عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

غانية الوناس - الجزائر

أكفانُ الفراشَات


غانية الوناسكان الوطنُ حزيناً في ذلك المساءْ، وقسنطينةُ(1) كانتْ باردةً جداً كقبرٍ يفتحُ فاه لاستقبال الموتى القادمينَ من زمنِ المجهول. كلّ شيءٍ كان غارقاً في السّواد كأنّما يقيمُ حداداً داخلياً، والسّماءُ كانت تشاركهم النّحيب فراحتْ تهطلُ بمطرٍ بدا وكأنّه يغسلُ المدينة منْ أوجاعها التي تراكمتْ. لكنّ من عساهُ يغسلُ تلك القلوبَ الّتي استحالت أحجاراً تضاهِي في قسوتها صخورَ الوادِي التي تجثو بصمتِ تحتَ الجسورِ المعلّقة تلك؟

معلّقةٌ قسنطينة كجسورها السّبعة في ذلك المساءْ الحزينِ ما بينَ الحلمِ والكابوس، عروساً تلبسُ البياضَ لحظةً، وأخرى يتلطّخُ بياضها دماءً، فيغدو الفرحُ مأتماً مفتوحاً على كلّ شيءْ. كانت تبكِي في صمتٍ موتَ عصفورين من الجنّة ذهبا ليلعبا خارجاً. كانا كملائكةٍ تزيّنُ الأرضَ بأرواحها، تلتقطُ الفرحَ من هنا وهناك، تجمعها في سحبٍ لتمطرَ أحلاماً وأمنياتٍ جميلةٍ للوطنْ.

خرج إبراهيم وهارون(2) ليسعدا بربيع قسنطينة التي كانتْ تبتسمُ لكلّ القادمينَ مهما كانتْ أعراقهم. كانت تبتسمُ للجّميعِ دون استثناء حتّى لتلك الوحوشِ الّتي كانت تسكنها بملامحَ بشريةٍ وقلوبٍ لا تعرفُ طريقاً للرّحمة، فمنذُ زمنٍ لم يعدُ الموتُ ضيفاً ولا زائراً ولا حتّى عابرَ سبيلٍ في هذا الوطن، فقد اعتاده النّاسُ وألفوهُ مذ صار رفيقَ دربهمْ؛ مذ صار يأتيهم مع الشّروقِ والغروب صباحاً ومساءً كقدرٍ لا يملكونَ إلاّ التعايشَ معه. صار الموتُ يأتيهمْ أصنافاً وأشكالاً، ولكن اللون كانَ واحداً: لون الدّماءِ الّتي ما جفّت بعد.

لم يكنِ الموتُ هذهِ المرّة مختلفاً كثيراً، لكنّهم اعتادوهُ غير اختيّاري أو انتقائيّ، فلما هذهِ المرّة غيّر من عاداته وطقوسه؟ لماذا اختارَ هذهِ المرّة أن يقطفَ براعم؟ لماذاَ اختارَ أن يغتالَ البراءةَ دون سواها؟ لماذا امتدّت أنيابهُ إلى الطفولةِ تنهشها وهي التي لم تخبر بعد من الحياةِ سوى طريقَ المدرسةِ والمدينةِ والشارعِ الّذي اعتادتْ اللعب فيه؟

جاء الموتُ صغيراً هذهِ المرّة، لم تعد تشبعهُ الرؤوسُ المقطوعة والأطرافُ المبتورةُ لأبناء هذا الوطنِ. صارتْ له أحلامٌ أكبر، لذلك جاءتْ على مقاسِ كفني إبراهيم وهارون.

خرجاَ للّعب ككلّ أطفالِ الوطنْ ولم يعوداَ في ذلك المساءِ لأنّ القدرَ ضربَ لهما موعداً مع موتٍ لم يخجلْ حتّى من عمرهما الصّغير، فراحَ يخنقُ فيهما آخر الأنفاسِ بسلكٍ من حقدٍ، بعدما استفرغَ في جسديهما الهزيلينِ كلّ جنونٍ ووحشيّةٍ ومرضٍ وانحلالْ.

خرجاَ ليلعبا وعاداَ محمّلينِ في كيسٍين بلاستيكيّين، ليُسدلَ حزنُ قسنطينةَ في ذلك المساءِ أسمالهُ الثّقيلةَ على كلّ شيءْ في الوطن.

لم تجفَ بعدُ دماءُ شيماء(3) ولا جفّت دموعُ أمّ معاذ. وها هي من جديدٍ تعودُ لتفتحَ فصلاً جديداً من فصُولِ الموتِ المجّانيّ.

أيّها الموتُ المزروعُ في ديّارنا كغرسٍ يناسبُ كلّ الفصولْ، تقدّم نحونا أنّى شئت فلسنا نخافكَ أبداً، لكن رفقاً بالطّفولةِ الّتي لم تُزهر بعد.

تقدّم، ففينا المقهورون المتعبون من هذهِ الحياةِ القاسية، فينا الموجُوعون من كلّ شيءْ، من يشتاقُون سكنى السّماء، فهلاّ أخذتهمْ بدل هؤلاءِ الّذين خرجوا لتوّهم إلى الحياةِ كفراشاتٍ يحملونَ أحلاماً لوطنٍ أجملْ؟ دعهمْ يكبرون لعلّ الوطنَ على أيديهمْ يعَود وطناً للجميعْ.

= = = =

هوامش

(1) مدينة تقع شرق الجزائر معروفة بجسورها المعلقة.

(2) طفلان قتلا في قسنطينة بعد الاعتداء عليهما.

(3) طفلة هي الأخرى قتلت في سلسلة جرائم اختطاف وقتل الأطفال شهدتها الجزائر خلال الفترة الماضية.

D 30 نيسان (أبريل) 2013     A غانية الوناس     C 7 تعليقات

5 مشاركة منتدى

  • لكأن هذا الوطن موعود بالحزن والعذاب، فما كادت أحداث العشرية السوداء تهدأ ويبهت لونها حتى ظهرت أيادي الغدر من جديد في موجة عبر الوطن من اختطاف الرؤوس الصغيرة هذه المرة والفتك بها، وكأن لهم مع شيماء وياسر وابراهيم وهارون ... ثأر قديم. أو لعله نوع من زعزعة أمن البلاد واستقرارها لدفع الشعب إلى احتضان "الربيع" من ثغرة " عدم وجود الأمن". إلا أن الربيع العربي لم يعد موضة في عالمنا كما جاء أول مرة. فشعبنا رغم عدم رضاه على متاعب وآفات وصعوبات و سياسات إلا أنه أكبر وأوعى من أن يغامر بمصيره في فصل واحد. فالربيع وحده لن يكفي وربما لن تكفي كل الفصول لإصلاح ما أفسده "الدهر".
    الجزائر أكبر منا جميعا وستبقى جميلة، وتبقى قسنطينة شامخة بجسورها، على الإنسان ان يتغير ويعمل ويصحح كل يوم وفصل وعام وإلى الأبد. شعبنا الذي عاش المحن والصعاب وعانى الويلات لن يكرر التجارب الفاشلة حتى ولو انتظر طويلا، رغم دعوة الداعين، لأنه يحفظ الدروس جيدا ويدرك قيمة أن يكون له وطن.

    وفقك الله غانية وإلى مزيد من التألق إن شاء الله.


    • من ذلك الحزنِ تحديداً يبزغ الفجر،وتشرق الشمس،
      ويعانق الأمل أوجاع الوطن، ليصنع منها بلسماً لجراحه..

      الايمان بالوطن بعد الله يمنحننا ثقة بأنّه يوماً ما سيعود وطناً يضمّ الجميع دون استثناء..

      الغالية زهرة شكراً للدعم الدائم بكلماتك ، سعيدة جداً بكِ دائماً..

      تحياتِي

  • رحم الله إبراهيم و هارون و شيماء. حادثة مروعة هزت قسنطينة والبلد بشكل عام. تلك الجريمة التي أبت إلا أن تكون نقطة فاصلة في حياة الطفولة في هذه المدينة الخالدة. انها جريمة إغتيال الطفولة و إختطاف البراءة.

    قسنطينة تلك المدينة التي أتحف فيها الكتاب و أبدع فيها أهل الفن واستأنس فيها الغرباء. انها مدينة الجسور، بلد العباقرة كابن باديس و مالك ابن نبي و أحلام مستغامني و حسيبة بلمرقة وغيرهم من المبدعين من أهل الفكر والفن والسياسة. تلك المدينة الرومانسية العصية على الحزن ستعود لسحرها و أنسها بمباركة ربها ومن ثم بعزيمة أهلها. لا تنحني للموت و لكن تهزمه لتبقى تتنفس نسمات الحياة و الأمل

    أحسنت الوصف يا غانية و مرة أخرى أجدك تكلمين بالنيابة عن الكثيرين و تعبرين عما في داخلهم باسلوب أدبي جميل. أعجبنتي جدا البداية بوضع القارئ في جو عام تمهيدي للحدث. فرسم الصورة في أول النص هو القالب الحاوي للخبر و المحتوى.

    إيصال الفكرة والمغزى عبر نص أدبي ومختصر و متماسك ليس بالامر السهل ... كنت موفقة جدا في إدارة النص و اخراجه

    و يا لها رسالة لهادم اللذات! ... (الموت) ... ذلك القدر المظلوم الذي لنا حق في كرهه لكن


    • أخي أحمد،

      قسنطينة كما وصفتها كانت وستبقى عصيّةً على الحزن،

      وفي كل مرّة سوف تنفض عنها غبار الألم لتقف صامدةً كما جسورها المعلّقة.

      هي الكتابة طريقتنا في التعبير ، أتمنّى أنّي وقفت في نقل الصورة كما هي، دون مبالغة ودون تقصير أيضاً..

      شكراً جزيلاً على الدّعم الدائم.

      تحياتي لك.

  • وحده عنوان ما كتبتي يجعلنا نقف إحتراما له وتقديرا لما كتبت ..


  • من المحزن حقا أن يرتبط اسم تلك المدينة العظيمة التي سحرتنا بجماله وتاريخها بحادثة أليمة...
    ومع كل الألم الذي يحمله العنوان قبل النص فقد وفقت غانية في ملامسة آلام الشعب الجزائري والتي هي آلامنا جميعا.
    أضم صوتي للأستاذ أحمد.. فالموت" القدر المظلوم" هنا كان سلعة صنعتها وروجتها أيد خبيثة

    شكرا لك
    تحيتي


  • جميل أن يسعدني الحظ بالقراءة عن قسطنينة مرة أخرى من قلم آخر غير احلام المستغانمي , ذكرتني بالجسور السابعة أو القناطر كما تطلقون عليها , برغم بشع الجرم الذي ذكرتيه في قصتك , إلا انني مازلت اتمنى رؤية قسنطينة ذات يوماً , أرجوكِ لاتتوقفي في الكتابة عنها فهي لم تعد حكراً على ساكنيها فقط , صارت ملك لقراءك أنتِ واحلام ..شكرا لنصك الرائع


في العدد نفسه

عن مبدع الغلاف

كلمة العدد 83: "عود الند" تكمل سنتها السابعة

كتابة التاريخ من منظور نسوي

كيف نقرأ مرجعا أدبيا؟

الأدب المقارن: النشأة والتطور