أحمد الماجد - العراق
إسماعيل عبد الله والاشتغال على الزمن المسرحي
الاشتغال على الزمن المسرحي في نصوص الكاتب الإماراتي إسماعيل عبدالله
إذا أردنا أن نقيس زمن المسرحية في فكرة المؤلف لكانت النتيجة برهة من الزمن كلمحة البصر. وإذا أردنا أن نقيس زمن المسرحية من وجهة نظر المخرج، فنقيسها بالمدة التي شاهدناها فيها على الخشبة، أما إذا سمعنا تفاصيل المسرحية من شخص رواها لنا، فيكون مقياس زمن المسرحية بالمدة التي أصغينا فيها للراوي، وهكذا نفهم أهمية الزمن.
إذ يرتبط الزمن بشكل مباشر بحياة الإنسان ووعيه، والتطرق إلى هذا المفهوم يبدو جلياً في مجالات عدة ومختلفة، أهمها الرياضيات والفيزياء والفلسفة، إذ أنه الصعب تحديد ماهيّة الزمن وتلمّس أبعاده كما هو الحال بالنسبة للمكان، فإدراك الزمان كامتداد وتعاقب وتناوب يتم على المستوى المادي بشكل موضوعي من خلال العناصر التي تتأثر به مثل الطبيعة والإنسان "تعاقب الفصول، تتالي الليل والنهار، الولادة والموت، مظاهر الشيخوخة".
لكنّ الإحساس بالزمن يبقى أمراً نسبياً وآنيّاً وذاتيّاً يختلف من ظرف لآخر ومن شخص لآخر. وقد ميّز أرسطو المسرح عن غيره من الفنون والأجناس الأدبية من خلال الزمن. فقد اعتبر المسرح "فنّ الحاضر يقدّم أفعال أشخاص يعملون" على أنها تجري الآن، في حين تروي الفنون السردية ومنها الملاحم ما حصل بصيغة الماضي.
وعندما نعبر عن الزمن إجرائيا ينبغي أن نفرق بين معنيين وإن كانا مترابطين، الأول معنى الاستمرارية والديمومة، حين نقول فترة من الزمن، والثاني عندما نتحدث عن لحظة زمنية أو حين نقول نقطة من الزمن. فالنقطة قد تكون نهاية فترة بدأت عند لحظة اتفق أن تكون هي النقطة الثابتة في الزمن، مثل مولد المسيح أو هجرة الرسول أو تأسيس روما، ومع ذلك ومن الناحية الإدراكية، فالمعنيان مختلفان، ويجب أن لا نخلط بينهما.
وكذلك كان شكسبير يعنى بما يتعلق بالأنماط البدائية التي خلفتها الأساطير، والتي تدور حول عملية الميلاد والنكاح والموت، التي تتردد مع الإيقاع الموسمي على مدار السنة. فهناك خصوبة الصيف ونضج الخريف وما في الشتاء من موت ودفن ثم تجدد الحياة وانبثاقها في الربيع. كما يعنى شكسبير أيضا باستخدام الحلم واليقظة وبإحداث التغييرات فيما بينها وكذلك هو يستعين بعالم الأرواح والأشباح "الشبح يأتي من خارج الحياة كما في مسرحية هاملت"، والجنيات أو العرافات "كما في مسرحية ماكبث" فيحيطنا بجو أسطوري، وبزمن خارج زماننا وهما يعملان على التأثير في الوجدان.
ونعني بكلمة الماضي مزاولة الذاكرة لشيء مضى، ونعني بالمستقبل التوقع الحالي لشيء مستقبل أو المشاركة فيه. فالماضي إذن غير منفصل عن الحاضر، وكذلك المستقبل ينظر إليه بعين الحاضر، فالحاضر إذن هو اللحظة الزمنية المشبعة لأنه هو التجربة، أي أن الماضي والمستقبل كلاهما حاضر في التجربة، وهما إذن لا يعبران عن بعدين ولا عن اتجاهين، فالزمن في التجربة الإنسانية ديمومة واستمرار.
إن الاشتغال على الزمن عند الكاتب المسرحي الإماراتي إسماعيل عبد الله أيضا مر بمراحل متعددة، فمن الواقعية التي انطلق منها إسماعيل في كتاباته إلى التجريبية ثم الرمزية، فتغيرت الأساليب وفقا لشكل الكتابة، وكذلك أيضا تماشيا مع المضمون الذي طرحه والفكرة الأساسية التي حملها النص.
في مسرحية (راعي البوم عبرني) تم الاشتغال على تقاليد الزمن الواقعي كوسيلة درامية خلق من خلالها إسماعيل الإحساس بالأهمية الملحة والخطيرة لضرورة استعادة المركب من سطوة "شاهين" المتنفذ بأحوال القرية كما يشاء، ومن ثم توليد جرعة من الترقب المثير للمتفرجين وحثّ حواسهم ومشاعرهم تجاه العرض، من خلال الطرح الدرامي للزمن ومحاكاته لزمن الحدث والذي حدده الكاتب في فترة الخمسينات من القرن المنصرم.
وفي المسرحية التي شهدت تطور آلية الكتابة عند إسماعيل – كما أسلفنا – (غصيت بك يا ماي) نلاحظ عنصر الترقب المثار أكثر وضوحا، حيث يطرح المتلقي أو المتفرج السؤال تلو السؤال على نفسه: هل سينجح "عطشان" في التغلب على "سعيد الطاقة"؟ هل سينكشف سر "مهرة الكفيفة"؟ هل ستنتهي فكرة "البئر المسكونة" وتختفي إلى الأبد؟
الترقب الذي أثاره المؤلف هنا عبر الاشتغال على الزمن الواقعي، من أجل تأكيد إحساسنا بمرور زمن الحدث المتخيل أيضا ومن ثم بأن هناك عمليات تتحول وتدور خلال النص. إذ يميز إسماعيل بين زمن الحدث المتخيل بمجمله "الخمسينات من القرن المنصرم" وبين زمن الفعل الدرامي "المعاصر" والذي يعرض أجزاء من هذه الحكاية على الخشبة، إذ أنهما لا يتطابقان بالضرورة.
زمن الحكاية على الدوام أكثر امتدادا لأنه يحتوي على كلّ ما يشكل ماضي الشخصيات وما يسبق نقطة انطلاق الحدث من أمور. ولأنه لا يمكن تقديم وقائع تمتد لسنوات على الخشبة يتم ضغط هذه الوقائع بحيث تعرض في مدة لا تتجاوز الساعتين تقريبا. فعطشان وبعد أن يتمالك أنفاسه ويهدأ روعه بعد دخوله إلى بيته، يبدأ بالحديث معه أمه في "زمن الحدث" مبينا تفاصيل "الزمن المتخيل للعرض" والذي انطلق قبل بدء المسرحية بسنين حيث يفترض هذا تمفصل الأحداث بشكل معيّن ضمن الفعل، وحذف الكثير من التفاصيل، واستبدال الكثير من الوقائع بالسرد:
عطشان: "اطلعي اسمعيني. انت الوحيدة اللي لازم تسمعيني. لو الدنيا صمّت إذنيها عني، حطيتوني في وسط غبّة بليّا شراع ولا مجداف، اصارع الموج والريح وصدري عريان بروحي، خليتوني بعزّ الظلام، مركبي تايه، يدور على صراي وبندر. تعبت وانا شايل هالسنين كلها. همومي ونظرة الناس وسكوتج".
(صمت)
"اطلعي من حجرتج وقولي لي. أنا عاقل ولا مجنون؟ عاقل ولا مجنون؟"
(صائحا)
"عاقل ولا مجنون؟"
(يصمت بعدها لبرهة ثم ينفجر ضاحكا وبشكل هستيري)
"بس انا مجنون. البلاد كلها تقول عني خبلة. كبارهم يعايروني وصغارهم يفروني بحصا. تدرين؟"
(يخاطب باب الغرفة المغلق)
"قبل يومين كنت اروّي حق بيت التاجر العود عم البلاد كلها. مشتت الكتائب. ليث بني غالب. قاهر الفرس والروم".
(ينفجر ضاحكا)
"سعيد الطاقة، سمعت حرمته يالسة تقرظ في ريلها قراظ. حق موزو الخرس. ولا كأنه في ريّال واقف عدّالهم. تدرين شو قالت لها موزو يوم انتبهت واشافتني؟"
(مقلدا المرأتين)
"صخّي صخّي. منجر في العدّة."
لقد وضع إسماعيل المتلقي في خضمّ عملية البناء للحكاية من نقطة انطلاق الحدث إلى نقطة الوصول، وجعله يملأ فراغات النص الزمنية، وبالتالي مكّنه من إدراك الزمن ليس عن طريق قراءة العلامات فحسب وإنما عن طريق عملية بناء.
كما استخدم إسماعيل تقنية الاسترجاع، أو ما يسمى بالعودة إلى الماضي "الفلاش باك" في نهاية (غصيت بك يا ماي) بالعودة إلى زمن أبعد، كمشهد إجباري توضحت من خلاله الحكاية التي أرداها ودوافع الشخصيات في أفعالهم:
عطشان: "شو سوى يا امي؟ قولي. انطقي. ما صدقت ترمسين".
مهرة: "آن الأوان اني انطق واقول".
سعيد: "صائحا" لا ياالخبلة لا".
(إظلام)
يعود بنا المشهد "فلاش باك" إلى خمس عشرة سنة سابقة، نفس المنزل تدور فيه أحداث المسرحية. يبدأ المشهد بجو شاعري دافئ بين سهيل والد عطشان وزوجته. جثا الاثنان على ركبتيهما في منتصف الخشبة. يمسكان بينهما بثوب هندي جميل لونه أخضر مطرز بألوان ذهبية براقة بلون "الزري" يحدقان كل منهما في الآخر.
في (غصيت بك يا ماي) جاء زمن الحدث المتخيّل بكل مكوناته على أنه زمن إرجاعيّ يرتبط بواقع حقيقي أو متخيّل، وقد يتبدّى من خلال علاقة البداية بالنهاية كتحول وصيرورة. وبالتالي فإن المتلقي يربط باستمرار بين ما يراه وبين عالمه الخاص مما خلق علاقة جدلية بين زمن المتخيل وواقع المتلقي.
ويبدو التطور الواضح في الاشتغال على الزمن عند إسماعيل عبدالله جليا في مسرحية (السلوقي) والتي كتبها في العام 2010م، حيث تم الاشتغال على الزمن بوصفه شعوريا وفكريا، حيث تمكن من استدعاء منهج للتفكير الجمالي، بحيث أعاد إبداع الأفكار المجردة إلى أفكار معمقة، التصقت بالذاكرة وأنشأت عالما سحريا اخترق تقلبات الحياة، من حيث إعادة تشكيل الزمن المسرحي باعتبار أن "الآن" هي القوة المهيمنة القادرة على تشكيل عوالم جديدة مستقاة من رحم الأحداث ومن ذات الزمن.
في مسرحية (السلوقي) تم إعادة إنتاج الحكاية في قالب جديد له إسقاطاته الآنية، وعصرنة زمنها المتخيل من خلال مزجها بكيميائيات مختلفة حيث بدا هذا التمازج واضحا من حيث دلالات زمنية حيّة أرادها النص في خطابه الذي فرضه المؤلف. فأنسنة السلوقيّ وفق المناخات التي ارتآها المؤلف بغية إسقاط مضمونها على الزمن الواقعي المعيش يعدّ تحولا في الاشتغال على زمنين مختلفين من خلال المزاوجة بين الحكاية العربية والحكاية الأجنبية، في نفس شروط وأجواء العملية الكيميائية التي تحدثنا عنها سابقا، من أجل تعرية الزمن الحالي وفق الرغبة الكبيرة والواضحة في تشكيل نوع آخر من العلاقات الإنسانية.
كما أن اعتماد النص في بنيته على غرائبية موضوعة الكلب هو إحلال رمزيّ، استحضر من خلاله المؤلف حالات اجتماعية كثيرة، عانت من النظرة الدونية التي يكابدها المقهورون في زمن افتراضي ومتخيّل.
لقد تم التعبير عن الزمن في نص (السلوقي) من خلال علامات إرشادية حددت زمن الحدث عبر الحوار، فالزمن هنا هو ذو وظيفة إرجاعية مباشرة أعادتنا إلى فترة زمنية معينة، كذلك من خلال علامات غير مباشرة طلبت من المتلقي أن يفككها ليدرك الزمن كامتداد، كالتحولات التي ظهرت على الكلب "طارش بن طارش" التدريجية خلال زمن العرض:
بوعكلوه: "مب انت يا عمي بغيته يتفرعن ومثله".
مران: (يقاطعه) "بس. انطب طبك الله. يتفرعن مثل ما أنا أبغي ومتى ما أنا أبغي. من انخلقت الدنيا والنواخذا طرف الخطام بايديهم ياالتيس".
بوعكلوه: "يا عمّي اذا انا تيس هو ثور هايج. محّد رايم ايزخّه. وانت الله يهديك بعدك امدلعنّه وتداديه وشايلنّه على كفوف الراحة".
عمران: "بس اقطع. قطع الله نفسك. طوف التعن وطلعه من تحت الأرض. واياني واياك حد يلمحك وانت يايبنّه هني. التعن اشوف".
بوعكلوه: "على أمرك عمّي".
(يجري بوعكلوه مسرعا باتجاه الباب الخارجي غير منتبه لطريق خروجه. فجأة يدخل عليهم طارش. فيصطدم به بوعكلوه ويسقط أرضاً).
(يدوس طارش على بوعكلوه غير مبالي ويخطو إلى الأمام).
بوعكلوه: (يتأوه) "والخيبة اتخيّبك فيل مب جلب".
(يقف في مكانه ويلتفت عليه ويرمقه بنظرات حادّة).
(يجري بوعكلوه على أربع مبتعداً خوفا منه).
(طارش يرتدي ملابس غريبة. حيث يلبس وزار وفانيلة كتّافية. ويضع على رأسه غترة وعقال).
الزمن في (السلوقي) لا يقتصر على كونه إرجاعا لفترة أو حقبة زمنية أو امتدادا، وإنما هو أيضا تحوّل وصيرورة عبرت عنها ديناميكية الانتقال والتحول التي طرأت على شخصية الكلب. إذ لم تكن العناصر المعبرة عن زمن التحول مادية وملموسة، وإنما استنبطت من شكل كتابة النص، عبر التغيرات التي طرأت على شخصية "الكلب" في علاقتها بالشخصيات الأخرى ضمن الحدث، وكذلك عن طريق إيقاع الحوار والبقع الضوئية التي فرضها المؤلف على العرض، وكذلك وفقا لشكل الإلقاء "سرعة الكلام، تبادل جمل قصيرة أو مقاطع طويلة" وحركة الممثلين على الخشبة "حركة بطيئة، ثبات ووضعيات جامدة، أو على العكس، حركة سريعة وقفزات وتشكيلات حركية متغيرة".
لذلك جاء التعامل مع الزمن في هذه المسرحية بطريقة صيغ من خلالها لحظة التألق الشبيهة بالفانتازيا، ذلك لأن تجمع اكثر من مرجعية وتدافع اكثر من تصور، لتركيب عالم اللحظة وجعلها خارقة للسياق التقليدي، هو نوع من تبئير أزمنة مكتظة وزجها بأتون لحظة إشراق نورانية، لتكشف عن الجهد البارع والصياغة الفنية والقيمة الجمالية للنص:
إن الزمن عند إسماعيل عبدالله يحمل نفس الطبيعة المركّبة للمكان المسرحي من حيث أنه يتجلّى على عدّة مستويات لا بل إن إدراك الزمن مرتبط بإدارك أبعاد الفضاء المسرحي الذي يدور فيه الحدث. حيث تتطلب نصوص إسماعيل من المتلقي أن يظل متيقظا وان يربط بشكل دائم بين زمن الحدث وزمن الواقع، حيث إن المتلقي يقطع الحدث باستمرار لأن يتذكر واقعه ويعود إليه.
هذا الإرجاع إلى زمن المتلقي من خلال القراءة الجديدة هو نوع من الإحالة يعمده إسماعيل عبدالله بشكل مباشر أو غير مباشر من أجل إسقاطه على الزمن المعاصر. كذلك يعتمد إسماعيل في اشتغاله على الزمن على توصيفات النص للإضاءة ومدلولاتها وللديكور وكيفية تموضعه من حيث التأريخية الدالة والمسقطة والمقصودة في فضاء النص، وكذلك الأزياء وتفاصيلها وجميع عناصر العرض المسرحي التي تدلّ بشكل أو بآخر على الزمن الذي هو من أساسيات وجزء لا يتجزأ من نسيج العرض المسرحي.