محمد محمود التميمي - الأردن
مرايا
كان صانع مرايا؛ يُشكل ويَصقل مختلف الأشكال والأحجام وحتى الألوان من المرايا، لا تخفى عليه واردة أو شاردة في هذه المهنة؛ فهو منذ أربعين عاماً او يزيد في هذا الكار.
في كل مرة ينتهي من صنع مرآة، ينظر إليها فتكشف له عن أدق تفاصيله؛ شعرات لحيته البيضاء وما تخفيه من جرح قديم بفعل مرآة مكسورة أول عهده بالمهنة، وتفاصيل وجهه وخطوط الزمن فيه.
لكنه كان يريد هذه المرة انعكاس شيءٍ آخر، غير تفاصيل جسده. يريد غير صورة اللحم والدم التي تعكسها هذه المرايا منذ أربعين سنة أو يزيد، يريد من المرايا أن تعكس ما يكون خلف هذا الوجه وأخاديده من أحاسيس ومشاعر وأحلام وآمال، يريد أن يرى هذه النفس التي تسكن الجسد، يريد أن يحقق حلمه في أن تكون للنفس مرآة تقف أمامها لتزينها كما تقف الأجساد أمام المرايا لتتأنق، فقرر أن يصنع مرآة لذلك.
اعتكف في ورشته، وبدأ يحاول صنع هذه المرآة التي ستعكس له مزاجه اليومي، خوفه المستقبلي، ماضيه وأسراره، جنونه وحزنه وكل ما يمر في النفس من مشاعر وهواجس.
مكث ردحاً من الزمن دون أن يخرج بنتيجة، جرب المرايا المحدبة والمقعرة ودرس قوانين الفيزياء والرياضيات وكل النظريات المتعلقة بالمرايا دون أن يقترب من الحل قيد أنملة، وكيف سيعكس العالم المادي ما يجول في النفس من عواطف وأحاسيس؟
وقف أمام آخر محاولاته الفاشلة، أطال النظر فيها، لم تعكس سوى صورة جسده الهزيل جراء العمل المرهق ووجهه العابس كدليل على إخافاقاته المتكررة.
غضب وزمجر، وأرغى وأزبد شاتماً كل هذه المرايا، ثم صمت لوهلة قبل أن يبدأ بتحطيم جميع المرايا من حوله وتحويلها إلى ركام في لحظات. انتهت قوته مع آخر مرآة حطمها. جلس على الأرض لاهثاً ونفسه ليست بأحسن حالاً من المرايا المحطمة من حوله، معترفاً في قرارة نفسه بالعجز والفشل. الإعتراف وتكسير المرايا أعطاه بعض القوة ليلملم حطام نفسه ويطفق عائداً الي بيته.
هناك استقبلته بإبتسامة عذبة، كماء ينبوع جبلي رقراق، وما أن نظرت إليه وتبينت ملامحه سألته قلقة:"ما بالك يا عزيزي؟ من كدر نفسك وأرهق روحك وأتعب جسدك؟"
نظر إليها ليجيب، فوقعت عيناه في بحر عينيها، مبحرأ بشريط حياته، ماضيه وأسراره، مستقبله ومخاوفه، أحاسيسه ومشاعره وخلجات نفسه. أراد الصياح بأعلى صوته: "وجدتها، وجدتها"، إلا إنه اكتفى بالإبتسام مخاطباً إياها: "أحبك يا مرآتي".
◄ محمد التميمي
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
12 مشاركة منتدى
مرايا, إبراهيم يوسف - لبنان | 26 أيار (مايو) 2013 - 06:16 1
لِمَ لَمْ يكنِ العنوان: (أوريكا.. أوريكا)..؟
نصٌّ له نكهةٌ مختلفة وانعكاسٌ ( Kaleidoscope) رائع على صفحةِ مرآةٍ بأربعةِ أبعاد.
جميلٌ جدا.. شكراً
1. مرايا, 28 أيار (مايو) 2013, 12:10, ::::: محمد التميمي - الأردن
الاستاذ ابراهيم
أشكرك جدا على معلومة المرآة ذات الانعكاسات المتعددة وربما ستكون عنوانا لقصة جديدة ... يوما ما.
مرايا, مريم-القدس | 27 أيار (مايو) 2013 - 06:00 2
نهاية مشرقة يحدوها أمل في ظل عينين تعكسان ما بداخلهما من صدق
المشاعر ..سيجد نفسه فيهما ..
نص صادق يعبر عن خلجات نفس يمر بها الإنسان ..
أشكرك
1. مرايا, 28 أيار (مايو) 2013, 12:12, ::::: محمد التميمي - الأردن
الاستاذة مريم
المشاعر من محركات الانسان ومحفزاته، والعيون ما هي الا مرايا لهذه المشاعر.
أشكرك على التعليق
مرايا, عبيدة لصوي | 27 أيار (مايو) 2013 - 06:17 3
سرد جذاب رائع معبر وفلسفي الطابع ، ولكن للحق فقد سبق وأن قرات قصة تتحدث عن نفس الموضوع تفريبا وربما توارد خواطر !
1. مرايا, 28 أيار (مايو) 2013, 12:15, ::::: محمد التميمي - الأردن
الاستاذ عبيدة
أشكرك على تعليقك هذا، نعم ربما مررت بنفس الفكرة في احدى الكتب، فعلى رأيي أحد النقاد ان المواضيع تتكرر ولكن طريقة السرد تختلف ولا ضير في ذلك.
ولكن سأكون ممتنا لك لو أطلعتني على عنوان هذا النص المشابه لنصي، ان كنت لا تزال تذكره.
مرايا, أشواق مليباري\ السعودية | 27 أيار (مايو) 2013 - 06:41 4
توقعت النهاية!
عينان هما المرايا الحقيقية، رفيقة العمر، وصديق العمر.
النص جميل جدا
تحيتي واحترامي
1. مرايا, 28 أيار (مايو) 2013, 12:17, ::::: محمد التميمي - الأردن
أستاذة أشواق،
آمل ان توقعك للنهاية لم يفسد متعة قراءة النص. فعلا كلامك في مكانه: الصديق والرفيقة هما مرايا النفس.
سعدت بتعليقك
مرايا, أحمدالطيب السودان | 27 أيار (مايو) 2013 - 13:03 5
}ما أصعب نصوص الوعظ والإرشادأوتضمين الحكمة في الحكاية كما في كليلة ودمنة فإنها تكون معلومة النهاية ومكررة كثيراً ولا يجرب ذلك إلا من يستطيع التحليق كالنسر وكلما علا إتضحت له الرؤيا وأراك حلقت عالياً ودنوت من مدارات النسور شكراً.}
1. مرايا, 28 أيار (مايو) 2013, 12:20, ::::: محمد التميمي - الأردن
الاشتاذ أحمد الطيب
كلامك طيب لا يخرج الا من طيب. جميل قولك عن نصي واني ﻷفتخر بأنك شبهته بكليلة ودمنة.
أسعدني تعليقك جدا
مرايا, نورة عبد المهدي صلاح\ فلسطين | 27 أيار (مايو) 2013 - 14:30 6
جميل .. المرايا سطوح عاكسه لكن للأسف هو بحث عن الأشياء السطحية ليراها عمقه .. هو بالأصل لم ينظر للعمق حتى يطفو على السطح دون عناء ..
1. مرايا, 28 أيار (مايو) 2013, 12:23, ::::: محمد التميمي - الأردن
الاستاذة نورة
كلامك سليم، فهو تأخر في ادراك ما رحت اليه. كم نحن بحاجة لننظر في عمق الأشياء ولا نحكم عليها بمجرد انعكاسات السطوح.
شكرا على الاضافة.
مرايا, راضية عشي/ الاوراس-الجزائر | 29 أيار (مايو) 2013 - 07:28 7
مرايـــــــــا... ما أجمل أن تجد مرآتك في شخصٍ نقي طيب يهتم بأمرك وتفاصيلك.
النص تحفة ومرآة وجدتُ فيها الكثير من الأشياء التي تُشبهني، بدأت معك ألملم أشلاء الروح المتعبة من الإنتظار والبحث، وأدركت بفضلك أستاذ محمد محمود التميمي ان المرآة التي أبحث عنها هي نفسي التي بين أضلعي ولم انتبه لذلك من قبل. شكراً
1. مرايا, 29 أيار (مايو) 2013, 10:06, ::::: محمد التميمي - الأردن
الاستاذة راضية،
تعليقك أسعدني جدا بل وحمسني للكتابة أكثر. فكم هو شعور رائع أن أعرف أن كتاباتي تصل وتؤثر في الناس ايجابا.
اينما وجدت مرآة نفسك فتمسكي بها ووفقك الله بما فيه كل الخير.
مرايا, مدا وفا | 29 أيار (مايو) 2013 - 08:01 8
أستغرب حقيقة كثرة التعليقات هنا على موضوع عادي نصا وفكرا لغة وصياغة،كما سبق وان تكرر مرارا بقصص عديدة ! فيما تترك مواضيع غنية اخرى ذات قيمة واضافة ومتعة...مجرد ملاحظة موضوعية عابرة وقد أكون جانبت الصواب وتسرعت فمعذرة !
1. مرايا, 29 أيار (مايو) 2013, 10:15, ::::: محمد التميمي - الأردن
الاستاذ مدا،
في البداية أشكرك على قراءة النص والتعليق عليه.
الكتابة كالأكل فهي غذاء العقل وهو غذاء الجسد. والناس أذواق في ذلك، وما لا يعجبك قد يعجب غيرك وهذا لا يعيب أيا منكم. فلعل نصي لم يعجبك ولكنه لامس قلوب من علق عليه.
أشكرك وأشكرهم جميعا ولي طلب عندك: هلا أعطيتني بعض النصائح في الكتابة التي استشفيتها من النصوص التي أعجبتك قد تفيدني مستقبلا؟
مرايا, نهى التميمي، الأردن | 30 أيار (مايو) 2013 - 07:01 9
أسلوب القصة ممتع جداً، كأن القصة معروضة أمامنا على خشبة المسرح، نتابع أحداثها وتفاصيلها لحظة بلحظة، تجذبنا إلى النهاية، التي قد نبتسم بمجرد ظهورها هي أمامه فتبتسم له؛ ليلمع وقتها المغزى من الفكرة، وتنعكس لنا صورة مرآة كل منا في قلبنا وعقلنا بأعيننا.
ننتظر المزيد منك
مرايا, تغريد التميمي | 30 أيار (مايو) 2013 - 07:54 10
ارى ان النص فكرة او واقع رأه الكاتب صاغها بأسلوب شيق عن رجل صانع المراياووعما يجول بخاطره وهو اسلوب كتابي اعتمده الكثير من الكتاب في وصف طبقة معينة من العمال في بداية قصصهم او رواياتهم اوخواطرهم وتقريب الصورة عما يعتري نفوس هذه الطبقة الكادحة وهو ما يلفت انتباه القارئ حينما تصاغ بأسلوب معبر .
تقبلو مروري
مرايا, شروق حسان | 1 حزيران (يونيو) 2013 - 08:07 11
فعلا، ما المرايا إلا انعكاس لذواتنا ومشاعرنا، وليس لأشكالنا الخارجية وحسب.
موضوع شيق جدا.
مرايا, موسى أبو رياش / الأردن | 6 حزيران (يونيو) 2013 - 06:04 12
خاطرة جميلة ولطيفة للأخ محمد... ولكن يا صديقي... صاحبك المرآتي وجد مرآته الخاصة به... وقد يجد بعضنا مرآته... ولكن المطلوب مرآة للجميع لتعرف دواخلهم ومشاعرهم وأحاسيسهم... فأرجوك أن تطلب من صاحبك أن يحاول مرة أخرى وليلجأ إلى الكهنة والسحرة والعرافين عله ينجح في مسعاه هذه المرة.
تحياتي لك أخي محمد على هذا النص المعبر.