فتحي العكرمي - تونس
الفرح على تخوم الحرب
عرفَته المدينة شجاعا ومحبّا للضّعفاء وللمظلومين. يهاب الجميع عضلاته المفتولة. يقضّي وقته مستعدّا لنُصرة الغرباء. يتدخّل لفضّ الخلافات التي تقع في المقاهي وفي السّوق. ينتقل من حفلات الزّفاف إلى المآتم ناصحا ومساعدا.
جمّع حياته في قِيَم الكرَم فأطلقوا عليه كنية الطّاهر.
ذات توحّش، نشبت الحرب في المدينة المجاورة فقرّر الذّهاب إلى المخيّم لمساعدة اللاّجئين. ساعده جسده القويّ على تحمّل مشاقّ السّفر في صحراء شاسعة. دلّه رجل يرعى الإبل على الطّريق الذي أوصله إلى مخيّم واسع تقطنه عائلات جاءت من جهات وديانات مختلفة.
تطلع الشّمس حاملة معها لهيبا ينثر قلقا وفراغا. يجلس الرّجال تحت الخِيام يسردون ذكرياتهم التي تركوها في أوطانهم. يلتقي الشبّان حول أحلام قتلتها الحرب.
حين يهبط الظّلام، تظهر أضواء خافتة تتسلّل من أبواب الخيام. يمرّ اللّيل طويلا مصبوغا بالخوف من المجهول .
طلع النّهار، وتحلّق الرّجال حول شيخ أسمر على ملامحه علامات الوقار والحِكمة. أخذ يحدّثهم قائلا: "لقد أذاقتنا الحرب أهوال الخوف والتشرّد، نحصد منها موتا عبثيّا ونزرع للأجيال القادمة ألغام الفَناء وأشواك العجز.
سأله كهل: "كيف وصلتم إلى هذا المخيّم؟"
"كان إعراسا طويلا ننزل لنرتاح ثمّ نرحل. قطعنا الفيافي بحثا عن حياة خارج مدن العنف وخارج أرض لا تُنبِت سوى الفجائع. قَدَرنا الغربة الدّائمة في الوطن والقلق الموحش في المخيّم. لا نستقرّ على حزن ولا على فرح نسامر التشرّد."
قال شابّ مستغربا: "لماذا نشبت الحرب؟"
"داخلنا جانب متوحّش يفوق طبيعة الحيوان المفترس. نفتكّ حياة الآخرين دون موجب رغبة في التّدمير وفي القضاء على ما تبقّى من إنسانية تتسوّل الحياة."
نظر الشّيخ إلى الطّاهر وسأله: "لماذا جئت إلى هنا؟"
"لأحيا معكم معاناة أنتم قُربانها دون ذنب."
مرّت أشهر من الرّتابة والفراغ، كان القلق يسيل مثل ماء في تجاويف أرض عاقر.
جمعت الطّاهر وحفيدة الشّيخ تجربة عشق على حافّة الغربة. قرّر خطبتها. سأله الشّيخ: "كيف يكون الزّواج ممكنا بين غرباء يقبعون على تخوم الحياة خارج الوطن وبلا أهل؟"
"نريد حياة تسَع الجميع، نرغب في حالة سِلم دائمة تحيا فيها الشّعوب المختلفة في الدّيانة وفي العادات فكلّنا ننتمي للإنسانية ونشترك في الوجود.
في المساء، أشعلوا نارا أمام المخيّم وأقاموا طقوس الاحتفال بزواج الطّاهر.
تجاورت الرّقصات والأجساد والأرواح على مقربة من الحرب وداخل لحظة فرح عابرة مثل غيمة صيف.
◄ فتحي العكرمي
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
2 مشاركة منتدى
الفرح على تخوم الحرب, إبراهيم يوسف - لبنان | 10 أيار (مايو) 2013 - 08:55 1
فتحي العكرمي – تونس
الحياة تتسع للجميع، وخيرات الأرض تكفي وتفيض.. لكن العلة في البشر يضيق بعضهم ببعض.
سحرتني طبيعة تونس هذا البلد الجميل بأرضه وأهله، وأنا أقرأ كتابا مترجما: ( من تونس إلى القيروان) للكاتب الفرنسي (غي دو موپاسان).
مع خالص محبتي واحترامي لسائر أبناء هذا البلد الشقيق.
1. الفرح على تخوم الحرب, 10 أيار (مايو) 2013, 13:29, ::::: فتحي العكرمي - تونس
عميق التقدير والمحبة اخي ابراهيم .
بالفعل الحياة تسع الجميع . والاختلاف في المعتقدات والثقافات والعادات والطقوس هو من صميم الحياة ذاتها . المشكل هو سطوة الانانية والتعصّب وإرادة الشرّ - وليس الخير- مع سيطرة الحقيقة الواحدة والفكرة المطلقة حيث يطغى التعصّب والعنف والموت والحروب والتوحّش هذا ما أردته سرده في بداية القصة التي أردتها منفتحة في نهايتها على فرح ممكن وعلى حلم قائم وعلى أمل سيظلّ مرافقا الانسانية .
لك جزيل الشكر
الفرح على تخوم الحرب, مريم - القدس | 10 أيار (مايو) 2013 - 13:02 2
حكاية" الطاهر" الرجل الصالح. هي حكاية شعب تمسك بالحياة والأمل.. حكاية الشعب الفلسطيني نفسه، من عاش كل الإجتياحات الإسرائلية التي لم تبق ولم تذر. كثيرة هي دماء الشهداء التي روت الأرض. لكن كل ما جرى لم يمنع المقبلون على الزواج، من أن يقيموا الأفراح في ساعات النهار المختلفة عندما يرفع حظر التجوال. ليس استهتارآ بالمعاناة ودماء الشهداء بل قهرآ للعدو وإصرارآ على أن القيد مهما طال سينكسر أمام النصر وإرادة الحياة .
1. الفرح على تخوم الحرب, 10 أيار (مايو) 2013, 13:24, ::::: فتحي العكرمي - تونس
جزيل الشكر الاخت مريم على التفاعل مع القصة . أردتها تشخيصا لواقع يطغى فيه التوحّش والحرب والعنف والدّمار وانتهاك حق كل انسان في الحياة والفرح والجمال . الجزء الاخير من القصة يحمل أفقا حالما وأملا في أن يعمّ السّلام والمحبّة وقِيم الانسانية .
لك جزيل الشكر والتقدير