إبراهيم قاسم يوسف - لبنان
لا خوف عليك بعد اليوم
إلى حسام (*)
كان مستنفر الخاطر؛ لا يستقرّ على حال. يقفز من غصن إلى غصن، يلقي على مسامع فرخه درسا تمهيديا في الطيران، قائلا له كمن يلعب بكفاءة دورا على مسرح: لا يحتاج منك الأمر إلاّ إلى قليل من الشجاعة والفطنة والإقدام، فعضلاتك صارت قوية وبات الريش كافيا على جناحيك، سيساعدك كثيرا على التوازن في الهواء. حين تجرّب وتنجح ستضحك من نفسك وتسخر من خوفك، وتعرف كم يحلو لك الأمر وأنت تحلق عاليا في السماء. العصافير ربّما تموت بسبب الأفاعي والطيور الكاسرة والصيادين. لكنّها لم تمت يوما وهي تتعلم الطيران. ببساطة يكفي أن ترمي بنفسك في الهواء وتحرّك جناحيك.
وفرخه الأخرق من شدّة صخبه وحشريّته لاكتشاف ما يدور في الخارج، وقع من عشّه في الجدار، فاستقرّ مشرّد العينين مذهولا هلعا في أعالي الشجرة. كان لا يزال في بداية عمره، حديث العهد بالدّنيا، طريّ العود لم يكتمل ريشه بعد، يتشبث بالغصن وقلبه يدقّ على عجل. ترتجف فرائصه من هول التجربة، ومغامرة محفوفة بالمخاطر قد تقوده إلى حتفه؛ فلم يجرؤ ويغمض عينيه، ثم يلقي بنفسه في الهواء ويحرك جناحيه، كما أشار عليه أبوه في خلاصة الدرس.
العصفورة الأمّ مشغولة البال، تراقب ما يجري من بعيد، يقلقها خوفها على ضناها، والأب الدوريّ لاحظ خوف فرخه؛ فأشفق عليه وفكّر أن يؤجل الدرس إلى يوم آخر. لكنّه تذكّر أباه واستمطر الرحمة على روحه، فيوم علّمه الطيران كان أشد تصميما وقسوة. آنذاك علّمه كيف يطير في يوم واحد. هكذا تخطّى الأب عواطفه وحكّم عقله، فغافل فرخه واقترب منه وهو يقف على أعلى غصن في الشجرة، فدفعه بكتفه دفعة شديدة أطاحت به خارج حصنه، وتهاوى الفرخ مرعوبا إلى الأرض، والأب يصرخ بأعلى صوته قائلا له: حرّك جناحيك. حرّك جناحيك بسرعة لكي لا تموت.
تهاوى الفرخ من علو شاهق على حدود السماء، في رحلة سريعة رأى فيها الموت بعينيه، والأب يطير إلى جانبه يواكبه في رحلته ويتهاوى معه، ويصرخ بأعلى صوته حرّك جناحيك. حرّك جناحيك. أخفق الفرخ في رحلة الأمتار الأولى بالاستجابة للنداء،" (1) وانشلع" قلب الأم فلم يبق من عمره إلا لحظات يسيرة، حتى يصطدم بالأرض ويموت، حين نجح فجأة فانتصر على خوفه ورفرف قليلا بجناحين ضعيفين. كانت الأمّ تصفّق له والأب يصيح بأعلى صوته: أحسنت أحسنت، حرّك جناحيك بقوة أكبر. هكذا توالت كلمات الأب في رشقات سريعة وحماس كبير، وهكذا تجاوز (2)"الجلبوط" فزعه وعاد إلى الارتفاع بعجز شديد، وتمكّن أن يحطّ بسلام على غصن شجرة أخرى في الجوار، والأب يطير حواليه في استعراض مدهش، احتفاء بهذا النصر المجيد.
مرّة بعد مرّة درّب الدوريّ فرخه على الطيران حتى اشتدّ جناحاه، وصار ماهرا "كالبهلوان" يحلق عاليا في الفضاء، مزهوا بنفسه مستعرضا جناحيه في رشاقة الهواة الراقصين، أو ينساب سكرانا في لطف النسيم، يفتّش عن ينبوع وجدول، وضفاف من خضرة وألوان.
هكذا "تعمّد" الفرخ؛ فشربوا نخبه وعمّت الفرحة عائلة هذين العصفورين السعيدين. لكنّ الحكاية لم تنته بعد. فلم يحن الوقت لكي يتركه أبوه في حال سبيله، ورأى من واجبه قبل الفراق أن يسّلحه بأمور أخرى، فنصحه بأعلى وأصفى الينابيع، ليستحمّ وينفض جناحيه ويشرب؛ ثم يحلق عاليا من جديد، وأشار عليه أن التين العسليّ الأبيض فاكهة لذيذة مفيدة للصحة ونمو العظام، يعشقها الناس حينما تكون محفورة بمنقاره، بل عموم الفاكهة شهية في مواسمها، وأنّ أكل الحشرات والبرغش لا ينبغي أن يكون إلاّ للضرورة القصوى. نصحه أيضا بالمبيت على أشجار الحور العالية تجاور الأنهار، تتميايل كالأراجيح كلما هبّ عليها وحرّكها النسيم.
أخيرا حذّره شرّ الأفاعي، وسطوة الطيور الكاسرة والصيادين في خطاب متقن، عالي النبرة بالغ الدّلالة والدّقة، وأكّد عليه لمزيد من السلامة والأمان، أن يتحاشى شرّ الصبية الأولاد، ينحنون إلى الأرض يلتقطون الحصى والحجارة يقذفون بها سائر الطير. هذه المرة؛ أنصت الفرخ جيدا لخطاب أبيه، وقلّب الأمر في فكره بوعي واهتمام، ثم سأله يقول: ما بالك يا أبي يغشّني هؤلاء الصبية المخادعون، وهم يخفون الحصى في جيوبهم أو ثنايا ثيابهم؟
عندها فقط؛ اطمأنّ الأب إلى سلامة تفكيره، ورجاحة عقله، وعراقة أصله وفصله، وردّ عليه يقول: لا بأس عليك. لا بأس عليك، منذ اليوم صرت مسؤولا عن نفسك. أنت ابن أمّك وأبيك؛ أنت دوريّ حقا. في الربيع القادم؛ سنراك عريسا؛ وحين تكوّن أسرتك بنفسك سنراك أبا حنونا، فاحترس جيدا لحالك، ولا خوف عليك بعد اليوم من الأفاعي والصيادين والطيور الكاسرة، ومن الصبية الأوغاد. حكّم عقلك فيما تقول أو تعمل، فلا تجرّك عواطفك إلى المهالك. تعلم من أغلاطك وإذا أخطأت مرّة، فإياك أن تكرّر الخطأ مرّتين. هيّا انصرف عنّي ودبّر أمورك بنفسك.
= = = = =
(*) حسام لم يكن طفلا متطلبا أو مدللا، ولم يكن بحاجة لأساعده يوما في دروسه. لم أدرّبه لاحقا على قيادة السيارات. ولم أعلمه السباحة. لا؛ ولا دفعت عنه قسطا سنويا كاملا في الجامعة. تخرّج بلا ضجة وضوضاء؛ مهندسا بامتياز. وبدأ يشقّ طريقه بنفسه بمنهجية واعية وتخطيط حكيم. الشكر لحسام. وكلّ الحمد لله.
(1) انشلع قلب الأم: خافت وانقطع قلبها. تعبير استخدمه محمد التميمي ولفتني في "أبحث عنك" في العدد 81 من "عود الند".
(2) الجلبوط: فرخ الطير قبل أن يتكامل ريشه. عاميّة.
◄ إبراهيم يوسف
▼ موضوعاتي
15 مشاركة منتدى
شكر لك ابي
انا لا املك مهارة اللغة العربية ولاكن ساكتب وآمل بلا اخطاء
لقد تعلمت الكثير منك في حياتي، فانت الاب المضحي وكحال الكثير من الآباء الصالحين، الجندي المجهول
لقد عملت بكد طوال مدة عملك ولم تبخل علي بشيئ فكيف اكون متطلباً؟ لقد كنت في صغري اراقبك وانت تقود السيارة بمهاره، بحذر وباحترام الآخرين "فالقيادة ادب" فكيف لم تعلمني القيادة؟
لقد علمتني كيف اعين نفسي بنفسي .. فكيف لم تساعدني؟
ويا ليتني كنت بحاجة اكثر الى المساعدة اليومية في دروسي ، لكنت قضيت وقتاً اكثر بجانبك.
آمل ان اعين ولدي كما اعنتني وان اعلمه كما علمتني لكي اكون فخور به وراضي عن نفسي.
الشكر لك ابي وكل الحمد لله
جميل هو النص
وجميل كان الرد
والأجمل أننا جميعا أصبحنا جزءا من هذا الموقف النبيل، وهذه المشاعر الراقية.
شكرا للأستاذ إبراهم، لحسام، ولعصفور الدوري الذي أسعد الجميع.
تحيتي
هذا الموضوع بالتحديد وضعك في مكان مرتفع، فأرجو أن تحافظ على هذه المكانة فلا تكتب ما هو أقل. ولكن يظهر أن حسام لم ينتفع كثيرا منك ومن دروس القواعد واللغة.
أشواق مليباري - السعودية
الشكر لاهتمامك المتواصل.. والعقبى لنجاح أولادك
مريم - القدس
أجل.. حسام ناجح في عمله. لكنه غير معني بقواعد اللغة العربية والإملاء، فلا يحتاج في عمله إلى الصرف والنحو والبلاغة، ولو سألني لصححت له ما كتب.. شكرا لك على حضورك وعلى الإطراء.
أبي الحبيب
أسرتني قصة العصفور بكل التفاصيل، وراودني فيض من المشاعر الجميلة التي لا يحسن اللسان ألتعبير عنها، وهي تترافق مع ولادة هادي.. هادي حفيدك الأول.. وأبوه ثروة تعبتَ في جمعها وكانت من نصيبي، فشكرا لك يا أبي..
لكن السن التي تتقاعد عند بلوغها لم يأتِ وقتها بعد؟ فما زالت أمامك مسؤولية التعليم مرة أخرى..؟ وأملي كبير أن يطيل الله في عمرك وأن تتولى في حينه هذه المسؤولية. فعسى ينجح أو يتفوق ويكون هادي أكثر اهتماماً بالعربي من حسام. شكرا لك يا أبي، كلنا نحبك.
نور
الأستاذ ابراهيم
كلامك الجميل الرقيق لامس قلبي وشعرت بكل كلماته، نجاح الابناء ما هو الا نتيجة سهر الليالي والتعب في التربية ولذلك فهو نجاح للآباء والامهات كذلك.
كما أود شكرك لإستخدامك واشارتك لكلمة استخدمتها سابقا وهذا شرف كبير لي.
الأخ الكريم الأستاذ محمد التميمي
لا زلتُ أشعرُ بالضعف والتقصير مع أسرتي وأولادي، فلم أتمكنْ أن أهزمَ عواطفي وأنانيتي معهم وأساوِهم بالغير من الناس، فلا أدري مثلاً لماذا سأميِّزُهم عن صِبْيَةٍ يبيعون العلكة، ويمسحون زجاج السيارات على مفارق الطرق، أو أحميهم من حرب طاحنة ووباء يطال سائر خلق الله، أو لماذا سأبني لهم بيتا وسواهم يعيش في العراء..؟ هذه دخيلتي وبعض هواجسي..! وعن المفردة التي أشرتَ إليها..؟ فأنا من يجب أن يتقدم منك بالامتنان ما دمت تعلمتُ منك كلمة مبتكرة ذات مدلول جديد.
لا خوف عليك بعد اليوم
ربما بالغت بالتقدير قليلا، حينما توقعت تعليقات أوسع على موضوع اعتبرته موفقا؟
مريم من القدس
بل وردني العديد من الرسائل الطويلة والتعليقات. أكثرها على بريدي من كتاب وقراء في عود الند. لكِ مني جزيل الشكر على اهتمامك ومحبتك. يسعدني الإطراء ولكنه لا يسكرني.
كم أحببت حسام .. وكم أحببت الدوري .. وكم تمنيت الطيران مثله
نورة عبد المهدي صلاح – فلسطين
أنا وحسام.. كما نور وهادي وزوجتي أيضاً، وسائر أسرتي.. جميعُنا أسرى محبتك يا سيدتي.
لو كنتُ منصفاً فعلاً..؟ لكان ينبغي أن أبادرَ بالتحية.. لأنني معجبٌ حقاً بما تكتبين.
شكراً جزيلاً على صفائِك ورقةِ مشاعرك.
ملحق
نورة عبد المهدي صلاح – فلسطين
أنا وحسام.. كما نور وهادي وزوجتي أيضاً، وسائر أسرتي.. جميعنا أسرى محبتك يا سيدتي.
لو كنت منصفا فعلاً..؟ لكان ينبغي أن أبادر بالتحية.. لأنني معجبٌ حقاً بما تكتبين.
شكراً جزيلاً على صفائك ورقة مشاعرك.
أنتِ على موعد آخر تلتقين فيه مع الدوري، على ضفاف نهرٍ أو غدير
الأخ العزيز ابراهيم تحية التقدير .
نصّك عميق وانسانيّ لا يحمل نفسا أدبيّا فحسب ، بل هو وصف لتجربة تحمل في طيّاتها معاني راقية وقِيَما أصيلة كالتّضحية والصّبر والمحبّة والامل والرّغبة في أن ينضج ولدك ليس جسديّا فحسب بل وأيضا في تدرّبه على المبادئ الايجابيّة والفاعلة .
دمت أديبا مبدعا و"انسانا مفرطا في انسانيته "
فتحي العكرمي – تونس
هي مراقبة نقلتها بأمانة دون أن أتوقع كل ما أحاط بها. فشكراً جزيلاً لك.. ولكن ألا ترى معي أن الإفراط في التعاطي مع الأشياء كالتقتير بها..؟ تَحَمَّلْ دعابتي يا صديقي.. وشكراً لك مرة أخرى.