عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

محمد محمود التميمي - الأردن

مرايا


محمد التميميكان صانع مرايا؛ يُشكل ويَصقل مختلف الأشكال والأحجام وحتى الألوان من المرايا، لا تخفى عليه واردة أو شاردة في هذه المهنة؛ فهو منذ أربعين عاماً او يزيد في هذا الكار.

في كل مرة ينتهي من صنع مرآة، ينظر إليها فتكشف له عن أدق تفاصيله؛ شعرات لحيته البيضاء وما تخفيه من جرح قديم بفعل مرآة مكسورة أول عهده بالمهنة، وتفاصيل وجهه وخطوط الزمن فيه.

لكنه كان يريد هذه المرة انعكاس شيءٍ آخر، غير تفاصيل جسده. يريد غير صورة اللحم والدم التي تعكسها هذه المرايا منذ أربعين سنة أو يزيد، يريد من المرايا أن تعكس ما يكون خلف هذا الوجه وأخاديده من أحاسيس ومشاعر وأحلام وآمال، يريد أن يرى هذه النفس التي تسكن الجسد، يريد أن يحقق حلمه في أن تكون للنفس مرآة تقف أمامها لتزينها كما تقف الأجساد أمام المرايا لتتأنق، فقرر أن يصنع مرآة لذلك.

اعتكف في ورشته، وبدأ يحاول صنع هذه المرآة التي ستعكس له مزاجه اليومي، خوفه المستقبلي، ماضيه وأسراره، جنونه وحزنه وكل ما يمر في النفس من مشاعر وهواجس.

مكث ردحاً من الزمن دون أن يخرج بنتيجة، جرب المرايا المحدبة والمقعرة ودرس قوانين الفيزياء والرياضيات وكل النظريات المتعلقة بالمرايا دون أن يقترب من الحل قيد أنملة، وكيف سيعكس العالم المادي ما يجول في النفس من عواطف وأحاسيس؟

وقف أمام آخر محاولاته الفاشلة، أطال النظر فيها، لم تعكس سوى صورة جسده الهزيل جراء العمل المرهق ووجهه العابس كدليل على إخافاقاته المتكررة.

غضب وزمجر، وأرغى وأزبد شاتماً كل هذه المرايا، ثم صمت لوهلة قبل أن يبدأ بتحطيم جميع المرايا من حوله وتحويلها إلى ركام في لحظات. انتهت قوته مع آخر مرآة حطمها. جلس على الأرض لاهثاً ونفسه ليست بأحسن حالاً من المرايا المحطمة من حوله، معترفاً في قرارة نفسه بالعجز والفشل. الإعتراف وتكسير المرايا أعطاه بعض القوة ليلملم حطام نفسه ويطفق عائداً الي بيته.

هناك استقبلته بإبتسامة عذبة، كماء ينبوع جبلي رقراق، وما أن نظرت إليه وتبينت ملامحه سألته قلقة:"ما بالك يا عزيزي؟ من كدر نفسك وأرهق روحك وأتعب جسدك؟"

نظر إليها ليجيب، فوقعت عيناه في بحر عينيها، مبحرأ بشريط حياته، ماضيه وأسراره، مستقبله ومخاوفه، أحاسيسه ومشاعره وخلجات نفسه. أراد الصياح بأعلى صوته: "وجدتها، وجدتها"، إلا إنه اكتفى بالإبتسام مخاطباً إياها: "أحبك يا مرآتي".

D 25 أيار (مايو) 2013     A محمد التميمي     C 20 تعليقات

12 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 84: "عود الند" تبدأ سنتها الثامنة

تراثنا الأدبي بين الوحدة والتنوع

قراءة في ديوان للهكواتي

خصوصية الإبداع الروائي لدى نجيب محفوظ

سينما: فيلم المجهول