هدى الكناني - العراق
أمي كلمة حفرت على الشغاف
بحثت الأم عن طفلتها الصغيرة في أنحاء المنزل كافة فلم تجدها حتى أعتصر قلبها قلقا عليها، فرجعت إلى غرفة نومها لترتدي عباءتها وتخرج للبحث عنها، فإذا بها تسمع بكاء مكبوتا.
تتبعت الأم مصدر البكاء وهي واثقة أنه صوت صغيرتها، فبحثت هنا وهناك، حتى اقتربت من دولاب ملابسها، وفوجئت بأن البكاء يصدر من هناك، ففتحته، وإذا بطفلتها تحتضن إحدى قطع ثيابها تشمها وهي تبكي.
ضحكت الأم وقالت: "غاليتي أنت هنا؟ إذا كنت تخاصمينني فلماذا تقبلين ثيابي؟"
نظرت إليها صغيرتها ودموعها تنهمر كاللآلئ على خديها البيضاويين وهي تزداد تعلقا بثوب أمها وتزداد بكاء. سحبتها أمها بلطف وحملتها بين ذراعيها، وقبلت خدا ناعما كالحرير، وهدأتها حتى غفت الطفلة في أحضانها.
ما فتئت تلك الذكرى تعود إلي وأنا أسترجع أولى ذكرياتي. هل كانت براءتي ورهافة حسي تنبئني أنك سترحلين وأبقى وحيدة قبل عيد الأم بأيام قليلة ولم تستلمي حتى هديتي إليك بعد؟
كبرت ابنتك الصغيرة ولم يعد دولاب الثياب يسعها لتختبئ فيه وحيدة تشم عطر ثوبك وتبكي. غير أنني دأبت على الاحتفاظ بإحدى قطع ثيابك الصيفية مع ملابسي الصيفية وأخرى شتوية لفصل الشتاء.
أماه: أيمكن للقلب أن ينسى وجيبه؟ كيف أنساك يا من صورتك حفرت في شغاف القلب تغذيها العروق؟ صورتك تغفو تحت الجفون، تسكن المقل، وتنهمر نسخا منها في دموعي على خدودي.
أشتاق إليك كل ثانية. وأتذكر كيف كنا نسرق الضحكات ونختلسها من زمان مر كالحنظل. أشتاقك حتى النخاع، وأبيع ما بقى من العمر مقابل هنيهات معك. لكن أتراها تكفي لأقص لك كل ما مر بي في غيابك؟
أماه: لكل زمان مصاعب وعذابات وهموم وآهات. غير أن هموم هذا الزمان فاقت سابقاتها وحازت على الامتياز.
والذكرى الأخرى أدمت قلبي الصغير حينها. بعد تلك المشادة مع أبي والضرب المبرح والإهانات لم تفكري إلا بأخذي وأخي والهروب بنا. ولكن إلى أين ؟ بدوت حائرة. تمسكين بيدي وبيد أخي وتسيرين بلا هدف حتى أضناك التعب وأضنانا.
كنا نتبعك صامتين. لم نشتك حر ذلك اليوم القائظ. ولم نطلب حتى جرعة ماء. كان العرق ينهمر على خدودك الملتهبة لشدة حرارة ذلك اليوم، وكنت تجففين العرق بعباءتك. أجلستنا تحت ظل شرفة دار عالية. افترشت الأرض، وأوسدتنا حضنك، فنام أخي في جانب واحتللت أنا الجانب الآخر. حركت طرف عباءتك يمينا ويسارا لتبردي أجسادنا الملتهبة التي أنهكها التعب، وحرارة الشمس والخوف من الآت.
كنت تفكرين وتذرفين الدموع. قررت أن ترجعينا إلى ظالمك؛ إلى السجان، خوفا من أن نقاسى معك الحرمان. وحكمت على نفسك بالعبودية فقط لنكون معا.
أماه: عيناي أدمنتا الدمع. برحيلك تقيحتا. وتفتحت في نفسي كل الجراحات التي ظننت أنها اندملت. غير أنني في سفري الطويل المضني أشكر كل من أفرد لي مقعدا في قلبه لأستريح عليه.
أماه: تذوقنا الخيبات حتى امتلأت أفواهنا بالمرارة. ولم نعد نحس بحلاوة الأشياء. أود الرجوع إلى تلك الصبية ذات الضفائر، التي كانت تتوق إلى تلوين الجدران. لقد خنقني العمر بسنوات مللت عدها وضقت ذرعا بقتامة الألوان.
من يعيد إلي ضفائري بشرائطها ربيعية الألوان، وذلك الفستان الأحمر، ورائحة ثوب أمي، ونعومة خدها، وحضهنا، لأتوسده وأغفو منسية لآخر الزمان؟
◄ هدى الكناني
▼ موضوعاتي
3 مشاركة منتدى
أمي كلمة حفرت على الشغاف, لمياء حسين| العراق | 28 أيار (مايو) 2013 - 13:09 1
انها قصة قصيرة مؤثرة تحاول بها الكاتبة الوصول الى ماهو ابعد من الندم والمرارة التي عانتها ذاكرتها النص يحوي مفردات عميقة النضوج تخبرنا ان هناك كاتبة واعدة ستخطوا على طريق الادب القصصي عشت هدى الكناني
1. أمي كلمة حفرت على الشغاف, 30 أيار (مايو) 2013, 16:48, ::::: هدى الكناني من العراق
سلمت تلك الأنا مل التي خطت هذه الكلمات الرقيقة كرقتك و رهافة حسك.
انا مدمنة على قراءة شعرك والتمتع بمشاهدة رسوماتك , و سعدت لأنك وصفت كلماتي بعمق التعبير .
اتمنى أن أكون كاتبة أرسم مشاعري بالكلمات ,أن تكون لي القدرة على أن ألون ما يعتمل في القلب والوجدان وأجعل من عواطفي تنطق كاللوحة ,وصدقا تشع بالألوان , كما ترسمين بريشتك كل متاعب المرأة في كل الأزمان .
شكرا للكاتبة والرسامة لمياء حسين من العراق
أمي كلمة حفرت على الشغاف, إبراهيم يوسف - لبنان | 28 أيار (مايو) 2013 - 23:50 2
هدى الكناني – العراق
ربّي سألتك باسمهنّ أن تفرشَ الدنيا لهنّ
بالوردِ إن سمحتْ يداك وبالبنفسج بعدهنّ
نمشي على أجفانهنّ ونهتدي بقلوبهنّ
حب الحياة بمنّتين وحبهنّ بغير مِنّة
هذا رشدي المعلوف.. والد أمين معلوف
يكرم الأمهات في عيدهن.
ولا أدري أيهما أحق بالانتساب إلى الآخر..؟
http://www.youtube.com/watch?v=dAcIyIgNjzE
موضوع فيه الكثير من الحنين ومن المرارة والخيبة والمغفرة والقهر والحرمان ومن عذابات الماضي
(سَتَتَفَوْلَذ) عواطف الشابة وإرادتها بمرور الزمن، لتواجه مصاعب الدنيا بعزيمة أكبر.
1. أمي كلمة حفرت على الشغاف, 30 أيار (مايو) 2013, 16:32, ::::: هدى الكناني من العراق
من أنين الماضي , وجع الحاضر , وغموض المستقبل ,نقود خطانا,نقوي عزائمنا ونرسم مستقبلنا,
كل له طريقه في اخراج ما في داخله, سواء كان رسما ,كتابة,غناءا أو عزفا.
نحن نعبر عنه كتابة . انت محق ياسيدي كون قصتي مزيجا انسانيا من حنين , مرارة خيبة وحرمان ,و عواطف كهذه تصنع الانسان وتشكله وتقويه.
وصائب مرة اخرى باننا نفتقد هدى الدهان التي تخط سحرا بقلمها.
وجعنا أنا وهي واحد؛الا وهو العراق؛ اسدا جريحا لايكاد يلعق جرحا حتى يصاب بجراحات .
لك مني عميق شكري, وصدق تقديري واحترامي ,وبالتوفيق.
أمي كلمة حفرت على الشغاف, احلام مهدي من العراق | 15 حزيران (يونيو) 2013 - 04:16 3
إنها بحق قصة مؤثرة, حيث نرى الأم تهرب ليس بمفردها وإنما حملت طفليها معها ولكنها تراجعت عن قرارها وفضلت العودة لأنها لم تحتمل أن ترى صغيريها يتعذبان ويذوقان مرارة وقسوة الحياة وفضلت أن تتحمل العذاب بمفردهاولأنها أم فهي نبع الحنان الصافي والحضن الدافئ هي من تعطي دون مقابل فهي كالشمس تنير لنا دربنا وهي المضحيةدائماً كالشمعة تحترق لتنير للآخرين ..........
اتمنى لهدى المزيد من التقدم والابداع في كتاباتها القادمة فأنت تحسنين إنتقاء الكلمات التي تلامس بحق "شغاف القلوب "
1. أمي كلمة حفرت على الشغاف, 15 حزيران (يونيو) 2013, 13:13, ::::: هدى الكناني من العراق
العزيزة احلام :
لقد أسعدتني كلماتك ، و أكثر ماأفرحني إنك لمست برهافة ماوددت أن اشير إليه ؛ألا وهو دور الامهات و تضحياتهن، ولخّصت دورهن ومشوارهن؛ بكلمات وتشبيهات حانية ، دقيقة وعميقة .
وإن رحلن ؛ فبصمتهن في شخصياتنا التي تشكلت في أحضانهن و ذكراهن عطرة في القلوب وصورهن تغفو تحت الجفون لنستدعي خيالهن مع كل إطباقة للعيون.
مع الود
هدى الكناني