عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 7: 72-83 » العدد 82: 2013/04 » الأنا الفلسطينية والآخر الإسرائيلي

أمين خالد دراوشة - فلسطين

الأنا الفلسطينية والآخر الإسرائيلي


الأنا الفلسطينية وتأثيرها على الآخر الإسرائيلي في رواية "الوجوه" لوليد أبو بكر

أمين دراوشةمقدمة

إن دراسة أنماط شخصية الأنا والآخر في الأدب، مسألة ليست سهلة. فالأدب يعبر عن أفكار ومعتقدات ووجدان الكاتب الشخصية، ويؤثر عليه الوعي الجمعي الذي يرزح تحت وطئته. وإذا كنا نتحدث هنا عن كاتب فلسطيني، عاش فصول الصراع القاسي، فإن من المؤكد، أن نظرته ستتأثر بهذا الصراع المستمر منذ سنوات طويلة.

الخروج عن السائد في رواية الوجوه

اتجه الكتاب الفلسطينيون صوب كتابة الرواية، كوسيلة أفضل في تناول تجربة الشعب الفلسطيني القاسية والثرية. ورأى الكتاب أن الرواية هي الشكل الأنسب، لما لها من قدرة عظيمة على التعبير عن المعاناة التي تخلفها المصائب المختلفة، وعلى التوغل في النفس البشرية والبحث في أحلامها ورغباتها وكوابيسها وتصويرها.

استوعب الكتاب الفلسطينيون أهمية الرواية وتأثيرها الكبير على الإنسان، فتناولوا فيها موضوعات عدة كان أبرزها الصراع مع المحتل الصهيوني، وما رافقه من مذابح وتشريد وسجن وبطولات الشعب في مواجهة غطرسة الاحتلال، وبطشه الذي لا يرحم.

غير أن الكاتب وليد أبو بكر في روايته "الوجوه"، أخذ منحى مغايرا في روايته. صحيح أن صراع الشعب الفلسطيني مع الأنظمة العربية ونضاله ضدّ الاحتلال هو محور الرواية وعمودها الفقري، إلا أن بطله كان من نوع آخر: إنه البطل السلبيّ الذي يلتحق بسلك الشرطة في الحكومة قبل عام 1967م، ويمارس العمالة والخيانة مع قدوم الاحتلال الصهيوني.

شخصية شريف الزوري، بطل الرواية، تنمو وتكبر دون تدخل من الكاتب، فتكون له شخصيته التي تفكر وتحكم وتملك طموحا لا حدود له، وهو يسعى بكل السبل إلى الوصول إلى ما يرغب فيه، حتى وإن داس في طريقه كلّ من أحب.

ولد شريف لأب يعشق الأرض، ولا يرى في حياته هدفا غير الاعتناء بها، وأمّ تحنو عليه وتعتني به لدرجة المرض، فقد كانت تخشى عليه كثيرا، فمنعته من مصاحبة والده إلى الحقول كالأطفال الآخرين، وعندما كان يشتهي بعض الخضرة البرية، كانت أمه تتكفل بإحضارها له، فتحضر "الصّيبعة والشحّيم، وتنظفه، وتضعه في فمه" (أبو بكر،2003، ص 13). كانت تخاف عليه من ضربة شمس أو لدغة أفعى.

وبعد أن كبر، صار والده، يتمنى لو أن شمسا ضربته، أو أن أفعى لدغته ليرتاح منه، لأنه جلب له العار. أفسدته الأم بتدليعها، والأب اتهمها كما يقول شريف: "بأنها حوّلتني إلى أنثى مثل شقيقتي حورية، وكثيرا ما ناداني باسم شريفة" (أبو بكر، ص 14). وكان يلجأ إلى حضن أمه كلما ضايقه والده.

نحن بصدد شخصية تعاني من أزمات نفسية متشعبة، تجعل صاحبها يمارس كلّ الأفعال القبيحة مع تبرير ذلك لنفسه من أجل الوصول إلى مبتغاه.

تزوّج شريف من فتاة أحلامه (ابنة المختار)، ولكنْ في صعوده المستمرّ في عمله، يحدث شرخ في علاقته مع زوجته، التي ترفض عمله، وإن كانت تقف إلى جانبه في مرضه، وعندما يشفى ويعاود الالتحاق بعمله كعميل لدى الاحتلال، تنفجر العلاقة وتتركه وترحل.

أنجب ابنته البكر، نبيلة، التي تقف إلى جانب والدتها بمجرّد أن تبدأ بالوعي، وترفض عمل أبيها. وتتركه لكي تتزوج الفدائيّ نديم الكفراوي، وتلتحق بالثورة، وتتبرأ من والدها.

نبيلة هي الشيء الوحيد في العالم الذي يشعر شريف نحوه بالحبّ والعطف والأمان، بالإضافة إلى مدينة رام الله التي يعشقها بطريقته الخاصة.

كما أنجب ابنه، نبيل، الذي لم يحظ باهتمام كبير من والده، فانحرف وأخذ يقضي وقته مع شلة من الشباب والفتيات، يشربون الخمر ويتعاطون المخدرات، وكما يتبين من الأحداث، فإن المخابرات الإسرائيلية كانت تسهل للشباب الفلسطيني الحصول على المخدرات من أجل تجهيله بقضيته وتحطيمه وتدميره.

يقبض على نبيل من قبل جيش الاحتلال لتواجده مصادفة بالقرب من مكان عملية فدائية، فيستدعى والده ويطلب منه تسفيره إلى أمريكا على ألا يعود مقابل عدم محاكمته. ويستمرّ هناك حتى ينساه الجميع.

ومن شخصيات الرواية الرئيسية جميل الحيّاني، المدرس والمثقف الفلسطيني، الذي يقود العمل الثوري، ويعتقل ويعذّب، ويستمر في حلمه حتى ينجح في تحقيقه، بإطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة.

ومن الشخصيات السلبية حامد أبو رسن، ضابط الحكومة الكبير الذي يفعل أي شيء للمحافظة على منصبه، ويستغل شريف الزوري للقيام بالإعمال القذرة، وينتهي به الحال بعد احتلال الضفة الغربية إلى الهرب عبر الجسر، ويقال إنه دبّر له حادث سيارة قتل فيه.

أما شخصية الآخر الإسرائيلي، فنجدها ممثلة بالحاكم العسكري لرام الله، الذي يبدأ عمله شديدا صارما، وواثقا من نفسه ومن جيشه. وينتهي به المطاف خائفا، ومرعوبا على المشروع الاستيطاني الاحتلاليّ، لأن الشعب الفلسطيني لا يغادر، بل يتوالد ويتوالد، ويقاوم ولا يموت.

وفي الرواية لم "يخضع الروائي لما ترسمه يد السياسيّ في الخريطة الجغرافية" (البوجي، 2001، ص51)، وكان تم التأسيس لهذا الفكر على يد الكاتب الفلسطيني، أميل حبيبي، في "اخطية" و"سرايا بنت الغول"، وتبعه وليد أبو بكر في "الوجوه". والهدف تثبيت المكان الفلسطيني وأسمائه للحفاظ على الذاكرة للأجيال القادمة" (المصدر السابق، ص51).

وكان استخدام الكاتب أسلوب "التذكّر والربط بين الماضي والحاضر ناجعا، أمد النص بروحية الحركة والدفء، إلى جانب تصوير الواقع بصورة صادقة ومعبرة إلى حد بعيد، ما جعل بعض الحقائق تكون دافعة لا تحتاج إلى تفصيل أو اجتهاد" (الديك، 2000، ص 154).

الأنا الفلسطينية وتأثيرها على نمط حياة الآخر: اهتزاز الآخر العدو تحت ضربات الثورة

"في البداية، كنا نعرف أنهم يتسللون عبر الحدود، حصنا حدودنا، وضربناهم في حدودهم، واخترقنا الحدود. لكن الذين يتحرّكون داخلنا أخطر، علينا أن نبقي أعيننا مفتوحة كل الوقت حتى تتعب، ومع ذلك فإن وجوههم تتسلل وتزداد من وراء عيوننا"؛ الحاكم العسكري يتحدث عن الفدائيين (الرواية، ص126).

ابتدأت صورة الآخر في الرواية قوية، وصارمة، وواثقة، وقادرة على كلّ شيء، وعندما شرعت المقاومة الفلسطينية تذيق الآخر العدو الألم، استدعى الحاكم العسكري الإسرائيلي شريف، وقد رحلت ابتسامة السخرية عن شفتيه، وحلت محلها تكشيرة، غيّرت ملامح وجهه.

يقول شريف إن: "هذه التكشيرة، أصبحت طابعا له بعد ذلك، مما جعلني أتساءل إن كان لا يزال يشعر بالتفوق" (أبو بكر، ص115).

تحدث الحاكم العسكري عن المخربين، الذين كثر نشاطهم وأصبحوا يهددون حياة الناس ويرعبونهم، وتوقف عن الكلام لحظة وكأنه يراجع نفسه، كما يقول شريف. وأكمل الضابط حديثه: "لا تفهم من هذا أننا نخاف منهم، فنحن أقوياء، لا تخيفنا الجيوش، وذراعنا طويلة تصل إلى حيث نريد" (أبو بكر، ص116)، ولكننا لا نريد أن ينتشر الخوف بين الناس، لأننا لا نعرف إلى أين يمكن أن يصل.

هنا تذكر شريف قول جميل إن هؤلاء المحتلين لا يربطهم شيء بأرضنا، وإنهم سيفرون إلى المكان الذي قدموا منه إذا شعروا بالخوف. وتابع الضابط حديثه: "لأن الناس عندنا تعوّدوا أن نحميهم، وأن تكون حربنا داخل الحدود الأخرى، بعيدة عنهم، فلا يعرفون إلا النصر الذي نحققه" (أبو بكر، ص116)، أما الآن فالأمر أختلف، والناس خائفة ويجب أن نجد حلا لذلك.

شعر شريف بالخوف لما هو آت، ولكنّه عاد يبرر الخيانة لنفسه، بأنه لا يستطيع التوقف الآن، لأنهم سيقتلونه، وبأن الجسر بات محروسا من الجهتين الآن.

ومارس الاحتلال همجيته الشرسة على الشعب الفلسطيني، وكانوا يعتقلون أي شخص، فالشعب كله مشبوه، وهم يلفقون التهم كيفما اتفق.

ولشريف الزوري رأي مثير للانتباه هنا، إذ يرى أن لهم دافعين متصلين أقواهما وأكثرهما وضوحا هو الخوف "لأنهم كانوا يعبرون عنه في كل تصرف، وكان توتر الخوف الذي لا يهدأ هو الذي يقود حركاتهم في شوارع رام الله، وهو يعبر عن نفسه بالحذر الشديد، والقفز لدى الإحساس بأية حركة، أو سماع أي صوت لا يعرفون مصدره" (أبو بكر، ص118).

ولاحظ شريف أن معاملة الحاكم العسكري له تغيرت، فلم يعد يعامله بالحماسة نفسها، لقد حلّ محلها شيء آخر، يقول شريف: إنه لم يكن الشكّ بل شيء آخر "أخذت أحسّ به، من خلال وجوههم المرعوبة، وعيونهم التي صارت تحدّق في الفضاء، وهي تستطلع خطرا قادما من حيث لا يعلمون، يحسّون تجاهه بالعجز، فيدركون أنني أكثر منهم عجزا" (أبو بكر، ص125).

غلاف رواية الوجوهويتحدث عن عجز الاحتلال في مطاردة الوجوه التي تشكل خطرا، لأن هذه الوجوه أصبحت تولد بغتة، وتضرب فجأة، وتختفي دون أن يعرف أحد مكانها، فتسبب للاحتلال الغضب والحماقة والجنون "ويصل الأمر حدّ الجنون الذي لا يعرف كيف يتحرك، وإن كان لا بد له أن يتحرك ليلمّ الناس، ويهدم البيوت، ويصرخ ويهدّد، ويزداد جنونا كلما ولدت وجوه جديدة، تضرب وتختفي" (أبو بكر، ص125)، فالأمر اختلف ولم يعد سهلا أن يختاروا هم اللحظة ويضربوا ضربتهم بسرعة خاطفة ويحتفلوا بالنصر بعد ذلك، فاللحظة أصبحت كامنة في كل لحظة، "يختارها من لا يعرفون عنهم ما كانوا يعرفون عن غيرهم. صارت كل اللحظات تملك أن تكون في أي مكان، فصار الخوف متصلا، والجنون متصلا، وهم أصحابه" (أبو بكر، ص125-126).

ونتيجة لتلك الأوضاع التي انقلبت، اختلفت طريقة حديث الحاكم العسكري مع شريف، فبعد أن كان يثق بنفسه وبجيشه وجهاز أمنه ويتحدّث بصرامة وأوامر قاطعة، يقول شريف: "صارت جمله متقطعة لا يربطها منطق. كان يقول: في البداية، كنا نعرف أنهم يتسللون عبر الحدود، حصنا حدودنا، وضربناهم في حدودهم، واخترقنا الحدود ـ وكانوا خسروا في كلّ مواجهة ولم يعترفوا ـ لكن الذين يتحركون داخلنا أخطر، علينا أن نبقي أعيننا مفتوحة كل الوقت حتى تتعب، ومع ذلك فإن وجوههم تتسلل وتزداد من وراء عيوننا" (أبو بكر، ص126). كان الحاكم العسكري ينهي كلامه بحزن وأسى، ويخطب ودّ شريف ويحمله جزءاً من مسؤولية ما يجري، لكن شريف لم يجرب من قبل ما يجري وهو أعجز عن مواجهته.

وعندما يرحل شريف إلى بيت أنيسة، يجدها تعلم الكثير مما لا يعرف وتقول له: إن الجميع يعرف، ويظهر أنك يا شريف الوحيد الذي لا تعرف أو لا يهمك ما يجري، فأنت لا تحاول أن تفهم ما يجري حولك. وتقول له: "إنه احتلال، يخلق مقاومته الذاتية من الداخل، وتكبر وتكبر، حتى لا يستطيع أحد أن يسيطر عليها" (أبو بكر، ص126). ويتذكر شريف أن "عصبية الحاكم العسكري كانت تزداد، وثقته بنفسه كانت تهتز" (أبو بكر، ص127).

وعندما كان يرى عيني الحاكم العسكري تقدحان الشرر، كان يهرب إلى بيت أنيسة التي تضحك، قائلة له: "ألم تسمع عن عملية فدائية كبيرة؟" (أبو بكر، ص127). وشريف يسمع باستمرار عن ذلك، ويعود إليه الاسم الذي كرهه، جميل الحيّاني، "ويطل وجهه في عيني، بابتسامته الواسعة وهو يقول: هل صدقت الآن؟" (أبو بكر، ص127).

يقول شريف: إن ما كان يحدث كان يثير غضبهم، ويزعجهم، "وإن الشوكة كانت تؤلم أكثر، حين تجيء من الداخل، من حيث لا يعلمون، وإن هذه الشوكة كانت تزداد وخزا، يوما بعد يوم، فتوجعهم أكثر" (أبو بكر، ص127). ويتساءل: "ماذا يفعلون لو تحوّلت كل الوجوه حولهم إلى أشواك؟" (أبو بكر، ص127)، ويحس بالخوف، ويشعر بالخطر "هل يمكن لهذه الأشواك أن تظلّ بعيدة عني؟" (أبو بكر، ص127).

وليد أبو بكرلم يعد شريف يصدق هذا التباهي بالقوة والحديث عن الانتصارات السريعة والحاسمة، فهم لا يتحركون من مكاتبهم وآلياتهم المحمية جيدا. وصار يشعر بسعي الاحتلال للتخلص من خوفه، بالتخلص من مصدره، وهو الشعب الفلسطيني، لذلك فعلوا كلّ شيء لإفراغ الأرض من سكانها الأصليين، فكانوا يعتقلون أي شخص ويدينونه بتهم كثيرة ملفقة؟ ويعذبونه ثم يطردونه من وطنه خارج الحدود، وهدفهم من ذلك، زرع العجز في النفوس في جدوى المقاومة، و ما يزال الاحتلال يمارس سياسية الأرض الفارغة من سكانها، رغم فشل هذه السياسية.

نظرة الأنا السلبية الجديدة للثورة

"الصدر العاري يقف في وجه الرصاص، وأن قذيفة الحجر، صارت أقوى من قذيفة المدفع"؛ شريف يتحدث عن الانتفاضة (الرواية، ص194).

يشعر شريف أن كل شيء حوله ضيق، وأن هنالك شيئا يضغط عليه ويكاد يخنقه. وعندما يسير في شوارع رام الله، يرى الوجوه في الشوارع مرتفعة إلى أعلى، وليس كالسابق تنظر إلى أسفل. وهو يقول عن نفسه، بعد أن أصبح عاجزا وعقيما كما الاحتلال الذي يعمل عنده: "لم يكن توازني كاملا، حاولت أن أشدّ نفسي، قامتي الطويلة ـ التي كنت أعتزّ بها كثيرا ـ انحنت، حتى شعرت بأنني صرت أقصر مما أعرف نفسي" (أبو بكر، ص119). ويضيف، بالتأكيد هذا أفضل "حتى لا يعرفني أحد ممن عرفت" (أبو بكر، ص119). وعن تجربته الفريدة وهو معتقل لمدة شهر في معسكرات المقاومة، يقول: "عرفت أن لديهم قناعات يضحّون بأنفسهم من أجلها. فهمت لماذا كانوا يصمدون" (أبو بكر، ص152).

وبعد عودته إلى رام الله من معسكرات المقاومة، يجرّ فشله وعجزه، وسماعه عن العمليات الفدائية للمقاومة. ويتحدث عن أن المقاومة فتحت بابا للأمل من رحم اليأس والقنوط. ويعبر عن اندهاشه لاستمرارها رغم الضربات القاسية التي تلقتها من الاحتلال، فقد كان يظن مع كل ضربة يتلقاها الثوار، أنها ستكون القاضية، لكنه يفاجأ "بأن نهوضهم كان أقوى، وبأن صوتهم في العالم صار أقوى، وبأن تأثيرهم في أعدائهم يزداد" (أبو بكر، ص152).

ويحمد شريف ربه على أنه الآن يعيش في بيته ولا أحد يطلب منه شيئا. ويشعر بالخوف كلما سمع أن قوة المقاومة تزداد، رغم الضربات، ويقول: "وكأن هذه القوة كانت تتقصّدني، رغم أنني وقعت بين أيديهم، ولم يفتكوا بي" (أبو بكر، ص153 ). وترجع به الذاكرة إلى كلام جميل ونبيلة "أن الناس لا يموتون، والحق بهم لا يموت أيضا" (أبو بكر، ص153). وكان يسخر منهم، فإذا كانت الجيوش الضخمة انكسرت، فماذا يستطيعون أن يحققوا هم، ولكن "حين انهار الحلم، ظلوا يحلمون" (أبو بكر، ص153)، وبدأ حلمهم ينمو ويزهر.

اقتنع شريف بعد هذه التجارب، وعرف "أنهم كانوا يعرفون ما يفعلون، وإلى من يستندون حتى يحققوا حلمهم. الآن أعرف أنهم كانوا يتطلعون إلى صحوة ما، وأن الصحوة حدثت، وأن أية خطوة إلى الوراء لن تكون، لأنها ستكون الموت، وهم قاوموا الموت، وما زالوا ضده" (أبو بكر، ص154). وأخذ يتذكر أنه كان يركز على الأخطاء الواقعة، ورغم أن الأخطاء كانت في بعض الأحيان كبيرة إلا "أن صورة جديدة تشكلّت، خلقت طريقا جديدا، وهوية لن تضيع، هي أكبر من كل الأخطاء، ما دامت أعادت إلى الناس حقهم في أن يطالبوا بحقهم" (أبو بكر، ص154).

شريف عرف هذه الصورة بعد فوات الأوان، حيث كان إلى الجانب الخطأ الذي شوه الصورة الجديدة وحاول وأدها. وهو يتذكر ابنته، حبيبته، ويقول إنها لن تصدق أنني وصلت إلى هذه القناعة لأنني دائما ما انقض قناعتي في أية فرصة تأتيني. ويضيف: لم يقنعني بذلك نبيلة ولا جميل، بل أقنعني كلّ الناس في رام الله، "أقنعني الذين رفضوا أن يتعاونوا معي، وأقنعتني المحبّة والتعاون والتراحم بين الناس" (أبو بكر، ص155).

يبحث شريف عن مكان له في العالم، فلا يجد أحدا مهتما به. وتبدأ رام الله وكلّ فلسطين في الغليان، ويقول عن ذلك: "رام الله تصل إلى حدود الغضب. رام الله تواجه النار بصدرها. كل المدن والقرى تواجه. كل الناس يقفون معا في وجه النار" (أبو بكر، ص181)، ويحس بالبرد من جديد، ويحدث نفسه، إن ما يجري في فلسطين شيء كبير، فما يجري يشارك فيه كل الشعب، فمن يستطيع أن يهزم كل الشعب؟

انطلقت الانتفاضة، واستقال رجال الشرطة الذين كانوا يخدمون مع الاحتلال، إما لأنهم عرفوا الحقيقة أو خوفا من إنذارات قادة الانتفاضة لهم. هنا لم يجد الاحتلال أحدا يعمل معه غير شريف وأمثاله، الذين فقدوا كل شيء.

يعود شريف للترحيب بالعمل مع الاحتلال، باحثا عن مكان له. يسأل الحاكم الجديد لرام الله شريف، إذا كان مستعدا للعمل معهم، فيجيب دون تفكير "كنت مستعدا كل الوقت" (أبو بكر، ص184)، ويكلفه الاحتلال بمحاولة إعادة الشرطة العرب الذين استقالوا، ولكنه يفشل فشلا ذريعا، وكان الجواب الذي سمعه من أحد زملائه "أن التسابق إلى الخيانة، كما يراه، لا تغريه فرصته" (أبو بكر، ص186).

شريف ما زال يقفل أذنيه، ولم يفهم ويستوعب أن الانتفاضة حدث لا يمكن السيطرة عليه، لأن الشعب كله ثائر لتحقيق حريته، فقال عن زملائه السابقين الذين فهموا: إنهم جبناء وأغبياء، لأنهم لم يفهموا "أن الانتفاضة مسكينة لا تملك أن تفعل شيئا أمام الجبروت" (أبو بكر، ص 186). وظّل يلف ويدور في رام الله دون هدف، ثم يعود إلى بيته، ليجد إنذارا يتضمن تهديدا له بضرورة ترك معاونة الاحتلال، فيخاف ويرتجف ويخرج من البيت من جديد، يحسّ بدوران الأرض، وأصوات الناس ترتفع، وترتفع تصيبه بالجنون، ليجد نفسه في خضم المواجهات والأصوات تلاحقه وتحيط به، والحجارة تنهال من كل الاتجاهات، ثم ينطلق الرصاص، ويشارك شريف بإطلاق النار على أبناء شعبه. وفجأة يشعر بالخوف والخطر، ويتذكر أن الاحتلال رماه سابقا، ولم يسأل عنه، فمن الذي سيسأل عنه إذا أصيب، فتسلل فارا كالفأر كما كان يقول والده.

أبدع المؤلف هنا، في تصوير حالة شريف الزوري النفسية، فهو يحس بالحياة، ولكنه ليس على ميدان الحياة. يشعر بدنو الموت، فيهرب منه إليه، ألقى مسدس الاحتلال بعيدا، ثم عاد ليبحث عنه، وحين وجده، تساءل: "هل سأقدم على قتل نفسي بمسدسهم؟" (أبو بكر، ص190). ويقول عن تلك الفكرة التي راودته، إنها "عادلة تماما، ولكني رفضتها" (أبو بكر، ص190). وفرّ إلى وكره من جديد، يبحث عن الاختباء كفأر.

الانتفاضة تقوى يوما بعد يوم، ولم يكن هناك في الأفق ما يدل على أنها سوف تخبو، وقد صارت ملكا لكل الناس. ويتحدث شريف عنها بأنها أصبحت الشغل الشاغل للعالم أجمع "وحفظ العالم أسماء المدن، وأسماء قرى لم يسمع أحد بها من قبل، وصارت الانتفاضة تمتد، من المسجد إلى الشارع، من المدينة إلى المخيم، من المخيم إلى القرية، من الأرض إلى السماء، صارت تمتد وتؤثر، في الداخل والخارج، صارت حديث العالم، صارت همّ العالم، كشفت قوة بلا حدود، كشفت وحشية بلا حدود، صار الحجر شعارا، وصار المقلاع، وصارت الأيدي الصغيرة التي يكسرها العسكر" (أبو بكر، ص192).

ويعبر عن نفسيته المشوشة والمحطمة بسبب ذلك، أن أمله بالعودة إلى ما كان عليه يخبو، كلما ازداد أمل الذين حاربهم في العودة. تتضارب أفكاره، ولا يستطيع أن يحدد إلى أية جهة سيقف، فالصراع ما زال محتدما، رغم أنه يميل أكثر إلى قدرة الاحتلال على خنق الانتفاضة، لكنه يتفسخ رعبا ويحس بقرب أجله كلما سمع عن عميل قتل، ويهرب إلى طيف نبيلة ابنته وحبيبته يحاوره: "هل ترضين أن يكون لوالدك هذا المصير؟" (أبو بكر، ص192). ويتذكر أنها رضيت، فيلتهمه الخوف من جديد.

وشريف والعملاء باتوا يدركون أن الأوضاع تغيرت في الوطن، وأنهم لا يستطيعون تجاهل الإنذارات، و"قدّروا، أن يبادروا إلى تلبيتها، وإظهار الانصياع لما تطلبه منهم" ( الصواف، 1997، ص103).

وبالتأكيد، فأن الثورة تنجب أولادها الشرعيين من رحمها، ولا يمكن لمن شكك فيها وتعاون مع المحتل في محاولة وأدها المشاركة فيها. خصوصا وأن شريف رجل مريض نفسيا واجتماعيا، ومرضه مستعص ولا يمكن شفاؤه.

شريف فعل كما أغلب العملاء، حيث احنوا "رؤوسهم وهاماتهم أمام عاصفة الانتفاضة، ربما تمر، على أمل أن تعود مياههم إلى مجاريها القديمة، بعد أن تهدأ الأحداث" (الصواف، 1997، ص 103).

وعلى الرغم من محاولة الكاتب، فتح الطريق أمام شريف الزوري للتوبة، إلا أنه لم يحسم أمره، وسيظل ككل العملاء والخونة، خائفا ومختبئا كالفأر في جحره، آملا أن يستطيع الاحتلال كسر الثورة، أو ينتهي به الحال وحيدا، مطرودا، ونسيا منسيا.

الخاتمة

تعتبر الرواية من روايات البطل السلبي، الذي ينبذه مجتمعه، ويرغب في التخلص منه. وقد نجح الكاتب في رسم شخصية شريف الزوري دون تدخل مباشر منه، وشخصية شريف هدف الكاتب من ورائها إلى تسليط الضوء على ما هو مكروه وبغيض في المجتمع الفلسطيني؛ فالرواية تظهر قيما "موجودة إن أحببناها أو كرهناها مع الكارهين، لأنها تناقش موضوعا انخرط من خلاله جزء من المجتمع" (الديك، 2000، ص143)، سواء بالضغط والتهديد والابتزاز، أو بطموح مجنح مريض في خدمة الاحتلال، فنحن نعيش في مجتمع يتضمن القيم والمبادئ الإيجابية كما يتضمن القيم السيئة والانحراف عن الصواب.

وقد استطاع الكاتب، عبر استخدام المونولوج، والصراع النفسي، وتيار الوعي ضمن الشكل الفني للرواية، الوصول إلى الصراع الداخلي للبطل شريف الزوري، وإظهار ما يعتمل في عقله وقلبه من صراع بين الحقيقة والوهم، والطموح والواقع، والرغبات غير السوية.

= = = = =

المراجع

1= أبو بكر، وليد. (2003)، الوجوه، رام الله: بيت المقدس للنشر والتوزيع .

2= بوجي، محمد (2001). تأملات نقدية في نماذج من الأدب الفلسطيني المعاصر، في: موسى، إبراهيم، وآخرون، "الآفاق المستقبلية للرواية الفلسطينية في ربع القرن القادم"، رام الله: منشورات مركز أوغاريت الثقافي، ط1.

3= صوّاف، محمد (1997). الانتفاضة في أدب الوطن المحتلّ، دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب، ط1.

4= نادي ساري الديك (2000). "رواية الوجوه للكاتب وليد أبو بكر"، في: أبو أصبع، صالح، وآخرون. نحو دراسة تأصيلية للرواية الفلسطينية المعاصرة، رام الله: منشورات مركز أوغاريت الثقافي، ط1.

D 25 آذار (مارس) 2013     A أمين دراوشة     C 5 تعليقات

3 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 82: هل الأدب العربي (لا يزال) محظور(ا)؟

زهرة زيراوي: تكريم في المغرب

فاتن الليل: مساءلة الوعي الوجودي

تحديد النسب بالبصمة الوراثية