عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

أيمن عبد السلام - السودان

اجترار


إليكم يا من تموتون كمدا بأوجاع الماضي، وتموت أحلامكم على قارعة الطريق

أيمن عبد السلامقرص الشمس البعيد الغارق في بحر نظراته نحو تلك الأرض الظالم أهلها، يغازل ذلك الأفق القصي وقد احمر خجلاً، يداعبه عله يستكين ويرضى فيتوارى خلفه معلنا حلول الظلام الحالك، وهبوط الليل الذي كتب الله فيه السكينة على بني البشر قبل أن يتخذوه ستارا للظلمات، تحاك خلفه المؤامرات والحيل الخبيثة وخطط الهروب والفجيعة.

رمال الشاطئ الذهبية المبتلة لبست حلتها الحمراء وكأنها تودعني بدموع من دم وماء، ورفعت الأشجار البعيدة فروعها عاليا، تودعني هي الأخرى، وتغمرني بأبيات العتاب واللوم الأليم، وكأني بها تقول هنا الوطن، عد كما تعود الطيور إلى أعشاشها، وأصنع لنفسك عشا على أغصاني.

وأكاد أجزم بأني رأيت دموعا تجري بين تلك الأغصان من على ذلك البعد. رأيت فيها دموع التَرَح على عمر ضاع ما بين معول يضرب في عمق الصخر بحثا عن جرامات الذهب وبين أمواج البحر العميقة.

ربما أعود يوما لأمسح تلك الدموع، أو ربما لن أعود، من يدري؟ هي سيناريوهات خطتها مخيلتي الصدئة؛ قصص كتبتها وأجدت حبكتها مع من حولي، فكانوا أبطالا لها. لا أجد تبريرا لذلك، ولا أدري ما هي العلاقة بينها والواقع سوى أنه الجنون.

ربما أمتهن الرعي أو السواقة، لكن المهم في الأمر أن الغموض يكتنف الأشياء، يجمعها هينة ويطرحها أخرى، ويجعل منها كتلة من الألم.

الأمواج من حولنا تتلاطم في عنف مفتعل لا يرحم، لا تأبه لنا ولا لأحلامنا المنكسرة الضائعة، فبدا لنا جليا سوء نيتها تجاهنا وتجاه المركب (السنبك). ربما لن نصل لتلك الضفة البعيدة، الغارقة خلف خط الأفق العميق، وستغادرنا أرواحنا وقبلها أمل الوصول، وستغرق في لجة ذلك البحر وزخم الأمواج، وأقله ذلك البحر يعرف ماذا يريد ويتقن فن الإغراء: تعالوا إلي، فخلفي تقبع الجنة حيث الوطن الجديد الذي سيحتويكم. فضائي مفتوح لكم. لا أطلب جوازا أو أوراقا ثبوتية. فقط مجموعة من المجهولين، لا أحد يعلم عنهم شيئا.

أيها البحر نحن من تطلب، نحن أنفسنا لا نعلم من نحن، ولا إلى أين ننتمي، ولا نعلم لماذا يلفظنا الوطن، نتلاطم كما تتلاطم أمواجك العاتية. إلى أين نذهب وفي أي اتجاه نضرب، من أين نأتي ومن يأخذ بأيدينا، وبيد من نأخذ؟ فقط، نفكر ونفكر ثم نجلس فنستريح، وبعد برهة قصيرة تتملكنا موجات التفكير من جديد.

قطع خيالي (ريس) المركب بصوته الحاد محاولا مجاراة ضجيج الأمواج من حوله قائلا: ستبدأ الرحلة. نظرت إليه بابتسامة مكسورة وكأني أحدثه قائلا: الرحلة لم تبدأ اليوم ولا البارحة ولا حتى قبل ثلاث سنوات، والناس حولي ينتظرون دورهم لدخول البئر بحثا عن الذهب في تلك الصحراء القائظة.

كانوا ينادونني بالأسطورة، الرجل الصعب، رجل المستحيل، يبقى داخل البئر ساعات طوال دون أن يكل أو يمل أو يؤثر الحر القاتل على جلده، فكنت أخاطبهم: الرجل الأسطورة هو رجل ميت مدفون لا حياة فيه، تصيبه الأشواك حتى على فراش الحرير، وتلك رحلة أخرى وقصة جديدة، وحوارات مع أشخاص لا يعرفون إلا لغة الهجير، ثم لف الصمت المهيب ذلك المركب، لا تسمع إلا صوت المحرك وهو يدور، وتلاطم الأمواج المميتة هنا وهناك، ودقات القلب المتسارعة واجترار الذاكرة.

تجولت بناظري على تلك الوجوه داخل المركب، سحنات مختلفة، لغات ولهجات مختلفة، بعضهم فضل السكون مع نصف ابتسامة مكسورة، والبعض الآخر فضل الاكفهرار والنظر إلى الماء، جميعهم يدَّعون القوة ورباطة الجأش، ولكن سرعان ما زالت تلك القوة وحل الخوف محل الشجاعة عندما اضطررنا لإلقاء أحد المسافرين من على سطح المركب بعد أن مات بردا وقهرا، ثم طوقت تلك الرائحة الكريهة المركب. إنها رائحة الموت المخيفة.

ضرب بنا ذلك المركب المخيف شاقا طريقه نحو الضفة الأخرى. ستمضي أيام لن نرى فيها سوى الأمواج الهائجة والجائعة التي تحاول التهامنا بنهم. هنا يصبح الموت رفيقا لنا، يحاصرنا من كل الجهات، يتتبعنا كالظل في انتظار الهفوة، المياه حولنا تموج والهواء البارد يكاد يفتك بعظامنا المتهالكة وأمعائنا الفارغة. ماء فقط يحيطنا من كل الجهات.

أنا واثنان لا غير، لفظنا ذلك المركب إلى بر الأمان، تنفسنا عبير الحياة من جديد، أحسسنا بالدماء تجري في عروقنا وتجرف ذلك الصمت القاتل بمزيج من الضحكات والقهقهات، شعرنا بنصر كبير، قهرنا ذلك البحر الهائج بصمت الأمنيات وأنفاس المعذبين، رفعنا رؤوسنا بتعب نحو الأفق من جديد ولكن هذه المرة صحراء لا نبات فيها ولا إنسان، فقط ليال من السير والتعب وبعض الذكريات.

جلسنا إلى صخرة بدا عليها الصمم والتجهم والصلابة ، نظرت إلى صاحبي فوجدتهما مغموسين في بحور الذكريات حد الغرق والتوهان. أسندت ظهري جيدا إلى الصخرة ثم عدت بذاكرتي إلى تلك الأيام من جديد، قبل ثلاث سنوات بالتحديد، في تلك الصحراء القاحلة، وضربات المعاول تشق الصخر بحثا عن الذهب، تعلو وتهبط، يحملها أناس تقطعت بهم السبل، تتلاطم أمواج العرق على جباههم كأمواج البحر أو أشد، يقتاتون قسوة الأرض ويشربون كأس التعب، ثم لا يعودون إلا بجرامات من الذهب لا تغني ولا تشبع، فقط تزيد النفس جوعا.

ورائحة الموت هناك تلف المكان، هي كرائحة الخرطوم عندما عدت إليها خالي الوفاض، بلا ذهب، تشربت أنفي تلك الرائحة القديمة، هي مزيج بين أنفاس الناس وغبار عوادم السيارات التي ذاقت الويل من كثرة الكَدَح وحرارة الشمس التي أذابت حديدها الصدئ.

كانت والدتي في انتظاري برفقة أخي الصغير، تنظر إلي من بعيد وأنا محمل بأمتعتي وعناء السفر الطويل، كانت عيناها تكتنز دموعا غلبها الشوق واللهفة، وكان أخي الصغير يبتسم ابتسامته الجميلة التي عهدتها فيه، تلك التي دائما ما تذكرني بريح الصبا عندما كنا أطفالا بعمر الزهور، كنا بلا ألم ، أحلامنا بيضاء بلون الحليب، وقلوبنا صافية كالعسل، لا يقلقها حقد ولا ضجر وإنما تكسوها براءة السنين المخملية، وعذرية القصة. الأن أصبحت قلوبنا منكسرة رغم الابتسامة المجبورة، لا ماض ولا حاضر. فقط تعب وقلق وأمنيات أرهقها طول الانتظار فماتت على قارعة الطريق.

فجأة اختفى شريط الأمنيات البارد بلون الماضي من أمام ناظري، أبصرت رفيقيَّ وقد تركاني هائما بذكرياتي وقد أعطياني ظهريهما وتقدماني المسير، يجرجران الخطى كعجوزين يائسين وقد بدا عليهما التعب، يمشيان الهوينى على ظهر الأرض اليابسة. لحقت بهما بجهد مضن، حاولت أن أكلمهما ولكن لساني خذلني، أحسسته أيضا يجرجر الكلمات جرا كما نمشي نحن، فسكت.

كان الصمت أبلغ إجابة عندما سألني أخي وأنا أتخطى عتبات الميناء عائدا إلى أرض الوطن، عدت إليه مثلما خرجت أول مرة بلا شيء.

قال متألما: "لماذا عدت بنفس وجهك القديم؟ ألم تجد قناعا مبتسما تغطي به هذا الوجه وتخفي هذه الابتسامة المحروقة؟"

دثرني الصمت المر من جديد ، وقلبت يديَّ بحسرة على ما مضى. وأنا أنظر من جديد نحو الأفق رأيت الشمس تغازل الأفق من جديد، محاولةً هذه المرة الهروب من نظراتي الباردة المتبلدة، والأشجار ما تزال بنفس ذلك الحزن القديم والدموع.

D 30 نيسان (أبريل) 2013     A أيمن عبد السلام     C 2 تعليقات

2 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

عن مبدع الغلاف

كلمة العدد 83: "عود الند" تكمل سنتها السابعة

كتابة التاريخ من منظور نسوي

كيف نقرأ مرجعا أدبيا؟

الأدب المقارن: النشأة والتطور