عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

راضية عـشّــي - الجزائر

أحاديث منتصف الشوق


راضية عشيكآبتي هذه تثير إلهام الكتابة بداخلي، مرت فترة طويلة جدا لم أهجوك وها أنا كالطفلة مجددا ولأول مرة أرفع قلمي لأقتُل روتين ذاكرتي بك.

منبه قديم يوقظ أهلي، صوت التلفاز، القناة الأرضية وبحة عبدو درياسة (*) لا يزال يردد: "صباح الخير يا بلادي". صباح الخير إذن. صباحُ أكوام من الأحلام المبعثرة، وحبل غسيلٍ تنشر فيه أمنيات الطفلة البريئة، مسودات الأيام الخوالي وضوء خافت كلحظة حب مترفة، ستائر الغياب حول نافذتي.

كل شيء ساذج وكل صباح مشابه لما قبله وبعده، لذلك قررت أن أكتب. سأكتبُ دون أن انتظركَ لتقرأ، أو لتبدي رأيكَ في نصوصي.

بجوار النافذة أراقبُ اكتمال البدر، كيف يتحرك مرتجفاً من برد الوداع! وأرتجف معه خائفة أن يغادر ويقطع عليَّ سلسلة الأفكار التي أنوي كتابتها.

قلت لي مرة: "مما تخافين؟" فأجبتك: "من القمر".

"من القمر؟"

"من القمر لأنه جميل، لأنه يأتي ويذهب كما يحلو له، لأنه يختفي ببطء، لأنه لا يأبه إذا اشتقنا إليه. لأنه بعيدٌ جداً، لأنه منير جداً، أخاف من القمر لأن الجميع يحبونه؛ أخاف من القمر وأخاف أن تشبِهه.

ضحكتَ كثيراً يومها من غبائي، وضحكتُ أنا لأنك كنت قمري.

أصبحت اليوم بحاجة لصدفة واحدة تجمعني بك، صرت أقيس مدى تعلقي بطرف قلبك بكمّ الدموع التي أذرفها شوقا، وأحياناً بقناعتي أنك ستعود.

جلست على السرير وأخذت قلمي مجددا ثم أفترت ثغري لضحكات طائشة. حاولت أن أنسى كم بكيت وكم سهرت، وكم أحببت وانتظرت.

كنت بحاجة ربما لتأليف رواية، لكنني حبست الدهشة الثائرة في عيني كما اعتدتُ، لم أكتب شيئاً. كأنني اقتنعت أن الراحلين لا يستحقون الكلمات، فهم لا يتركون لنا الأقلام لنروي حكاياتنا معهم، يسطون حتى على أحلامنا في منتصف الحرف ويجردونها المعنى والتفصيل.

عشت الحب معك لأول صدفة وانتهيت منه كآخر فرصة. أتعلم؟ ثمة حكايا لا نريدها أن تتكرر، وقصص مثيرة لا تصلح أن تُنشر. أخفيت كآبتي وأخذت أقرأ نصوصاً ظننتها تشبهني، في كل امرأة أجد نفسي، وفي كل قصة أُسقط تجربتي. لا شيء أرجوه الآن إلا أن أصالح ذاكرتي، وأتوقف عن مشاجرتي.

كنت بحاجة أن أضحك بطريقة عادية لكل نكتة أسمعها وأبكي بصدق لكل موقف حزين يمر بي كي أصدق أنني لا أزال أنا، كنت بحاجة لشجاعة كبيرة فأستمر في النظر إلى القمر الخجول متجاهلة أنه سيختفي في لحظة غربة قاسية.

لكن لم أفعل شيئا، غير أنني مرضت ومرضت ومرضت بحب ملتهب. حتى أصبحت في دقائق الهجر الأخير مكبوتة الألم، أخنق نفسي بجدران غرفتي وأقص خيبتي للحائط، للدمى المتناثرة، لأغطية الوقت، لوسائد الراحة، لكل ما يقابلني.

عشت حياتي مع أموات الماضي، وشاركتهم نقاشاتي السخيفة حول رأيي بثوب نجوى كرم في حفلها الأخير وغرابة الحديث في نصي هذا، شاركت الراحلين مائدة الطعام وسرير الأحلام ومجلات الأزياء.

عشت تناقضي بتميـــز فريد؛ ضحكت من كل العاشقات وكنت أكثرهن إيمانا به، بكيت من فرط كذبهم، وكنت أكذب على نفسي بحماقة، فرحت لشدة صدقهم وكنت الأصدق بينهم. سرت وحيدة تحت المطر وخلف الظلال، فوق التلال وتسلقت ببراعة الأشجار، لكن الطفولة الهاربة من قلبي لم ترجع مرة أخرى، وكحلٍ أخيرٍ علقت ثوب الأماني المبللة برجوعك على تنور الحنين، لتزداد نكرانا لي بقدر ما تجف.

عشت حياتي بطبيعية تشبه من حولي، ومارست جنوني منفردة بطريقة تشبهني وحدي. ومنعت الجميع، الجميع من رؤية أوراق قلبي تتساقط عند أول فصل فراق مر بي.

ما زلت في غيابك تلك الحمقاء التي لا يكفيها طول ذراعيها لتحتضن النسيان وتنام، ولا سعة كتفها لتحمل أحلامها منفردة، ولا حجم قلبها لتبدأ حكاية جديدة. ما زلت أغرق في زحام الكلمات وأحاول جاهدة إتقان ركوب أمواج الأبجديات.

أعلم أنك لا تقرأ ولا تتذكرني قط، وحدي ما زلت أعيش بقوت طيفك ونبيذ فرح اللقاء الأول، ما زلت ببساطة تلك العاشقة التي لا تحب قراءة خواتيم الروايات، بالخاصة إذا سمعت من أحدهم أنها نهاية حزينة.

ما زلت بعدكَ أستمتع بخلق قصص خرافية لا تصلح أن تكون حتى خيالا وأؤمن بها وحدي، ما زلت أنتظر وأنتظر وأنتظر عبثا، يوما سنكون فيه معا. يحلو الانتظار بكوب قهوة أنت الظاهر على وجهها، وتحلو الأحلام التي أنت بطلها.

= = = = =

(*) فنان جزائري

D 25 كانون الثاني (يناير) 2013     A راضية عشي     C 4 تعليقات

4 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 80: العدالة الاجتماعية ونهاية التاريخ

دعوات توحيد الفصحى والعامية

قراءة في قصّتين

إبراهيم يوسف: مبادرة تكريم