عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

شروق محمد حسان - الأردن

بيوت تبكي ومآس تتراكم


شروق محمد حساننتكلم، ونتكلم، ونتكلم، ولطالما تكلمنا. لكن ليس هناك من يسمع. أو ربما يسمعون، لكنهم يتجاهلون كل الأصوات، ولا نعرف إلى متى سيستمر هذا الحال.

صرخات وأنات، تؤرق ليلهم الطويل، حتى نهارهم، يشبه ليلهم. ومن الضحية؟

الضحية تلك الأم الكبيرة العاجزة، التي تسهر الليالي الطوال، ترعاهم، تخدمهم، تواسيهم، فلا تقر عينها، ولا أعينهم.

ابنة مطلقة، أبناؤها مرضى. لربما يشفى المريض من مرضه، لكن هؤلاء لا يبرؤون.

وأخوة وأخوات مرضى، لا يميزون بين الصواب و الخطأ. والمسؤولية تقع على عاتق الأم.

جاوز الثمانين من العمر، سرطان وأمراض تنتشر بأجساد بعض أبنائه، والأصحاء، لا يعون شيئا، ليس لمرض، أو هم، أو وباء.

ولكن لقسوة غلفت قلوبهم، قسوة بنت جدارا منيعا في صدورهم، منعتهم من الشعور.
يترقبون متى سيأتي الموت لينشب أظفاره في قلب البيت.

ومن الذي يعاني؟ ذلك الأب ذو القلب الجريح.

قصص أخرى كثيرة تدمي القلب قبل أن تدمع العين. فقر وعوز ومرض، يسود أجواء تلك البيوت. ربما يكون المال هو الحل. يد حنون، وقلب رؤوف، وشعور متشارك، وإحساس بالمسؤولية، هذا ما يحتاجه أولئك الناس.

تلك المصائب ابتلاء من رب العباد، يصبر أصحابها، طمعا في الحصول على الأجر العظيم من العلي القدير. ولكن امرأة تمضي يومها دون لقمة تمدها بطاقة لتقوم بأعمالها، أو كسرة من رغيف خبز، تطعهما لأبنائها تسكت بها جوعهم.

بشعور غريب، ومقلة تدمع، تمسك إبرتها، وتكمل أعمال الخياطة، لعلها تجني بعض المال الذي تستطيع أن تخبئه لها ولأولادها. وماذا يجني الأب؟ مالا، ينفقه لإرضاء غانياته، وإشباع رغباته.

أيكفي ماله؟ لا، يسرق ما تجنيه زوجته من مال، فنزواته أعلى وأجل من متطلبات بيته، وفرح أبنائه.

وأهل المرأة؟ "لا نستقبل امرأة مطلقة، فلا حق لك هنا، ولك أبناء، من سيعتني بهم، من سينفق عليهم؟ إما أن تلقي بهم لوالدهم. أو ارضِ بما كتبه الله لكِ من عذاب، فهذا نصيبك".

تلقي بهم. ما أشدها من كلمة. لذلك، ترضى بالعيش الذي كتب لها، صابرة، صامتة، لا تشتكي لبشر، وإنما تبث شكواها لله.

امرأة أخرى تذيب مكعب مرقة الدجاج في الماء، وتضع داخله خبزا كالحجر، بل أشد قساوة، فهذا ما لديها لتطعم أطفالها. تنتظر الصدقات التي قد تأتيها من الجيران والأقارب، وقد لا تأتيها، فترضى بشعور أبنائها بالشبع.

ما يحرق قلبها، نحول رضيعتها، وقلة تغذيتها. الزوج غائب عن البيت بحجة البحث عن العمل، وإن وجد، فالراتب لإعطاء المدينين حقوقهم، ودفع إيجار البيت.

إيجار بيت لم يدفع منذ أشهر؟ مدينين لم يعطوا مالا؟ أين يغيب؟ تبقى أسراراً لا نعلمها، أما هي فقد تموت من اليأس.

قريبا، ستضع مولودها الأول، لكنها لا تتناول طعاما مغذيا، تنتظر زيارة والدتها لتحضر لها بعض الخضار والحبوب، كي تتغذى.

وملابس الطفل الجديد "الديارة"، التي تتمنى كل أم تحضيرها لطفلها، ما زالت في محلات بيع ملابس الأطفال، تنظر لها كلما مرت أمام أحد تلك المحلات، فهي لا تجد مالا لشرائها.

شهادة علقت على الجدار، واجتهاد سنوات ذهب أدراج الرياح، وشكوك مثارة حولها، فهو لا يثق بها. ألعيب فيها؟ لا، ولكن لدروب سلكها ويخشى أن تسلكها زوجته. المال الذي يكسبه ينفقه على "الفشخرة"، لأن "بريستيجه" لا يسمح له بشراء العطور الرخيصة، أو الملابس القطنية العادية، فمستلزماته، أولى من غذاء زوجته.

من جهة أخرى، زوجة خائنة، لم تحسب حسابا لزوج يعمل طوال الليل والنهار لتأمين احتياجاتها، واحتياجات أبنائها، ولا لوالد ذاع صيته بين الناس، واشتهر بكرمه، وقدرته على حل المشكلات، والتربية الرائعة لأبنائه وبناته.

لكن لكل قاعدة شواذها، فمن بين جميع أبنائه وبناته، كانت مستمتعة بخيانة زوجها، وخيانة ثقة أهلها.

أولاد صغار، لم يتجاوز أكبرهم أربع سنوات، لا يعلمون ما يحصل من حولهم، يستقبلون ضيف والدتهم بأدب جم، فرحين بالحلويات التي يحضرها لهم. وتبقى خيانتها سرها الصغير.

أهو ابتلاء لاختبار صبرهن؟ نساء رقيقات، يجري الزمن على ظهورهن، فيكسرها، ويبقى الرجل خارج إطار الإنسانية. أم اختبار لرجل، واثق بزوجته، فهي بنظره ملاك لا يخطئ، وتبقى الزوجة خارج إطار الطهارة؟

بيوت تسعى للحصول على السعادة، من أي مكان، لا يهم. وبيوت همها كسب المال، من أي مكان، لا يهم. بيوت تمتلئ سعادة ورضى، تسعى للحصول على الصحة، من أي مكان، لا يهم. بيوت تفتقد شيئا ما، وتسعى للحصول عليه، من أي مكان، لا يهم.

بيوت تبكي لمآسي ساكنيها، وجدران تكاد تتهدم من شدة الألم، وأبواب لربما تنخلع يوما ما من قوة الأنات، ونوافذ تكسرت من حرارة أنفاس الأسى، وأرضية تتشقق من شدة اليأس، فتبقى البيوت خارج إطار السلام، ويبقى البشر خارج إطار الحياة.

D 25 أيار (مايو) 2013     A شروق حسان     C 11 تعليقات

6 مشاركة منتدى

  • حدث لي هذا حين قرأت بداية ونهايةلنجيب محفوظ وأنا في عمر المراهقة. قذفت الكتاب بعيداً وخرجت.لابد أنني سرت أكثر من خمس دقائق فقد وجدتني على شاطئ النيل الأزرق.هناك مشارع للنزول إلى الماء قريبة أعرفها جيداً ولكني نزلت على الوعر الذي أمامي مباشرة وسرت في الماء حتى بلغ الماء تراقيَ.وحين لفحت وجهي موجة ذات رغوة صحوت وعدت أدراجي سابحاًوعدت إلى البيت ولم أقل لأحد.وحدث هذا ثانية مع كتاب غربي أظن أن إسمه(إنترمتزو)والآن هل أستطيع أن أقذف باللابتوب وأنا في هذا العمر وهو بهذا السعر؟لم أستطع فكرت أن أرسل الموضوع إلى صديق .المشاركة قد تخفف المعاناة.لم أفعل.هرشت رأسي التي لم يبق بها من الشعر إلا القليل وضعت اللابتوب جانباً.نمت وأنا أفكر لماذا تستطيع بعض الكتابات أن تخرجني عن طوري.لم أعرف حتى الآن الوتر الذي تلامسه هذه الكتابات ولا الرابط بينهاولكني أعرفها من أول الصفحة وأظل أخشاهاوأتحايل عليها بتقطيع القراءة ولكن دائماً يحدث مايحدث.هل عليَ أن أشكرك على إعادة إنتاج الزلزلة؟ أعتقد ذلك.شكراً


  • الأخت شروق
    موضوع مهم جدا، ومآسي تتراكم في كل بلد، مشاكل والحلول جزئية، وتبقى البيوت تحتضن الأسرار.

    وددت لو أنك أفردت كل قصة بنص، وأضفت بعض التفاصيل.

    شكرا لك
    تحيتي


    • عزيزتي أشواق.
      يعجز الإنسان عن وصف معناة الآخرين، فلو أردت أن أصف كل قصة، لاحتجت لصفحات طوال، ولن أوصل المعاناة كما هي. وبنفس الوقت ، مهما اختصرنا الكلام، يبقى اللسان عاجزا عن الوصف، ويبقى القلم ينزف ألما وهو يجري على الصفحات.
      شكرا لك.

  • في ظل الظروف الصعبة التي نحياهاوالإنهيار الإقتصادي الذي نعاني

    آثارة السلبية على مجتمعاتنا ..وما نتعرض له من هجمات

    مستعرة تعنى بالقضاء على ما بقي لنا من القيم

    والأخلاق ،ما علينا يا صديقتي إلا التمسك بالإيمان

    والأمل بغد مشرق ..ونظرة ملؤها البشاشة والتفاؤل ..

    شكرآ صديقتي ..دعي الألم جانبآ وابتسمي


  • اختراق حقيقي بنمط فني كشعاع الاكس ري لواقع بائس مستور ومليء بالعقد والاحتقان والمعاناة ! أحسنت


  • لكل إنسان قصة حياة تختلف عن الأخرى لكن كلها مشتركة في البؤس.

    كل حملته ظروفه على الشقاء فألبسته الرث وأطعمته الفتات أوسرقت منه الطمأنينة والأمان و الأحلام.

    كل حالة تصلح لأن تكون قصة قائمة بذاتها على رأي الأستاذة أشواق، أو سيناريو لفيلم.

    ما أشقى الإنسان في ظل غياب الحلول وما أعقل الحيوان وأهنأه.

    هل رأيتم بقرة تثور لأنها لم تجد ما تأكله؟أو لأنها لم تجد ماتشربه؟ أو لأن حبيبها الثور تحول إلى بقرة أخرى؟

    هل رأيتم حيوانا يصاب بالإرهاق العصبي؟

    الحيوان عاقل في هذا المضمار. والمشكلة المشكلة أن الإنسان..إنسان!!


    • عزيزتي زهرة يبرم، لربما كان كلامك صحيحا، فالحيوان لا يعبئ بهذه المشاكل، ولكني، من وجهة نظري، لا أحبذ مقارنة الإنسان مع الحيوان. لأن الإنسان هو خليط من المشاعر والأحاسيس، قد تقوده هذه المشاعر لأن يجد حلا لمشكلته، وقد تجعله يقف مدهوشا مصدوما بحيقة الواقع المر، فيبقى عليه في كل الأحوال أن يصبر ويحمد الله في السراء والضراء.
      شكرا لك على التعليق، وشكرا لقرائتك مقالي المتواضع ^_^

  • ابداع .. تألق .. أحلام بحجم الجبال ..
    وفي ليله وضحاها تبقى قلبل من الأحلام تلوح بالأفق كسراب صحراء قاحلة ..
    هذا هو واقعنا العربي ..
    الهروب ليس حلا .. ربمـا الاحتكاك بالمشـاكـل هو أفضـل طريق للتخلــص منهــــا ..
    لأناملك كل الاحترام وكل التقدير اختي ام خالد


في العدد نفسه

كلمة العدد 84: "عود الند" تبدأ سنتها الثامنة

تراثنا الأدبي بين الوحدة والتنوع

قراءة في ديوان للهكواتي

خصوصية الإبداع الروائي لدى نجيب محفوظ

سينما: فيلم المجهول