عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 6: 60-71 » العدد 61: 2011/07 » السينما السردية في رواية "الرمز المفقود" لبراون

موسى إبراهيم أبو رياش - الأردن

السينما السردية في رواية "الرمز المفقود" لبراون


محمد إبو رياشصدرت رواية "الرمز المفقود" (The Lost Symbol) للأمريكي دان براون، بترجمة جميلة متقنة لزينة جابر إدريس، في طبعتها العربية الأولى، سنة 2010، عن الدار العربية للعلوم ناشرون/بيروت، في 479 صفحة من القطع الكبير. وهي لا تختلف من حيث الأسلوب والتكنيك والمعالجة واللغة والإثارة والتشويق والوجبة المعرفية الدسمة عن رواياته السابقة: شيفرة دافنشي، حقيقة الخديعة، الحصن الرقمي، ملائكة وشياطين. حيث ينجح في شد انتباه القارئ، والإمساك بتلابيبه طوال الرواية، مبهور الأنفاس مشدود الأعصاب.

وتتجلى في رواية "الرمز المفقود" مقدرة بروان في تقديم رواية طويلة ممتعة ومشوقة، تتميز بكل عوامل النجاح، في مدة إجمالية لا تتجاوز 24 ساعة، بينما المدة الزمنية الفعلية للأحداث المتسارعة لا تزيد عن 7 ساعات فقط لا غير.

لقد اختط بروان لنفسه طريقاً خاصاً في الرواية، بما يمكن أن نسميه "الرواية البراونية"، التي تتميز بالثراء المعرفي والمعلوماتي، واقتحام المناطق المحظورة وكشف أسرارها، ونجاحه في شد انتباه القارئ حتى آخر كلمة دون كلل أو ملل، مع ما يتطلبه ذلك من إثارة وتشويق، وسرد سلس اعتمد لغة سينمائية جميلة، تصور بدقة تامة مجريات الأحداث لكأنك تتابعها بعدسة كاميرا سينمائية، دون حاجة لأية إضافات أو اجتهادات من مخرج أو كاتب سيناريو، فالرواية عبارة عن سيناريو على شكل رواية كتب بأسلوب مبتكر وجديد، أو لنقل أنها فيلم سردي يقدم للقارئ الحوار والصورة والحركة بتقنية عالية واحترافية متقنة.

وقد برع بروان في إدارة دفة معركته المعرفية بحنكة فائقة، ونسج خيوطه بمهارة؛ لإقناع القارئ بما يقدمه من معلومات وتفسيرات، أو على الأقل تقبله لها، بما تتضمنه من منطقية وتدرج واضح ومعقولية، معتمداً على حقائق علمية وتاريخية وفنية، موظفاً أسماء علماء وفنانين وسياسيين حقيقيين بهدف الحصول على ثقة القارئ بما يقدمه، ولا ينسى في ثنايا ذلك أن يخلط الأسطورة والسحر بالعلم، والحقائق العلمية بالعلوم الباطنية، على اعتبار "أن التقنية المتطورة فعلاً لا تختلف عن السحر."(92) حسب قول الكاتب آرثر سي كلارك. وأرى أن حرص الكاتب على إقناع القارئ بأفكاره ورؤيته حق مشروع، بل إن كل كاتب يكتب ليقنع. وهنا يتمايز كاتب عن آخر، وتظهر براعته وحنكته وخبرته وثقافته.

غلاف رواية دان براونوبالإضافة إلى جميع عوامل نجاح الرواية التي تتوافر في روايات براون، والتي تؤكدها ملايين النسخ المباعة وترجمتها إلى عشرات اللغات، فإن رواية "الرمز المفقود" تناولت موضوعاً غامضاً مبهماً، يجذب جمهوراً عريضاً، ويغري بالقراءة والمتابعة، وهو الماسونية، فقوتها تكمن في غموضها، والإشاعات التي تدور حولها، فكل أمر غامض يملك قوته الذاتية. ويبدو أن بروان تخصص في اقتحام المناطق الخطرة والغامضة، في محاولة لإماطة اللثام عن أسرارها من خلال دفع القارئ للبحث والاطلاع.

وظف براون "تقنية أجاثا كريستي" بتحدي ذكاء القارئ وإيهامه بالوصول إلى حل العقدة أو اللغز ثم يفاجئ القارئ أن الحل الظاهري يقود إلى عقدة جديدة ولغز جديد، وفي النهاية يتبين القارئ أن الحل لم يكن من ضمن خياراته أو توقعاته. ويؤكد ذلك نجاح براون في إخفاء حقيقة مالأخ حتى كشفها هو شخصياً لأبيه بيتر سولومون باعترافه أنه ابنه زاكاري الذي كان يعتقد أنه توفي في سجن سوغانليك التركي على خلفية قضية مخدرات، دون أن يقع في أي خطأ يمكن أن يثير الشك حوله، أو وجود أية دلائل تشير إلى ذلك، إلا في نهاية الرواية عندما كشف بيلامي مجموعة من الصور في أحد أدراج مكتب مالأخ وبالتزامن مع اعترافه الشخصي لأبيه.

وأيضاً توقعاتنا كقراء أن مالأخ سيقدم بيتر قرباناً لتحوله باستخدام السكين الأثرية الثمينة التي اشتراها بـ1.2 مليون دولار، ونذهل عندما نتبين أن السكين جهزت ليكون مالأخ هو القربان على يد أبيه بيتر سولومون في أشد أشكال الانتقام قسوة وجبروتاً. وقد لا نرتكب خطيئة إذا صنفنا رواية "الرمز المفقود" على أنها نمط من أنماط الرواية البوليسية، حيث أنها لا تختلف في سياقها وأحداثها عن الروايات البوليسية المعروفة، وبالذات روايات الإنجليزية أجاثا كريستي.
نجح بروان بامتياز في إثارة كم كبير من الأسئلة بتناوله موضوعات إشكالية، من مثل: حقيقة الماسونية وأسرارها وطقوسها وعقائدها، علم الرموز، وتاريخ واشنطن وقادة الولايات المتحدة وارتباطهم بالماسونية وخاصة الجيل المؤسس، اهتمامات بعض العلماء والرسامين وارتباطهم بالماسونية وتخليد عقائدها في أعمالهم، قوة الماسونية وتغلغلها في وسط النخبة. مما يدعو كل قارئ ويحفزه للرجوع إلى المصادر المختلفة للتأكد مما جاء في الرواية.

كما أثارت الرواية مجموعة من القضايا الشائكة والخلافية والجدلية التي تثير شهية القارئ الواعي للتفكير والعصف الذهني والبحث الرصين عن أجوبة أو إضاءات تنير الطريق للوصول إلى قناعة محددة حول هذه القضايا، ومنها: موضوع نهاية العالم حقيقي أم مجازي أم نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة من التنوير، قوة وكتلة الفكر المعطلة وكيف يمكن توظيفها، وهو البرنامج البحثي التي عملت عليه كاثرين سولومون شقيقة بيتر سولومون، طاقات الإنسان غير المستغلة، قدرة الإنسان على تغيير نفسه من خلال العزيمة والبرنامج المنظم والهدف المنشود كما فعل زاكاري (مالأخ)، إمكانية التحول من شكل إلى آخر كما كان يطمح مالأخ، قوة الأسرار القديمة وعلاقتها بالسحر أو القدرات المعطلة، أحواض التجريد الحسي وعملية الطواف التي "تمنح صاحبها تجربة تجاوزية أشبه بالعودة إلى رحم الأم... وهي أقرب إلى مساعدة على التأمل"(391)، والتي وقع ضحيتها أحد أهم شخصيات الرواية الأستاذ الأكاديمي عالم الرموز روبرت لانغدون والذي كان حاضراً بقوة في روايتين سابقتين لبراون هما شيفرة دافنشي وملائكة وشياطين، بالإضافة إلى القضايا الأخرى التي تحفل بها الرواية.

وتكشف الرواية تورط عدد كبير من قادة الولايات المتحدة وأعضاء مجلس الشيوخ والوزراء ورئيس وكالة المخابرات كأعضاء في الماسونية، مما يستدعي إينوي ساتو الحاكم المطلق لمكتب الأمن التابع لوكالة المخابرات الأميركية للتدخل شخصياً وقيادة العملية لخطورة الأمر على الأمن القومي الأميركي.

وقد قدمت الرواية معلومات كثيرة ومدهشة ومثيرة وصادمة أحياناً عن العمران وتاريخه ووظيفته وخاصة في مدينة واشنطن، مؤكدة أن العمران علم له أصوله وله فلسفته المستندة إلى عقائد أو أفكار أو رؤى. مما يعطي العمران قيمة مضافة، ويكسبه في الغالب صفة العظمة والخلود. وما ينطبق على العمران ينطبق على فن الرسم الذي كان له نصيب وافر في الرواية.

ربما يخلص بعض القراء بعد قراءة الرواية –وهذا من حقهم- إلى وجود نظرية المؤامرة، ولكن ليس بالمفهوم الضيق الشائع المستند إلى العداء والسلبية، بل بوجود قوى تخطط وتحرك الأحداث خدمة لأهدافها وتحقيقاً لمصالحها. فالأحداث لا تحدث عشوائياً، وإن بدت في معظم الأحيان كذلك، ولا تتبدى الحقيقة إلا بعد أن تتحول الأحداث إلى تاريخ.

نجاح الرواية الأكبر –حسب ما أرى- يكمن في إرغام القارئ على البحث والتساؤل والتفكير والتقصي عن كم المعلومات الكبير الذي وفرته الرواية، والمحاولة للإجابة على الأسئلة التي أثارتها، والقضايا التي عرضتها أو ألمحت إليها. وهو بذلك يتعب القارئ ويرهقه عقلياً وذهنياً وربما لمدة طويلة، مقابل متعة فائقة في أثناء فترة مطالعة الرواية التي تتراوح ما بين يوم إلى أسبوع على أبعد تقدير. وهذه من أعظم وظائف العمل الإبداعي أن يدفع المتلقي للتساؤل والتفكير والتشكيك وقراءة ما بين السطور والنظر إلى الأمور من زوايا مختلفة.

رواية "الرمز المفقود" رواية تفكيكية، تعمل على تمزيق الحجاب الذي يغلف الماسونية، وهدم الأسوار التي تحيطها وتحجبها عن العيون، وتمزيق بعض الصور النمطية التي تؤطرها، وتكشف بعض أسرارها، لتضعها في الإطار المعقول مع جرعة واضحة من محاولة الإقناع بسلامة الفكرة وهدفها النبيل حسب براون.

وهي دعوة للروائيين العرب إلى كتابة الرواية الاقتحامية في الموضوعات المختلفة، وعدم الاكتفاء بالقشور والوقوف على السطح، ففي القاع والأعماق وخلف الأسوار ما يغري بالكتابة، والإياب بصيد ثمين، وعمل عظيم، مع ضرورة توظيف "تقنية براون" بإيراد المعلومات ضمن نسق روائي متقن، وبناء محكم، وبراعة في فن الإقناع، والالتزام بالكشف لا الفضح، وفتح النوافذ للهواء لا للعيون المتلصصة والأنفس المريضة والألسن الشامتة!

D 25 حزيران (يونيو) 2011     A موسى أبو رياش     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • تحليل رائع للرواية الشهيرة ، وكما يقول الكاتب الكريم فمعظم الروائيين الغربيين المشهورين يكتبون احداث رواياتهم كسيناريو سينمائي مفترض ويتخيلون الرواية وقد تحولت لفيلم سينمائي ، وبذلك يسهلون العمل على مخرجي السينما اللذين يبدعون في اعطاء قيمة مضافة فنية للعمل ويكسبونه رواجا وبعدا ابداعيا جديدا ، وهذا ما ينقصنا كعرب حيث الرواية في واد والسينما ببعدها التجاري السطحي الرديء بواد آخر ، وكم قال الكاتب الكريم فهم يحاولون التماهي مع احداث روايتهم بالسفر والمعاينة والتجربة ولا يكتفون بشبكة الانترنت وبعض المراجع واللابتوب والسجائر والقهوة مع سهر الليالي كما يفعل كتابنا الأفاضل في معظمهم ! واخيرا هل تعلمون ان المفكر والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ولكي ينجز كتابه الكبير عن تاريخ الجنون فد اجبر نفسه لخوض مغامرات أدت في المحصلة لجنونه ومرضه وموته المبكر في الثامنة والخمسين من عمره ! (لقراءة المزيد يرجى مراجعة مقالتي الأخيرة حول "خطاب الجنون في الثقافة العربية " في العدد الأخير من عود الند ). ودمتم مع الود والاحترام


في العدد نفسه

عيد بحيص: ماجستير

فيصل عبد الحسن: سنوات كازابلانكا

شريف كناعنة: كتاب جديد

وصلات آخرى

صور من الحفل