
▼ موضوعاتي
- ● نحن والحزن
- ● الآن فهمتكم
- ● موظفة الترويج
- ● مرايا
- ● أهلاً بالمستقبل
- ● الركض تحت المطر
- ● أبحث عنك
- [...]
2 مشاركة منتدى
في قاعة الامتحان, أشواق مليباري\ السعودية | 5 شباط (فبراير) 2013 - 07:24 1
لحظات عصيبة مرت على الجميع تقريبا.
لا أدري إن كنت وحدي التي مازلت أرى المشهد إلى اليوم على شكل كابوس يزورني من حين لآخر؟!
أعجبني تصويرك للحدث، وبعض التعبيرات كالدعم اللوجستي وصفقات تبادل المنافع!
تحيتي
1. في قاعة الامتحان, 7 شباط (فبراير) 2013, 07:36, ::::: محمد التميمي
مع انتقالي للتدريس، وعند كل امتحان اقضي بدايته وانا ارفع من معنويات الطلبة واشجعهم حتى اخفف عنهم وطأة الامتحان ولانني كنت ولا زلت اكره الخضوع لاي اختبار او فحص او امتحان.
في قاعة الامتحان, زهرة يبرم/ الجزائر | 11 شباط (فبراير) 2013 - 12:06 2
لا أدري لما كل هذه الرهبة التي تسيطر على الطلبة خلال اجتياز الامتحانات؟ أنا كنت مختلفة. أملك من الشجاعة ومن اليقين في معلوماتي ما يجعلني أدخل قاعة الإمتحان "واثقة الخطوة أمشي ملكة".
شكرا على الموضوع الذي أعادنا إلى عمرنا الذهبي.