عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

محمد محمود التميمي - الأردن

الركض تحت المطر


محمد التميميالركض تحت المطر

تناول معطفه الجلدي وانطلق خارجاً. كان الجو بارداً وماطراً وهذا ما دفعه للخروج من غرفته ذات الهواء السميك. أراد أن يحرك ما تراكم في صدره من أنفاس لعله يجدد نشاطه ويدخل قليلاً من السعادة على نفسه.

تمشى قليلاً والأمطار تتساقط بهدوء على رأسه وكتفيه. لم يمنعه ذلك من متابعة المسير وواصل السير حتى استوقفه مشهدٌ هز كيانه، مشهدٌ تمنى لو انه يحدث معه مرةً على الأقل في حياته، مشهد أثار عاطفته وشجونه وحنينه وشوقه.

كانت جميلة شقراء، ليس بجمال حبيبته التي تركها خلفه في الوطن، ويأتي هنا لسببٍ يتعبه التفكير فيه: "هل يستحق فعلاً ما نقدمه له من مال ودمعٍ ودم؟" فكَّر كثيراً حتى أعياه الجواب دون أن يأتي، فتركه ليفكر في اليوم الذي سيغادر فيه عائداً إلى وطنه.

كانت الشقراء تختبئ من قطرات المطر تحت جناح ذلك الرجل المعتد بنفسه، كأنما هو عنترة يحمي عبلة من سهامٍ ورماحٍ غادرة.

منظر كهذا كان كفيلاً أن يؤجج نار الشوق في صدره ويسعِّر جمر الحب في قلبه، همس متسائلاً: "يا ترى هل سيأتي اليوم الذي أضع فيه صغيرتي تحت معطفي خوفاً عليها من المطر؟ أم سنمشي تحته كما في الأفلام الرومانسية؟" وأضاف بعدما أنتعش خياله بهذه الصور: "بل سنركض تحت المطر، نعم سنركض معاً تحته حتى تبتل أرواحنا قبل أجسادنا، ونبكي فرحاً على لقاءٍ لطالما انتظرناه وتختلط الدموع بالأمطار فكلها طاهرة تنقي القلوب مما علق بها من ألم الفراق، وتطفئ بها لهيب الشوق من بعد المحبوب".

ترك الشقراء ورفيقها خلفه ومضى في طريقه، غير مساره فجأة، واتجه نحو موقف الحافلة واستظل بها من المطر.

صعد الحافلة، وجلس بجانب النافذة وبطرف قميصه مسحها وأطل على الشارع الذي سكنه المطر والليل، وشاهد الشقراء مرةً أخرى وقد التصقت أكثر برفيقها. ابتسم وألقى بنفسه على الكرسي وقال مخاطباً إياها: "لهذا السبب ركبت الحافلة. فالمطر دون الحبيبة لا يجب أن يلامس الجسد أو الروح".

وجوه

لم يستطع النوم. بقي يتقلب في فراشه حتى ضجر. "لعلي أكثرت من شرب القهوة، أو طالت قيلولتي أكثر مما يجب. ماذا عساه يكون سبب هذا القلق؟"

في الحقيقة لم يشرب قهوة أكثر من المعتاد، وقيلولته القصيرة لا تكاد تذكر. كان السبب الحقيقي وراء ذلك كله: وجوه. وجوهٌ تمر في الذاكرة وكأنها تمر أمام عينيه.

وجه صديق عزيز، فرقتهما الدنيا بعد أن كانا كظلين لبعضهما البعض، فلا يذكر أحدهما في أي مناسبة حتى يذكر الآخر. ولكن بمجرد أن غاب عن نظره غاب عن قلبه.

وجه آخر لشخص أساء له أيما إساءة، ورغم مرور الوقت إلا أنه يأبى أن يسامحه عليها.

وجه جميل لصبية شقية عذبت قلبه المراهق، وأحبها على الورق، وبعث لها برسائل لم تصل وانتظرها بمواعيد غرام وهمية.

وجوه كثيرة مرت في الذاكرة، يبتسم لها تارة ويعبس لها تارةً أخرى، يضحك لموقف مع أحدها ويكاد يبكي لموقف مع آخر.

جلس على السرير بعد أن وثق أن النوم لن يزوره الليلة، وأضاء المصباح، ليقع نظره على صورة بجانب السرير حمل أجمل وجهين: وجه أب رغم ما فيه من حزم إلا أنه يحمل من الطيبة ما يكفي الدنيا كلها. ووجه أم يحمل من الحنان ما يحمل، ومن الحب والدفء ما يطمئن القلب ويهدئ الروع.

احتضن الصورة، وأطفأ المصباح وغط في نوم عميق.

D 25 آذار (مارس) 2013     A محمد التميمي     C 4 تعليقات

4 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 82: هل الأدب العربي (لا يزال) محظور(ا)؟

زهرة زيراوي: تكريم في المغرب

فاتن الليل: مساءلة الوعي الوجودي

تحديد النسب بالبصمة الوراثية