يامنة الجراي - تونس
الهوس بفكرة الكمال
الدخيل في الجسد الإنساني: هوس بفكرة الكمال
لا شكّ في أنّ الجسد الإنساني قد اعتاد على المواد الصلبة، يتخذ منها حليته. وهو حال الإنسان في الحضارات المختلفة. وللزينة ثمن يدفعه من ألمه على أمل أنّ تتدخل الجراحة بالدخيل وتتزين به، ويخرجها إخراجا جميلا.
ونحن نذكر ما تحدثه تهيئة الأذن للقرط إبان ثقبها. وللهنود وبعض دول الخليج ثقب الأذقان. ولبعض الشعوب الإفريقية ثقب الشفاه، وإدخال لأقراط خشبية.
وعاد إدخال المواد للجسد في نهاية القرن الماضي موضة جديدة اكتسحت الجسد بأنواع مختلفة من الأقراط تقريبا ليستحيل البعض منها في الحاجب والأنف والفم والذراع.
وهذه المواد قد لا يكون جلبها للجسد بغاية الزينة فقط، أي قد لا يكون حليها اختيارا، بل اضطرارا بفعل التهشيم أو حادث على الجسد.
كثيرة هي العمليات الطبيّة التي يعتمد فيها الإطار الطبي إدخال مواد هجينة على الجسد، ما يشبه الأسلاك الفضيّة، ليس لغاية التجميل ولكن للترميم، وهو ما يحقق في نظري جمالية عجيبة، لأنه إذ يفعل ذلك يحافظ على جدلية الخفاء والظهور.
وأريد أنّ أنبه أيضا إلى تلك الطاقة القادرة على تحقيق التوازن للمادة ونحافظ في نفس الوقت على خفائها: موجودة هي ولكنها غير منظورة. حاضرة بالأشعة؛ خفية عن العين المجردة.
وبين الخفاء والظهور تفعل المادة الدخيلة فعلها في صمت إيقاعي، فهي تجمع المشتت وتعيد الأمل إلى الجسد المتشظي. هي لا شّك إذن قادرة على الإيحاء بالجمال في ارتباطها بالعظم واللحم، ذلك المزيج المادي الذي يبدو للغافل هجينا، ويبدو لي متناغما إيقاعيا وملمحا جماليا أصيلا. فكيف سينظر إلى هذا الجمال وبأية مقاربة ابستمية سنفهمه؟ نجد أنفسنا إذا ما رمنا الجواب حيال مقاربتين: طبيّة وتشكيليّة.
المقاربة الطبيّـة
نحن إزاء طبّ يدعيّ انجاز ممارسة فنيّة وينتخب لنفسه تسميات قريبة من الحقل التشكيلي: جراحة تجميلية/جراحة تشكيّلية.
غير أننا نعرف أن الطبّ هو مورد لصاحب الجسد، أي أن ذلك الطبيب المتدخل لا يملك في الكثير من الأحيان قرار العملية، بل صاحب الجسد هو من يملك القرار، وهو من يحمل الصورة التي ينبغي أن يكون عليها الجسد بعد العملية.
ومن جهة ثانية، فنحن نصرّح بأن ذلك الطبيب محكوم بعرف طبي غايته الشفاء، وما زاد على ذلك الذوق الفنّي الشائع في مجتمع ما.
ولفهم دور الطبيب في هذا العمل الجمالي نستطيع أنّ نقاربه بالتشبيه، فكأننا إزاء عملية بناء يملك المهندس تصورا شاملا دقيقا لها، وهو صاحب الفكّرة ولكنه في حاجة إلى حرفيين لانجازها يتميزون بالكفاءة (الطبيب) فإذا ما تم البناء، فإننا نعزو الفضل في التشييد للمهندس، بالرغم انه لم يلمس الاسمنت قط. والحال ذاته بالنسبة للطبيب، فهو الذي يعتبر منفذا لفكرة صاحب الجسد.
ومهما يكن من أمر، فانّ المقاربة الطبيّة لا يمكن بحال أن تستوفي التحليل الجمالي للظاهرة لذلك تطرقنا إلى مقاربة جمالية.
المقاربـة الجمالية
إذن لا شكّ في أنّ المقاربة الطبية عاجزة عن إبداع ما في الظاهرة من جمال تشكيلي. لذلك نرى أننا بحاجة إلى منظور تشكيلي قادر على استنكاه الظاهرة.
المادة الدخيلة بين الخفاء والظهور: ذلك هو المفهوم الذي ستقوم عليه مقاربتنا، وتلك الجدلية التي سأصف بها جمالية المواد الدخيلة في الجسد الإنساني: جدلية لا شكّ ضعيفة ولكنها ممتعة عصية، جذابة وكأننا نطلب محالا، إذ نروم تقريب ما لا يرى.
وكما وجدت صعوبة في تعريف الروح لطابعها الغيبي واللامنظور، فإنني أواجه في هذا الباب عراقيل من نفس النوع، ذلك أنني أريد أنّ اكشف عن جمال في جزء منه مستور لا يراه المتقبل، فالظاهرة الفنّية تجيء به وتمر أمامه دون أنّ تستوقفه رغم ما فيها من طابع جمالي: خفاءها هو مصدر جمالها، لكنه أيضا مصدر تكتمها.
ولعّل هذا يساهم ولو بقدر يسير في التعريف بهذه الجمالية التي تقوم على استضافة الجسد لمواد هجينة فضية وبرنزية وذهبية توضع في مناطق معينة من الوجه، أو مشك حديدي يقع الوصل به بين العظام المهشمة بفعل الحادث.
وفي لحظات تندس المادة الجديدة في النسيج اللحمي وتسكنه وتجمله وتكمله، لكنها تحافظ على مسافة تكيفها الخفاء، وحينها حلت في الجسد فبرزت و أخذت بعض من خصائصه، والكل انصهر في شطحة صوفية تكتمل فيها مراحل التخمر فتمر بمراحل التخلي والتحلي والتجلي، ويستمر الفعل.
1 مشاركة منتدى
الهوس بفكرة الكمال, مهند النابلسي | 26 أيلول (سبتمبر) 2013 - 11:00 1
مقالة رائعة تتطرق لموضوع نادر باسلوب جميل جذاب وتلقي الضؤ على مواطن خفية تجعلك تكنشف أشياء جديدة...في احدى رحلاتي لاسطنبول شاهدت شاذا بشعا يضع أقراطا على كامل وجهه وأنغه وفمه وحتى على اطراف لسانه..الآن فهمت مغزى ذلك !