عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

محمد المزطوري - تونس

تعليم الشعر الجاهلي للناشئة


سبل تبليغ الشّعر الجاهلي للنّاشئة وحديثي العهد بمباشرته

محمد المزطوريI- التّقديم:

لعلّنا بعد أن تخطّينا مراحلَ في دراستنا الجامعيّة -نعتبرها- مهمّة، وبعد التعمّق في درس العربيّة أدبا ونحوا ولسانيّات وحضارة. تعود بنا ظروف التّدريس إلى تذكّر مشقّة السّعي وراء الظّفر بفهم –ولو جزئيّ- لشعرنا القديم، مشقّة وصعوبات فرضتها آنذاك عوامل مختلفة:

أهمّ هذه العوامل، قلّة اطّلاعنا على منابع الأدب وعيونه المأثورة الّتي تمثّل زخما ثقافيّا ولغويّا كبيرًا؛ إذ أنّ المنحى التّعليميّ الّذي تلقّينا به مكتسباتنا لم يضع في أذهانها أن لا غِنًى عن هذا المعين الّذي لا ينضب، نتلذّذ معانيَه في حالات الطّرب ونتفكّر فيه متى أردنا النّظر في التصوّرات الذّهنيّة الّتي حكمت الفكر والذّوق العربيّ في تلك الحقبة من الزّمن.
ذلك شأن والشّأن الآخر الإعراض الذّي يتولّد في ذواتنا عند سماع أبيات امرئ القيس فاتحة معلّقته تتردّد على مسامعنا [من الطّويل]:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل - - - بسِقط اللِّوى بين الدّخول فحَومل

فتُوضح فالمقراة لم يعفُ رسمها - - - لما نسجتها من جنوب وشمأل

فهذه الأبيات الّتي سمعنا لا تجد صدًى من أنفسنا ـ على نفاستهاـ إذ لا أحد منّا يفقه فحوى توضح أو المقراة ولا أحد يُدرك ما يعنيه استوقاف الصّحب وبكاء الأطلال، هذا إن أدركنا كنه الطّلل. فنحن كنّا ـ إلاّ القليل منّاـ نعزف عن مسك ديوان شعر خاصّة ممّا تقادم عهده، من أشعار الرّعيل الأوّل. كما أنّا في حياتنا اليوميّة لا نذكر إطلاقا كلاما من هذا القبيل. فإن كانت المسائل الّتي ندرس مرتبطة بالمبحث الحضاريّ؛ ربّما فقهنا شيئا وغابت عنّا أشياء لأنّ ما يَقوم عليه الدّرس الحضاريّ متعلّق إمّا باليومي المُعاش أو بالمجال السّياسيّ وكلاهما نتفاعل معه على قلّة إلمامنا بمسائله ومباحثه أمّا الشّعر والقديم خاصّة فهيهات أن تجد من يُدرك معانيَه أو يهزّه الطّرب إلى سماعه.

ولعلّ هذا ما جعلنا نهتمّ بالأدب الجاهليّ من جهة تدريسه وجعله مستساغا. وجَعْل الطلاّب يقبلون عليه للنّهل من منابعه ومحاولة استكشاف أسراره، في هذا البحث فسنقوم انطلاقا من محاولة تحقيق هذا الهدف؛ بالنّظر في مفهوم التقبّل وتعريفاته والنظريّات الّتي حدّته وقدّمت له تعريفا وفهما. كما سنعمل على تجلّي الصّعوبات من خلال بحث ميدانيّ نأخذ فيه المعلومة من الطلاّب في حدّ ذاتهم، نستفسر فيه عن الصّعوبات الّتي تواجه طالب السّنة الثّانية من التّعليم الثّانوي وهو يقبل على الاحتكاك للمرّة الأولى بهذا الشّعر القديم الّذي ربّما لم يسمع به إلاّ من كلام أستاذه في مستوى سابق.

وسنسعى إلى تقديم تصوّر بيداغوجيّ ومفهوميّ لطرق تبليغ هذا الشّعر الجاهليّ للطلاّب في هذه المرحلة. كما أنّ الهدف من هذا البحث دفع الامتعاض من الإقبال على قراءة أبيات الشّنفرى وغيره من شعراء التّأسيس في الشّعر العربيّ القديم والجاهليّ خصوصا.

II- متن البحث:

1- تعريف الشّعر الجاهلي وبيان قيمته سندا في بناء الحضارة العربيّة:

1-1: حدود المصطلحات:

أ- الشّعر: من شَعُر يشعُرُ أي أحسّ، وجاء في اللّسان: "شعر به: علم وأشعره الأمر وأشعره به: أعلمه إيّاه. والشّعر منظوم القول غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية وإن كان كلّ علم شعرا. وجمعه- أشعار- وقائله شاعر، لأنّه يشعر ما لا يشعر غيره أي: يعلم. وشعَر: قال الشّعرَ"[1].

لا يخفى على أحد ما للشّعر القديم من دور في تبيّن معالم الحضارة العربيّة خاصّة قبل الإسلام، إذ هو يبقى الشّاهد الوحيد تقريبا على هذه الحضارة الّتي كانت ذات بال، فالشّعر هو المعين الّذي لا ينضب يطالعنا كلّما نظرنا في بيت وتفكّرنا فيه وفي معانيه بمعنًى جديد أو بنمط من أنماط التّفكير أو طرق العيش الّتي وسمت تلك الفترة. فكانت قصائد عنترة مبرزة لقيم تلك الفترة مثل الفروسيّة والفتوّة الّتي نجدها أوضح مع الشّنفرى في قوله في لاميّة العرب الشّهيرة [من الطّويل]:

ولست بجبّإ أكهى مربّ بعرسه - - - يطالعها في شأنه كيف يفعل

كما مكّننا الشّعر الجاهليّ من فهم طبيعة العلاقات الاجتماعيّة والرّوابط الدمويّة والأسريّة والتّحالفات القبليّة. إذ أنّا نجد الشّعراء يعبّرون في شقّ كبير منهم على الولاء لقبائلهم ولاء خالصا مثل قول الشّاعر عَديّ بن زيد [من الطّويل]:

وما أنا إلاّ من غزيّة إن غوت - - - غويت وإن ترشد غزيّة أرشد

ذلك أنّ الانتماء القبليّ يمثّل محورا أساسيّا في حياة الجاهليّين، كما نجد توجّها آخرَ ينفصل عن الرّابطة القبليّة ؛وإن كان انفصاله غير إراديّ وغير دائم؛ ومن أمثلة ذلك قول الشّنفرى [من الطّويل]:

أقيموا بني أمّي صدور مطيّكم - - - فإنّي إلى قوم سواكم لأميل

كما يحيلنا شعر الرّعيل الأوّل من الجاهليّين على الأنظمة الاقتصاديّة الّتي يتعايش بها المجتمع الجاهليّ وهوما نجد تحليله مفصّلا في أطروحة أستاذنا مبروك المنّاعي كما نجد في القصائد التّي وصلتنا من تلك الفترة معادلات قيميّة يعيش الجاهليّون وفقها من ذلك مثلا تفضيل العرض والشّرف على المال وكنزه وهذا جليٌّ في قول عنترة [من الطّويل]:

وإذا شربت فإنّي مستهلك مالي - - - وعرضي وافر لم يُكلم

تصدر هذه المعادلات القيميّة عن واقع مخصوص تحكمه أنظمة تفكير تصدر عن البيئة الجاهليّة الصّحراويّة الّتي تتقاطع فيها خشونة الصّحراء وشظف العيش وغلظة السّلوكات وبطش الحرب برقّة الغزل متجسّدا في النّسيب، ألم يأتك قول الشّنفرى -الّذي عرف عند من يقرأ شعره قراءة المتصفّح لا المتفحّص بالحوشيّ من اللّفظ والغليظ من المعاني- في مقطع نسيب من أجود ما قيل في رأينا وألطفه [من الطّويل]:

تبيت بُعيد الصّبح تهدي غبوقها - - - لجاراتها إذا الهديّة قلَّــــتِ

أميمة لا يخزي نثاها حليـــــــــلــــها - - - إذا ذُكر النّسوان عفّت وجلّتِ

هذه نظرة مجملة وما هي بضافية لما يقدّمه الشّعر الجاهليّ من إفادات غاية في الأهميّة عن الحضارة العربيّة قبل الإسلام أدبا وأنماط عيش وعلاقات وطرق تفكير وعلوما. وهذا ما يجعلنا نقرّ بقيمته سندا يكاد يكون وحيدا لحضارة العرب قبل الإسلام.

1-2: ضرورة وجود الشّعر الجاهليّ في البرامج التّعليميّة:

من المؤكّد أنّ القائمين على برامج اللّغة العربيّة في المؤسّسات التّعليميّة يدركون ضرورة توفّر هذه البرامج على قسم يختصّ بتدريس الشّعر الجاهليّ باعتباره دعامة من دعامة الأدب العربيّ وسندا لحضارة العرب. تتأتّى هذه الضّرورة من كون الطلاّب مدعوّين إلى النّظر فيما قاله الجاهليّون الّذين يمثّلون الرّعيل الأوّل من أسلاف هذه الحضارة، إذ أنّ تركيبة ذهن أبناء هذه الحضارة لا تكتمل ما لم تخصّص قسما منها يتأسّس على معرفة هذا الشّعر وأركانه وقواعده من مثل عمود الشّعر والبنية النّموذجيّة للقصيدة الجاهليّة ونظام التّقفية والعروض فيه.

كما أنّهم مدعوّون إلى تمثّل معانيه الّتي نستخلصها عند دراسة القصائد القديمة تحليلا وتأويلا. فالشّعر الجاهليّ يمثّل جانبا من تكوين الطلّاب من جهة اللّغة المتينة الّتي نُحت منها قواعدَ وتراكيب وأساليب مثل الإضمار والتّقديم والتّأخير من ذلك قول أبي ذُؤيب في مرثيته الشّهيرة [من الكامل]:

قالت أميمة ما لجسمك شاحبا - - - منذ ابتليت ومثل مالك ينفع

فأجبتها: أمّا لجسمي إنّــــــه - - - أودى بنيَّ من البلاد فودّعوا

ومن جهة الصّور الشّعريّة القائمة على استعارات بليغة وتمثيلات بديعة من ذلك قول عبدة بن الطّبيب من المفضّليّات:

كلّ هذه الاستعمالات تتيح للطّالب التمكّن من لغته كما نجد الإفادة في المعاني الّتي تؤدّيها قصائد الجاهليّين فتزرع في الطّالب قيما أصيلة صارت بحكم التحوّلات الّتي تشهدها مجتمعاتنا غريبة عنه لا يجدها إلاّ بين صفحات هذه الدّواوين وكتب المختارات من مثل الجمهرة والمفضّليّات والأصمعيّات. حتّى أنّا نجد حديثا عن الرّسول أّنه قال: علّموا أبنائكم لاميّة العرب فهي تحضّ على مكارم الأخلاق وهو يقدّم نموذجا يذكي في القارئ العربيّ جذوة البطولة والافتخار بتاريخه الزّاخر بالبطولات الّتي عاشها القدامى ورووها حكايات في أشعارهم.

وهذه القصائد تخاطب وجدان القارئ فيطرب لسماعها ويجد فيها متنفّسا يساعده في بناء ذات متوازنة تمتح من هذا المعين المتقادم عهده وتعلمّه نمطا من القيم ليس غريبا عنه في الأصل لولا بعد الشقّة بينهما وطول الأمد، كما أنّ التّعامل مع هذا الشّعر يجعل الطّالب متمرّسا بسنن الكتابة إذ يفيد ممّا تعلّمه من أدوات التّحليل فيُجريها في متن هذه الأشعار حتّى يبلغ ضالّته من تأويلها بعد فكّ رموزها مستنيرا بمناهج التّحليل الّتي يتعلّمها. ومن هذا المنطلق نتبيّن قيمة هذه الأشعار باعتبارها تكوّن مجتمعة منظومة تربويّة ومرجعا أخلاقيّا واجتماعيّا وثقافيّا لا غنى للطّالب عنه متى كان من أهل العربيّة خاصّة.

كما يمثّل درس الشّعر الجاهليّ في المرحلة الثّانويّة ضرورة بيداغوجيّة، إذ أنّ دارس الآداب العربيّة خاصّة والآداب عامّة يحتاج هذا الشّعر في مراحل الدّراسة الجامعيّة إذ أنّ طلاّب العربيّة لا مندوحة لهم عن الإلمام بهذا الأسّ من أسس الآداب العربيّة، كما يحتاجه طلاّب الإنجليزية والفرنسيّة عندما يختصّون في الأدب المقارن، لذا وجب أن يكون للطّالب معرفة وإن جزئيّة بهذا الشّعر بأن يعرف عيون الشّعر القديم من مثل المعلّقات.

ولذلك فالتمشّي المنهجيّ البيداغوجيّ السّليم يفرض إدراج قصائد الجاهليّين ضمن برامج الأدب العربيّ في التّعليم الثّانويّ، ولعلّ إدراجه في برنامج السّنة الثّانيّة بعد أن كان على أيّامنا في برنامج السّنة الأولى يرتكز على أساس بيداغوجيّ قوامه تعويد الطّالب في السّنة الأولى على التّعامل مع القصائد القديمة في صورتها البسيطة بنية وتراكيبَ ومعجما وصورا شعريّة من خلال نماذج أشعار جميل بن معمر وقيس بن الملوّح وقصائد عمر بن أبي ربيعة الّتي لا تخلو من بعض سمات الجاهليّين؛ هذا ما يجعل الطّالب يصافح الشّعر القديم مصافحة أولى لا تفزعه ولا تجعله يعزف عنه فتجده في السّنة الثّانية وقد تعوّد بعض مياسم هذا الشّعر الّذي يسمع عنه وتجده لهفا على مباشرته قراءة وتحليلا، خاصّة وقد أصاب بعض مظاهر التخصّص في مسلك الآداب فيحزّ في نفسه أن يكون جاهلا بتعاليم هذا الكون الشّعريّ غير حافظ لبعض آثاره على الأقلّ، سيما وأنّ هذا الشّعر الجاهليّ بوّابة الأدب في هذا المستوى والجرف الّذي منه يشرف على باقي نصوص الأدب العربيّ وأجناسه وتجده مولعا بمعرفة أسسه من عمود وبنية نموذجيّة رغم ما يبقى ستارا دونه والإلمامَ بهذا الجنس الأدبيّ وفقه أسراره. هذا السّتار الّذي تشكّله الصّعوبات الّتي يعترضها قارئ الشّعر الجاهليّ ومن يهمّ بتحليل قصائده ومحاولة الكشف عمّا تبطنه.

2- الصّعوبات الّتي يطرحها التّعامل مع الشّعر الجاهليّ في المرحلة الأولى لتعرّفه:

إشكاليّات التلقّي:

من المهمّ أن نذكّر في هذا الموضع بما قاله الجاحظ في كتابه "البيان والتّبيين" عن ضرورة مراعاة أحوال السّامع بمعنى أنّ كلّ خطاب يُقال ليجد قبولا إن عند كلّ القرّاء على اختلاف أنواعهم وميولاتهم وقد عزّ هذا مطلوبا إذا طُلب، أو عند رهط قليل منهم لأنّ الكتابة في درجاتها الثّانية والثّالثة مثلما يرى النصّانيّون الغربيّون بقيادة رولان بارط تتكشّف أسرارها عند القارئ من تلك الدّرجة إن كان قارئا بسيطا أو محلّلا أو مأوّلا، وبذا فإنّ مسألة التلقّي تمثّل عنصرا رئيسيّا في عمليّة الكتابة والإنتاج، وهي ضرورة بيداغوجيّة تراعى فيها مقاييس عدّة وتضبط وفق مناهج تعليميّة دقيقة كي تتحقّق الإفادة والغاية القصوى من إدراج أيّ نصّ في برنامج تعليميّ.

ولكنّ النّصوص التّي تكون بعيدة الشقّة عن قارئيها تطرح إشكالات عدّة في مستوى التقبّل، إذ نجد أنواعا من الصّعوبات في مستوى القراءة والتقبّل عند التّعامل مع الشّعر الجاهليّ مطيّة بحثنا مثلا. فالتمثّل الذّهنيّ للصّور الشّعريّة وتحليل هذه الصّورة وفكّ رموزها واستخراج مقوّماتها وروافدها وتبيّن دلالاتها لا يتأتّى إلاّ بعد فعل التذوّق الّذي يتبع فعل القراءة.

وتبعا لذلك فإنّ كلّ محاولة لقراءة نصوص من الشّعر القديم، لا يعدُّ لها بزاد لغويّ ودراية واسعتين بتعاليم هذا الشّعر إن صحّ التّعبير، من الصّعب إن لم يكن مستحيلا نجاحها. لأنّ القارئ الذّي لا يفقه خبايا الكتابة وعذاباتها عند شعراء الرّعيل الأوّل وقصّة الأطلال ومكانتها عندهم ومفهوم الفتوّة والبطولة وقيم الجاهليّين بصفة عامّة لا يتمكّن من إدراك مغزى أقوالهم.

وعشق هذا الشّعر ضرورة في فهمه واستساغة معانيه لكنّ هذا العشق لا يكون إلاّ بعد تدبّر مسألة الفهم الّتي تتطلّب ما ذكرنا من شروط ينبغي استيفاؤها لحصول المقصود من عمليّة التّعامل مع قصائد الجاهليّين.

كلّ ما ذكرنا يؤكّد ضرورة التّعامل بتمشٍّ بيداغوجيّ يراعي خصوصيّة المتقبلّ وحاجاته ومتطلّبات عمليّة الفهم عنده. وهوما يفترض تبيّن الطّرق الّتي يستعين بها الطّالب عندما يتفكّر في هذا الشّعر وينظر في قصائد عنترة وأبي ذؤيب ولاميّة الشّنفرى وصور عبدة بن الطّبيب.

وقد سعينا فيما يلي من بحثنا إلى تقديم تصوّر لطريقة من طرق تبليغ هذه الشّعر وجعله محلّ اهتمام من قِبَل الطلّاب لعلّها تكون ناجعة يفيد منها طلبتنا وزملاؤنا متى أرادوا تقريب هذه النّصوص من القارئ المبتدئ للأدب القديم في شكل نصوصه الشّعريّة وقد رأينا أن نجعل مسألة التّبليغ مبوّبة إلى مداخل رأيناها فاعلة في التّعامل مع ظاهرة العزوف عن قراءة ما تقادم عهده من قصائد الجاهليّين.

3-1: نظريّات التلقّي وإفادتها في المساعدة على فعل التّبليغ:

لعلّ أهمّ ما يمكن البداية به في هذا القسم من البحث هو الحديث عن نظريّات التلقيّ باعتبارها مدخلا لفهم طريقة التّعامل مع المتقبّل للظّاهرة الأدبيّة لأنّ هذه النظريّات تقوم على تبيّن الاستعدادات المختلفة للقارئ لتقبّل منتج أدبيّ مّا وتضع في اعتبارها التّكوين النّفسيّ واللّغويّ والذّوقي للمتقبلّ كما لا تهمل الانتماء الثّقافي والعصر الّذي يعيشه والملكات الّتي يتوفّر عليها. ولعلّ أهمّ هذه النظريّات المرتبطة بالتلقّي نظريّة الألماني هانس روبرت ياوس الّتي صاغها في كتابه "جماليّة التلقّي"[2].

قامت هذه النظريّة في أوّل مبادئها على ردّ الاعتبار للقارئ باعتباره عنصرا مشاركا في الفعل الأدبيّ وباعتباره منتجا للمعنى والمسؤول الأوّل على تحديد جودة النصّ من عدمها باعتبار الجودة في النّصوص الأدبيّة تحدّد انطلاقا من مقاييسَ مختلفة لا يمكن ضبطها في قانون موحّد كما لا يعني ذلك تركها متاحة لكلّ من تعنّ له نفسه التّفسير دونما ضوابط تحدّد فعل القراءة وتحدّه في إطار شروط عامّة مشتركة.

وعلى هذا الأساس فالمتقبّل عنصر فاعل في العمليّة الإبداعيّة، ولعلّ الكاتب والشّاعر لم يقصيا هذا القارئ ولكنّ مناهج الدّراسات الأدبيّة الّتي تتّجه إلى البنيويّة قامت بفعل الإقصاء عن قصد أودون قصد. وبناء على اعتباره عنصرا أساسا في صناعة الأدب؛ باعتبار القراءة فعلا متمّما لفعل الكتابة؛ فإنّ هذا القارئ ينبغي أن يكون محلّ اهتمام من الباحثين فليس من وجود لقارئ مدرك لكلّ تشكيلات الفعل الإبداعيّ وملامحه لغة وتراكيبَ وصورا شعريّة ومعانيَ مبثوثة في النّصوص الّتي تهمّنا منها في هذا الموضع النّصوص الأدبيّة إدراكا منذ النّشأة لأنّ هذه الملكة تؤخذ بالاكتساب.

وقد اهتمّت نظريّات التلقّي بهذا القارئ فبحثت في علل عدم الفهم والعزوف عن قراءة بعض الأضرب من النّصوص مثل القصائد الجاهليّة في الأدب العربيّ الّتي كما سبِق أن بيّنا لا تحظى بإقبال جمهور القرّاء.

لكنّ اعتبارا للنّص على أنّه "أكثر من مجرّد خطاب أو قول. إذ أنّه موضوع لعديد من الممارسات السيميولوجيّة الّتي يُعتدّ بها على أساس أنّها ظاهرة عبر لغويّة[3]". كما ترى الباحثة جوليا كريستيفا، يفي بجعل القارئ مركز اهتمام جوهريّا إذ أنّه هومن يفكّك هذه الأبنية اللّغويّة انطلاقا من مكتسباته، لكن يبقى من الواجب البحث عن السّبل الكفيلة بجعل القارئ يقبل على قراءة هذه النّصوص ودراستها، لأنّ القارئ يجد صعوبات يمكن تذليلها من قبل الباحثين في هذا المجال الّذي يعنى بترغيب القارئ في ممارسة هذه النّصوص ومُدارستها ولعلّ نظريّات التلقّي قدّمت تصوّرات من شأنها تيسير السبيل من أجل أن يمكّن القارئ المبتدأ من تبيّن مظانّ هذه النّصوص.

تتمثّل وظيفة هذه المداخل في رفع اللّبس أمام القارئ لجعله يقبل على هذه النّصوص إقبال الرّاغب في معرفة كوامنها والأسرار الّتي تخفي، فيزول الضّجر بداية ثمّ ينتقل هذا القارئ إلى درجة أخرى من درجات القراءة فهذه المداخل تعنى بالقارئ خاصّة لمّا يكون في الدّرجة الصّفر من القراءة أي عندما يكون غير راغب في ممارسة فعل القراءة لإحساس بالعجز عن إدراك اللذّة في النّصوص الّتي يقرأ. ويتحوّل انطلاقا ممّا يخضع له من متابعة إلى تعوّد مثل هذه النّصوص والرّغبة في مدارستِها كي يظفر بالمعنى فيها ويدرك بذلك أسس الكتابة في الشّعر الجاهليّ وما تقوم عليه من قواعد تحدّد جماليّتها. فالمداخل الّتي نتحدّث عنها تُعنى بالقارئ من الجوانب الّتي تهمّ القراءة والتقبّل والفهم تقبّلا ذوقيّا شعوريّا من جهة وتقبّلا منهجيّا وأكاديميّا من جهة أخرى.

3-2:المداخل إلى تبليغ الشّعر الجاهليّ:

لقد أثبتت الأبحاث المتعلّقة بالإنسان في مستوى التّركيبة الذّهنيّة الّتي يقوم عليها الدّماغ أنّه ليس مجرّد جهاز عصبيّ مسؤول عن وظائفَ في الجسم بل هو توليفة من الأربطة العصبيّة ومخزّن للتصوّرات الذّهنيّة لهذا العالم كما يراها الإنسان متأثّرة بعوامل نفسيّة وجينيّة تحدّد طريقة رؤيته هذا العالم وطريقة تعامله مع الأشياء المحيطة به. وقد أطلق عليه اسم العرفان وهو كلّ هذه العناصر المشكّلة للذّهن البشريّ، وقد أصبح علماء اللّسان اليوم يهتمّون بالعرفان في إطار ما يُعرف بالعرفانيّات[4].

والعرفانيّات علم يدرس اللّغة انطلاقا من المكوّن الّذي ينتجها وهو الذّهن، والمقصود بالذّهن كلّ التّراكمات الثّقافيّة والطّبيعيّة الّتي يتشكّل من خلالها دماغ الإنسان من عناصر فيزيائيّة وخلايا عصبيّة ومكوّنات ثقافيّة ونفسيّة يتأثّر بها هذا الذّهن. ولذلك فالمداخل الّتي يمكن عبرها أن نجعل القارئ يُقبل على قراءة نوع محدّد من الأدب تتنزّل في هذا الإطار، إذ أنّ الإنسان عبارة عن مجموعة متداخلة من هذه العناصر تنشأ بينها علاقات تحدّد طبيعة الاختيارات ومقاييسها ودرجات التقبّل والرّفض وعوامله ومن المداخل إلى ذهن الإنسان:

أ- المدخل النّفسيّ:

لعلّ أهمّ المداخل الّتي تمكّن الأستاذ من تقريب الشّعر الجاهليّ بقصائده الّتي تبدو محلّ إنكار وجزع من قبل الطلاّب في القراءة الأولى هو المدخل النّفسيّ، إذ أنّ العزوف في أصله سلوك تبديه النّفس قبل التّفكير ويكون بموجبه الطّالب معرضا عن تناول هذه القصائد حتّى لمجرّد الفضول. هذا الفضول الّذي يمثّل في العادة سمة من سمات الشّاب المراهق يغيب عند ما يتعلّق الأمر بالاطّلاع على قصائد الجاهليّين، لأنّ خروج نمط هذه القصائد عن الدّائرة الذّوقيّة لهؤلاء الطلاّب يحول دون إقبالهم على قراءتها والنّظر فيها فيكون حكمهم عليها حكما أوّليّا.

ولذلك وجبت معالجة هذا الإشكال انطلاقا من المعطيات النّفسيّة بادئ ذي بدء. فعلم النّفس السّلوكي[5] يقدّم حلاّ لمثل هذه المظاهر من السّلوك إذ ينطلق هذا العلم من تشخيص الحالة الإنسانيّة انطلاقا من السّلوك الظّاهريّ لتحليل الشّخصيّة وتأويل الدّواخل النّفسيّة للإنسان باعتبار العلاقة بين السّلوك الظّاهريّ ونفسيّة الإنسان وما يحكمها من ضوابط وقواعد منها ما هو ثابت ومنها المتغيّر وهو كثير ناشئ عن تأثّر الإنسان بعوامل جينيّة وراثيّة وعوامل ثقافيّة مكتسبة اكتسابا.

ويمكن بذلك تحديد رغبات الإنسان وما يرغب عنه من أمور حتّى يتسنّى لمن يقدّم المادّة المعرفيّة التّعامل مع هذه الشّخصيّات الطلاّبيّة وفق مقتضيات الحاجة الّتي يبدونها لقبول مثل هذا النّوع من النّصوص والإقبال عليه، فتكون طريقة التّرغيب مبنيّة على أسس محدّدة تجعل حاجات الشّخصيّة المتقبّلة وميولاتها النفسيّة منطلقا للعمليّة التربويّة.

ولكنّ نجاح مثل هذه العمليّة يبقى نسبيّا إذا ما اعتبرنا الاختلافات الحاصلة بين المكوّنات النّفسيّة لشخصيّة كلّ طالب فبالنّسبة إلى القصائد الجاهليّة القديمة القائمة على تصوير شظف العيش وتتغنّى بقيم صحراويّة بدويّة فهي تلقى قبولا حسنا من قبل الطلّاب المنتمين إلى بيئة صحراويّة بدويّة إذ أنّهم يجدون فيها بعضا من نمط حياتهم خاصّة إذا ما كانوا قد ابتعدوا عن موطن نشأتهم.

كما يمكن أن تلقى هذه المعاني المبثوثة في القصائد القديمة صدًى عند أبناء الحاضرة لأنّهم طالما سمعوا بعيش البادية المليء بالعفويّة والقيم المفقودة في واقعهم فيرغبوا في التعرّف إليها عبر هذه النّصوص الّتي تقدّمها في صورة فنيّة راقية. كما أنّ السّعي إلى بعث الحنين إلى قيم ومظاهر سلوك ولّت بالنّسبة إلى العرب يمكن أن يمثّل مدخلا لدفع القرّاء من الطّلاب المبتدئين يقبلون على قراءة قصائد الجاهليّين باعتبارها مختزلة لهذه القيم.

وانطلاقا من هذه الوسائل يمكن للمدرّس دفع الطلاّب إلى الإقبال على دراسة القصائد الجاهليّة فالمرحلة الأولى تمثّل مرحلة التّأهيل النّفسيّ وهي المرتبطة بتهيئة نفسيّة المتقبّل والسّعي إلى حمله على القراءة دون أن يشعر بالضّجر والتكلّف، أمّا وقد أنجزت هذه المرحلة بنجاح فالمراحل المتبقيّة من مثل تناول القصائد بالشّرح والتّحليل وتفكيك مكوّناتها النصيّة واللّغويّة لبلوغ الدّلالة تعدّ أيسر لأنّ مثل هذه العمليّات الذّهنيّة تكون ناجعة متى أرفقت بمتعة القراءة والتذوّق الفنيّ الّذي يرصده القارئ لما يقرأ.

ولكن رغم الأهميّة الّتي نجدها في هذا المدخل إلاّ أنّه يبقى عاجزا عن الإيفاء بحاجيات التّبليغ فنجد ضروريّا البحث عن مدخل آخر لا يبطل ما أفادنا به المدخل النّفسيّ، ولعلّ أقرب المداخل لإدراك كيفيّة التّبليغ بالنّسبة إلى الطلاّب، المدخل المرتبط بدراسة الذّهن وتشكّلاته باعتباره مجموعة من التّوليفات العصبيّة والأنسجة المتحكّمة في الإدراك والّتي تتأثّر بالعوامل الخارجيّة[6]. هذه المباحث يفيدنا بها الدّرس اللّسانيّ في فرع العرفانيّات.

ب- المدخل العرفاني:

لعلّ دراسة تركيبة الذّهن من أعقد الأمور خاصّة عندما ما يتعلّق الأمر بتحليل نتيجة العمل الذّهنيّ وتحديد العناصر المسؤولة عن الإدراك. ولكنّ هذه الصّعوبات تهون إذا أدركنا قيمة النّتائج الّتي يقدّم. وقد أفاد الدّرس اللّسانيّ من هذه النّتائج في مستوى فرع العرفانيّات خاصّة، فكان أن درسَ التّأثيرات الّتي يتعرّض لها الذّهن البشريّ عند القيام بعمليّات التقبّل والفهم وإنتاج المعرفة تحليلا وفهما وتأويلا.

ونحن نهتمّ بهذا المجال لنجد مدخلا يسهّل عمليّة تقبّل القصائد بالنّسبة إلى الطلاّب من جهة الإدراك الذّهنيّ أي من طريق فهم العمليّات الذّهنيّة الّتي تحصل في ذهن الطّالب عند سماع إحدى القصائد القديمة. فنلحظُ أنّ هذه العمليّة محفوفة بمخاطر تتمثّل في الرّفض الآنيّ لهذه القصائد لأنّها لا تتماشى والبنيةَ الذّهنيّةَ للطّالب المبتدئ في درس الشّعر القديم. ينبغي إذّاك مراعاة التّكوين الذّوقيّ الّذي يتحكّم في مدى تقبّل الدّارس لمثل هذا النّوع من القصائد، فلا نتعسّف عليه في مطالبته بالقبول والإقبال المباشر والآنيّ لهذا الفرع من الأدب ما دامت ذائقته الفنيّة لم تتعوّده بعد.

ونفهم انطلاقا من ذلك أنّ المتقبّل محكوم بكيفيّة تشكّل عرفانه أي التّركيبة الذّهنيّة الّتي يشتمل عليها وينبغي حينها تحديد معالم هذه الذّهنيّة وضبط التصوّرات الّتي تنحكم إليها بمعرفة المؤثّرات الّتي تفعل في الذّهن البشريّ وتسهم في تكوين ملكته التصوّريّة. فالعرفان البشريّ اليوم -عدا القلّة- أعلق بالتصوّر الجاهز للثّقافة، ثقافة السّرعة والإيقاع المتسارع النّامي باستمرار وهولا يولي أهميّة للتّحليلات الطّويلة المتأمّلة والمعمّقة [7] بل يضيق بها ذرعا لذا ينبغي اعتماد وسائط لتقريب مثل هذا النّمط من التّحليلات إليه. وهذا ما يفضي بنا إلى المدخل الأخير من المداخل الّتي اخترنا لتسهيل تقبّل الطلاّب في المرحلة الّتي حدّدنا لقصائد الرّعيل الأوّل من الجاهليّينَ.

ج- المدخل البيداغوجيّ:

وهو المدخل الأخير الّذي اخترنا لتبيّن كيفيّات تبليغ طرائق الشّرح لقصائد الشّعر الجاهليّ وإدراك معانيه وتقريبه من ذائقة الطلاّب وأوّل هذه المراحل تجنّب التّعامل مع هذا الفرع من فروع الأدب كغيره من الفروع الأخرى لأنّ له خصوصيّات على الطّالب إدراكها حتّى إن لم يفهمها بداية وتفيدنا في ذلك أبحاث جون بياجي الباحث في علم النّفس التّربوي. فأبرز ما يميّز الشّعر الجاهليّ أنّه-كما سبِق وقلنا في بداية البحث-مبحث جديد على الطلاّب، كما أنّه يشتمل على صعوبات أسلوبيّة ومضمونيّة ذكرنا أهمّها في معرض حديثنا عن صعوبات التلقّي.

ومن جهة أخرى فإنّ الدّرس الأدبيّ متى تعلّق بقديم الشّعر صار معقّدا لمن لم يطّلع على النظريّة النقديّة عند العرب القدامى والمحدثين من أمثال ابن قتيبة والأصمعيّ وطه حسين وإحسان عبّاس وتوفيق فهد وغيرهم، وهذا على المبتدئين عزيزٌ. لذا وجب التّعامل بطريقة مخصوصة مع من يطّلع على هذا الشّعر لأوّل مرّة.

ومن أمثلة هذا التّعامل المخصوص محاولة تقريب القصائد الجاهليّة من الطلاّب في مستوى نفسيّ في البداية، كأن نبيّن للطلاّب أنّ الشّعر الجاهليّ يتغنّى بقيم عربيّة نفتقدها في واقعنا، وأنّه يقدّم نمط عيش العرب في فترة محدّدة شديدة القدم فيرغب أغلبهم في التعرّف إلى هذه المرحلة الغامضة بالنّسبة إليهم من تاريخ الأمّة العربيّة ويسعون إلى إماطة اللّثام عن وجه من أصبح وجوه الإبداع في تاريخ حضارة العرب قبل الإسلام.

كما يمكن أن نطلب من الطلاّب حفظ بعض المقاطع من القصائد ممّا يجسّد المدخل الطّلليّ أو أيّ قسم من أقسام البنية الثّلاثيّة للنّصوص الجاهليّة والتّنافس في ذلك حتّى يتعوّدوا قراءة الشّعر وحفظه لعلّهم ينصرفون إلى تدبّر معانيه وأسراره، فهم عندما يحفظون –أحيانا دون فهم تامّ- بعض الأبيات تتولّد عندهم الرّغبة في التعرّف إلى المعاني الكامنة وراء ما يرسم الشّعراء من صور في أبياتهم.

وقد جرّبنا ذلك بطلب التعرّف إلى النصّ الأشهر من قصائد الجاهلييّن- في نظرنا ونظر غيرنا- وهو نصّ لاميّة العرب للشّنفرى الأزديّ. وكانت النّتيجة تساؤلات عديدة عن معاني الصّور الّتي يرسم الشّنفرى ومدلولاتها وسبب اختيار هذه العبارات وهذه الأساليب والصّور الشّعريّة من الغريب المتروك من لفظ وتركيب وأسلوب دون غيرها، حتّى أنّ البعض ذهب إلى مخالفة الشّاعر قواعدَ العربيّة وسننها ومحدّدات الصّورة.

والغاية من كلّ هذا إثارة السّؤال الّذي يولّد اهتماما بالدّرس لا يتأتّى من التّعامل معه كغيره من دروس العربيّة، فالسّؤال مولّد حيرة وباعث اهتمام ومثير موقف-لا يهمّ إن كان مع أو ضدّ الشّعر الجاهليّ- فهو غالبا ما ينتهي إلى الولع بهذا الشّعر بعد هجره.

أمّا في مستوى التّحليل فما نراه أفيد وأقرب إلى ذهن الطّالب هو تقديم الدّرس في شكل دراسة لأشكال الكتابة وأساليبها ومعجمها، كلّ فريق في القسم يقوم بمبحث لنبلغ الدّلالة، وتكون الأعمال مقسّمة إلى مستوياتٍ؛ منها المستوى الإيقاعيّ والمعجميّ والتّركيبيّ الأسلوبيّ والبلاغيّ المتعلّق بطرق تشكيل الصّورة ونستنتج الدّلالة بالتّوازي مع دراسة كلّ مستوى.

ونتمّ العمل بتحديد ملمح من ملامح النّظريّة الأدبيّة في كلّ نصّ حسب كثافة حضور هذا المبحث في النصّ كالبنية الثّلاثيّة ومبحث الأغراض... كما نرى ضروريّا جعل الطلاّب لا يشعرون بسطوة الواجب عندما يقومون بتحليل للقصائد وتفكيكها بل نرى جيّدا جعلهم يقومون بذلك بدافع الاكتشاف وإنارة السّبيل ليحدّدوا هدفا يبلغونه ربّما كان معرفة خبايا الكتابة الشّعريّة في تلك الفترة.

وخلاصة القول أنّ المدخل الأساس لجعل الطّالب يقبل على دراسة القصائد الجاهليّة هو تعلّقه بهذا الشّعر حتّى يعتكف بعضهم لبعض الشّعراء ويلازمونهم، وقد شعرنا بجدوى هذا الأسلوب في التّبليغ عندما صار الطلاّب يدافعون باستماتة وبالحجّة العلميّة تارة والعاطفة الثّائرة طورا أثناء مناظرات لتحديد الأبلغ من الشّعراء والأبدع من القصائد. كلّ يحتجّ لصاحبه كما كان الحال عند القدامى.

III- الخاتمة:

لقد اخترنا مجموعة من المداخل أهمّها المدخل النّفسيّ باعتبار وعي الطّالب نسيجا من التّوليفات النّفسيّة الّتي يواجه بها كلّ جديد عليه. ثمّ تعرّضنا إلى المدخل العرفانيّ الّذي يقدّم لنا كيفيّة تفاعل القارئ في مستوى العمليّات الذّهنيّة الّتي يقوم بها عند التعرّض للقصائد القديمة بالدّرس ومحاولة تمثّل عالمها والكون الشّعريّ الّذي تدور في فلكه.

كما قدّمنا لمدخل شديد التعلّق بالتّلقيّ والتّبليغ وهو المدخل البيداغوجيّ القائم على الوسائل المعتمدة والوسائط البينيّة الّتي يمكن أن نعتمد لإيصال الفهم للطلاّب. وبذا نكون حاولنا الإحاطة بما يعكّر صفو الطلاّب ويجعلهم لاهين عن الاطّلاع على عيون الأدب العربيّ في منابعه الأولى "الشّعر الجاهليّ".

= = = = =

الهوامش:

(1) ابن منظور: لسان العرب مادّة "شعر".

(2) Hans Robert Jauss : Pour une ésthétique de la reception
 
(3) بين اللغات: Interlinguistique

(4) هي ترجمة عرفان بالإنجليزيّة (cognition).

(5) السلوكية (Behaviourism). علم يدرس الجانب النّفسيّ للإنسان بتحليل سلوكه الظّاهر، وأبرز أعلامه واطسون.

(6) تفيدنا بهذا، الأبحاث المندرجة ضمن علم الأعصاب والأنسجة والخلايا الذّهنيّة، وهي ممّا يفيد في درس اللّسانيات.

(7) Jean Piaget

D 25 شباط (فبراير) 2013     A محمد المزطوري     C 2 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • شكراً على مجهودك الكبير أستاذ محمد، واسمح أن أبدي بتواضع رأيي في ما تفضّلت.

    جميل أن نحافظ على تراثنا وأن نحثّ الطلّاب على التّعرّف إليه، إلّا أنّني أجد اليوم أنّنا بحاجة إلى أن ندهش القارئ عامّة والطّالب خصوصاً، ليس بنظم جيّد وقوافٍ متميّزة ومعان فخمة وحسب، وإنّما بكلمات تتسرّب إلى أرواحهم فتحرّكها وتدفعها الى أن تنتفض على ذاتها، فالشّعر أبعد من نظم وقوافٍ. الشّعر هو وحي ينسكب في قلب الشّاعر فيقلب كيانه كلّه، وما إن يبث الكلمة حتّى يلامس بها قلب القارئ ، فيستفزّه للبحث عن المزيد ليغذي روحه.
    قد أشبّه الشّعر بنبع ماء لا ينضب، يأتي إليه القارئ لينهل من روح الكلمة ولا يرتوي، فيبقى مجاوراً للنّبع أبداً.

    تقبّل مروري أستاذي
    خالص محبتي وتقديري


    • شكرا على الملاحظات القيّمة.. كما يقول جبران وتصديقا لقولك: الشّاعر من يسكب نور الأحداق في ظلمة اللّيل.. من دمعة وابتسامة. لكنّ للشّعر الجاهلي رونقا لا يعادله رونق جماليا وفنيّا ودلاليّا طبعا ولا أراه قاصرا عن التّعبير عن شواغلنا المعاصرة. رغم التقدير الّذي أحملة لشعرائنا الجدد مثل السيّاب في أنشودة المطر. من ناحية ثانية العمل الّذي قدّمت هو محاولة للوقوف على إشكاليات تعرّضت إليها وأنا أدرّس الطلاّب الشّعر الجاهلي.. شكرا مرّة ثانية.

في العدد نفسه

عن مبدع الغلاف

كلمة العدد 81: الفيلم الصامت والنشر الورقي

تأثر العبرية بالعربية

تأثير الشخصيات الكرتونية على الأطفال

اللغة العربية وخطر الانقراض