عدلي الهواري
كلمة العدد 87: عن سمات الجنرالات
من المعروف عن الجنرالات أن بعضهم يصاب بالخيلاء، فإذا كان مسؤولا عن معركة ولا تسير سيرا حسنا، قد يكابر ويصر على الاستمرار بها واللجوء إلى التصعيد أو توسيع نطاق المعركة.
من أشهر الجنرالات الذين تنطبق عليهم هذه الأوصاف الجنرال الأميركي، دوغلاس مكارثر، الذي قاد المعركة الجارية في كوريا في الخمسينيات، وغامر من خلال طلب موافقة الرئيس الأميركي هاري ترومان على الوصول بقواته إلى نهر يالو على الحدود بين الصين وكوريا.
استجاب الرئيس ترومان لطلب الجنرال مكارثر. وعندما بلغت قواته نهر يالو، تدخلت الصين، وانقلب ميزان المعركة. سعى الجنرال مكارثر إلى التصعيد بطلب قصف قواعد الصين في منشوريا، ولكن الرئيس ترومان رفض طلبه، وأعفى مكارثر من منصبه في عام 1951. وها هي كوريا لا تزال مقسمة إلى بلدين حتى اليوم.
هذه الحرب وغيرها، قبلها وبعدها، تؤكد أحد المبادئ المعروفة وهو أن القرارات في شؤون الحرب لا تترك للجنرالات وحدهم.
عندما يقرر أحد الجنرالات السيطرة على الحكم لا يعود مهما الثمن الذي يدفعه الشعب لكي تنجح المحاولة. ومن أشهر الجنرالات الذين تنطبق عليهم هذه المواصفات الجنرال التشيلي، اوغستو بنوشيه، الذي أطاح في عام 1973 بالرئيس المنتخب ديموقراطيا، سلفادور ايندي، الذي قاوم الانقلاب، وقتل في القصر. وكان ايندي يساريا وذا برنامج اشتراكي شمل تأميم قطاع تعدين النحاس.
تميز حكم الجنرال بنوشيه بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي شملت حالات قتل وتعذيب واختفاء. وبعد رحيل بنوشيه عن الحكم، جاء إلى بريطانيا عام 1998، واغتنم بعض نشطاء حقوق الإنسان بندا في القانون الإسباني يجيز اعتقال المتهمين بانتهاك حقوق الإنسان، وطالبوا باعتقاله.
أحرجت الحكومة البريطانية ووضعته فيما يشبه الإقامة الجبرية، وظل فيها حوالي سنة ونصف سنة. وفي هذه الأثناء، صدر في البداية حكم يؤيد تسليمه لإسبانيا، ثم تعرض الحكم للنقض. وتظاهر بينوشيه بعدم الأهلية لحضور محاكمة بسبب الشيخوخة. وخرج من بريطانيا على كرسي متحرك، ولكن على الطرف الآخر كان يمشي.
بعض الجنرالات الذين يسيطرون على الحكم يزعمون في البداية أن السيطرة ستكون مؤقتة، وسيتم تنظيم انتخابات خلال شهور، ولكن يبقى الجنرال في الحكم أطول مدة ممكنه له. الجنرال الباكستاني ضياء الحق استولى على الحكم عام 1977، وظل الحاكم إلى أن قتل في حادثة سقوط طائرة عسكرية كان على متنها عام 1988. والجنرال الباكستاني برويز مشرف استولى على الحكم في عام 1999 ولم يترك الحكم إلا مضطرا بعد أن أمضى فيه حوالي عشر سنوات. وبنوشيه ظل في الحكم سبع عشرة سنة.
الدول الغربية تحب التعامل مع الجنرالات في الدول النامية، رغم كل ما توجه لهم ولأنظمتهم من انتقادات، خصوصا في المرحلة الأولى. بعد ذلك، تستمر الانتقادات بشكل متقطع، أو تتولى المنظمات غير الحكومية توجيهها. ولكن هذه لعبة يفهمها الطرفان، فتستمر العلاقة الوثيقة والودية.
يلجأ الجنرالات من أجل تدعيم حكمهم إلى استخدام إجراءات شديدة داخليا، وإلى الحصول على دعم الدول الغربية ورضاها لكي يتمكنوا من الاستمرار، ولذا تجد الجنرالات متعاونين جدا مع الدول الغربية، وخاصة في المجالين العسكري والاستخباري، ولاحقا التعاون فيما صار يعرف بالحرب على الإرهاب.
الجنرال الذي يسيطر على الحكم يصور نفسه بأنه منقذ للبلاد من التمزق أو العنف أو الوضع الاقتصادي المتدهور. وبعد استقرار الأوضاع تحت سيطرته يبدأ الفساد في الانتشار، وينشأ أو يتعمق التحالف مع بعض رجال الأعمال، وتتكون طبقة تزداد ثراء على حساب الأغلبية الساحقة من الشعب التي تزداد فقرا.
في الدول التي ترسخت لديها التقاليد الديموقراطية، لا يتمتع الجيش أو جنرالاته بوضع خاص يجيز التدخل في إدارة شؤون البلاد السياسية أو الاقتصادية. يتحدث الجنرالات في شؤون السياسة بالحدود الممنوحة لهم من السلطة التنفيذية، وإذا تجاوز جنرال ذلك، يفقد منصبه. وقد حدث ذلك في عام 2010، عندما انتقد قائد القوات الأميركية في أفغانستان، الجنرال ستانلي مكريستل، بعض المسؤولين في إدارة الرئيس أوباما، فاستدعي إلى واشنطن وأقيل من منصبه.
في يوم من الأيام في ماض غير بعيد، كان من الحكم التي تتردد كثيرا حتى في العالم العربي: "أختلف معك في الرأي، ولكن أموت من اجل أن تعبر عن رأيك". هذا الموقف النبيل تغير مع مرور الأيام وصارت بدائله: (1) إذا اختلفت معك بالرأي سوف أسعى إلى تحطيمك، وإن لم أستطع، فسوف أستنجد بقوى خارجية وأرحب بالغزو العسكري. (2) إذا لم يكن التدخل الخارجي ضروريا، فسوف أدمرك، فإن لم أستطع فسوف أتحالف مع الجنرالات، وأدعوهم إلى التدخل في الشأن السياسي، وأبرر لهم ذلك.
الأوطان ملك لكل أبنائها وبناتها، الفقراء والأغنياء، والمتعلمين والمتعلمات والأميين والأميات. ومصلحة الوطن لا تحددها فئة واحدة من فئاته، سواء أكانت فئة المثقفين أم الفنانين أم الإعلاميين أم اليساريين أم الإسلاميين أو أصحاب الملايين أو أي فئة أخرى، بما في ذلك الجنرالات.
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 35: التاريخ يكرر نفسه
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
- ● كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
- [...]
المفاتيح
- ◄ شؤون ساعة
- ◄ قضايا عامة
- ◄ كلمة عدد
5 مشاركة منتدى
كلمة العدد 87, muhannad al nabulsi | 26 آب (أغسطس) 2013 - 06:58 1
مقال رائع والمجاز والحذر واضح فيه والأمثلة معبرة ودالة ولكن علينا ان نعي أن لكل قاعدة استثناء ، وخاصة ان وصل للحكم أشخاص يحبون التسلط وفرض الأجندات الخاصة لأحزاب معينة دون رضا غالبية الشعب ، فهنا لا يستطيع الجيش وجنرالاته أن يبقوا على الحياد لأن مهمتهم انقاذ الوطن ...في الغرب لا يحدث ذلك الا نادرا لأن الممارسة الديموقراطية الحقيقية لا تسمح بالتجاوزات ، ولأنه لا يوجد "تأليه" وفرعنة للزعماء كما يحدث في عالمنا العربي المنكوب بربيع بائس ينشر الفوضى والقتل والدمار ! عدلي الهواري يؤسس هنا وبمقالاته السابقة الشيقة نمطا جديدا للكتابة السياسية المعبرة والهادئة والتي تحفل بالمجاز والايحاء .
كلمة العدد 87, هيام ضمرة - الأردن | 26 آب (أغسطس) 2013 - 21:13 2
مقالة محكمة سرد فيها الدكتور عدلي حالات وأمثلة واقعية على تدخل جنرالات الجيش في السياسة على مدى التاريخ الحديث ومكابرتهم بالرد العنيف حين تشرف خططهم على الفشل مما يؤكد أن من يملك القرار العسكري غير معني بسلامة الناس حين يجد نفسه داخل الحلقة الضيقة فيتخذ قرارات خطرة وغير اعتيادية دون الأخذ بسلامة الموطنين الأبرياء.. وهذا المرور على هذه الحالات استخدم لنقل عقل القارئ لما هو أبعد من ذلك لادراك المغزى من خلال المقارنة مع المجريات الحديثة.. دكتور عدلي إنك تعلمنا اسلوباً جديداً في نقد الواقع من خلال عرض الحالة المقارنة وهنا تتوضح رمزية المقالة وقوتها دون الولوج للقضية الحديثة ودون عرض للحلول أو المقترحات.. مجرد عرض حقيقة لا يعترف بها صاحب السلطة العسكرية حين يقحم نفسه بالسياسة..بارك الله بك دكتور عدلي
كلمة العدد 87, رانيا كمال -مصر | 2 أيلول (سبتمبر) 2013 - 11:46 3
مقال رمزى رائع يحمل فى طياته الكثير من العبر لمن يتفكر اننا بحاجه اليه فى هذا الوقت بالذات
واتفق معاك دكتور عدلى فى ان الأوطان ملك لكل أبنائها وبناتها، الفقراء والأغنياء، والمتعلمين والمتعلمات والأميين والأميات. ومصلحة الوطن لا تحددها فئة واحدة من فئاته، سواء أكانت فئة المثقفين أم الفنانين أم الإعلاميين أم اليساريين أم الإسلاميين أو أصحاب الملايين أو أي فئة أخرى، بما في ذلك الجنرالات
دمت مبدعا دكتور عدلى ووفقك الله
كلمة العدد 87, دانا العدوان | 21 أيلول (سبتمبر) 2013 - 19:56 4
مقال فريد جامع ومفيد يؤسس لنمط جديد من المقالات السياسية المحايدة والموضوعية .
كلمة العدد 87, سيرين عبود | 22 أيلول (سبتمبر) 2013 - 16:08 5
أتساءل هل أنا الوحيدة التي تنتظر بلهفة صدور العدد الجديد من عود الند لأتذوق المقالات الاستثنائية كهذا المقال ولكي امارس بلا رقيب نهم القراءة ؟
1. كلمة العدد 87, 22 أيلول (سبتمبر) 2013, 17:25, ::::: زهرة /الجزائر
من المؤكد لست الوحيدة!
تقبلي تحياتي
زهرة
2. كلمة العدد 87, 23 أيلول (سبتمبر) 2013, 01:42, ::::: سيرين عبود
نورت ودمت مبدعة ...هذه هي وحدة الدم العربي الحقيقية عندما يتجاوب قلم جزائري مع قلم لبناني بالاعجاب بمجلة الكترونية مميزة تصدر من قلب لندن لكاتب متميز رائد...انها بالتأكبد ليست وحدة التنكيل والقتل والتكفير والطغيان !