عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

أشواق مليباري - السعودية

طيف تجلله رائحة البحر


النص أدناه مستوحى من قصة حقيقية

استيقظ خدر الأوصال، مثقل الأجفان، انتزع نفسه من فراشٍ احتواه حتى الظهيرة، بعد ليلة طويلة طوى جُلّها بعينين ساهرتين أمام شاشة الحاسوب، يحاول كسر وحدته بالحديث مع كل من يصادفه عبر عالمه الافتراضي.

دلف إلى المطبخ، أخرج شريحة خبز من كيس بلاستيكي وضعها في فمه وهو يفتح البراد باحثاً عن علبة حليب أو قنينة عصير، طقوس الاستعداد للخروج جرت كالعادة، لم يكسرها إلا هاجس ذكّره بوجه رآه ليلة أمس في المنام، وجه ظهر فجأة ابتسم واختفى، شخص عرفه ربما منذ زمن بعيد.

ارتدى سترته الأنيقة، أصلح ربطة عنقه أمام مرآة المدخل، هذب شعره الأسود اللامع، علق على صدره بطاقته ذات الشريط الأحمر الخاصة بالمديرين. عاد الهاجس مره أخرى، خيل إليه أنه رأى وجهاً غير وجهه في المرآة.

خرج وأقفل الباب خلفه، في الممر الأنيق بين الشقتين قابله جاره البريطاني بابتسامة المتعب العائد من عمله، بادله بإيماءة دون أن يتكلم.

عند باب البناية، ضغط على زر صغير في طرف مفتاح سيارته، فاستيقظت و غمزت له بنورها من بعيد، مشى إليها فتح الباب وجلس خلف المقود، عاد الطيف يجول حوله، هذه المرة استطاع تمييز ملامحه، جبهة سمراء عليها أثر الكدح والتعب، عينان ضيقتان يخفيهما حاجبان أبيضان كثيفان، ووجه خط عليه الزمن ما خط، ولحية بيضاء خفيفة، ابتسم الوجه بطيبة وغاب.

أفاق ليرى وجهه في المرآة الجانبية، تفحص السيارة سريعاً، وتحرك متوجهاً إلى دوامه المسائي في إحدى شركات النفط العملاقة التي تعاقد معها.

توقف عند إشارة أضاءت له عينها الحمراء القاسية، في تلك المدينة التي تكتظ بالسكان، اصطفت السيارات أمامها تتوسل الخلاص. أسند رأسه وأغمض عينيه لثوانٍ، ربما أراد أن يعود إليه الطيف ليتحقق منه، شعر بالهواء الرطب تجلله رائحة البحر، وسمع هدير موجه الهادئ على شاطئ رملي أبيض، ونخيل جوز الهند تظلل بيتاً خشبياً مسقوفاً بالجريد يعرفه جيداً، وبجانب البيت غرفة صغيرة بنافذة وباب من قماش مهترئ، خرج عجوز من الغرفة، وبيده إناء، اقترب من ساقية قرب البيت وملأ الإناء، لم يصل صوت خرير الماء إلى مسمع صاحبنا، بل أفزعه صوت منبه السيارات خلفه، فقد أضاءت الإشارة؛ عين الرحمة.

وصل بسلام إلى مرآب الشركة قبل موعد دوامه الرسمي، أوقف سيارته ولم يبرح مكانه خلف المقود، أغمض عينيه فعادت الأطياف سريعاً كأنه يستدعيها؛

جلس العجوز عند حافة الساقية، غسل وجهه ويديه وقدميه، عاد إلى الغرفة يمشي الهوينا والماء يقطر من أعضائه، اقترب من طفل صغير يراقب المشهد، مسح رأسه بيده الرطبة وهو يتمتم بعبارات لم يفهمها.

أفاق فزعاً وتلمس رأسه، لا بد أنه على حافة الجنون، فقد سمع بأن الذين لا ينالون قسطاً وافراً من النوم يصابون بحالات مشابهة.

خرج من سيارته، مشى سريعاً إلى المصعد المكتظ بالموظفين، فارتفع المصعد في دقائق إلى الطابق الخامس عشر حيث مقر شركته، قرب مدخل الممر المؤدي إلى مكتبه نباتات داخلية مزروعة في أصيص فخاري ضخم، بجانبه برادة ماء، وأكواب ورقية متراصة على حامل أنيق مثبت في الجدار، كان الممر خالياً، تظاهر بشرب الماء، ليعود مرة أخر إلى العجوز الذي دخل الغرفة، فرش أمامه قطعة من القماش المهترئ على أرض الغرفة الترابية، وقف معتدلاً في سكينة، رفع يديه لتحاذي منكبيه، وفي لحظه سمعه يقول: "الله أكبر".

سحق الكأس الورقي بقبضته، تسارعت أنفاسه، وشعر بالاضطراب، لقد سمعها. لا، لم تكن أطيافاً، لقد سمع الجملة. سمعها الآن. إنها: "الله اكبر".

ها هي مرة أخرى، لم يكن واهماً، من أين يأتي الصوت، استدار خلف الممر الرئيس حيث البهو ومن خلفه غرفة كان بابها موارباً، دفع الباب برفق ليجد صفاً من الموظفين يتقدمهم زميله أحمد الذي تعرف إليه البارحة، يركعون ويسجدون، نظر مشدوهاً إلى المنظر وغاب مرغماً، ركع العجوز وسجد ثم جلس في سكينة، التفت إلى يمينه بالسلام ثم إلى يساره، ثم نظر بحنان بالغ إلى الصبي الواقف خارج الغرفة يراقب.

قال صاحبنا بدهشة: ماذا تفعل؟

أجاب زميله أحمد مبتسماً وهو يحاول ارتداء حذاءه عند الباب: "نحن نصلي هنا".

خرج المصلون من الغرفة واحداً تلو الآخر، وقف وحيداً أمام الباب، غائباً عن عالمهم، عن موعد حضوره، عن وظيفته الجديدة وشركته، شارد الذهن، خائر القوى، محبطاً تأكل الحسرة قلبه على شيء يجهله، سرق منه وغيّب عنه كل تلك السنين.

عادت الأطياف مرة أخرى.

أمسكت بالطفل المندهش يد امرأة تسحبه بعصبية وتذمر.

صاح الطفل: "لحظة. أمي ماذا يفعل؟ ماذا يفعل جدي؟"

تجيب المرأة دون أن تلتفت إليه: "تعال إلى البيت ولا تكترث؛ فجدك عجوزٌ خرِف".

D 25 أيلول (سبتمبر) 2013     A أشواق مليباري     C 17 تعليقات

10 مشاركة منتدى

  • القصة رائعة، ومكتوبة بلغة جميلة، وفكرتها لطيفة، تذكرني بشكل أو بآخر بجوهر رواية الخيميائي لباولو كويليو. صاحبنا يبحث عن طيف رآه في المنام، ووجده أخيراً في شركته، ليكون سبباً -ربما- في هدايته، وهو العجوز الخرف.
    بعض الرؤى إشارات لمن يحسن فهمها... ومعظمنا لا يدركها إلا بعد فوات الأوان.
    أشكر للأخت الفاضلة أشواق قصتها اللطيفة المعبرة.


    • الأستاذ الفاضل موسى أبو رياش
      أجل صدقت فبعض الرؤى أوالأطياف من الذاكرة البعيدة، ماهي إلا إشارات لأحداث قادمة قد تكون سببا لهداية وسعادة الإنسان. لكننا للأسف انقسمنا، فمنا من يصدق كل مايراه في المنام ويهرع إلى المفسرين، ويبني مسيرته على مايقال له، فيعيش في حالة ترقب وقلق، وتزيده الأوهام رهقا، ومنا من لا يصدق أبدا، فلا يحسن فهمها ولا يدركها إلا بعد فوات الأوان كما تفضلت. 
      أشكرك على إثرائك لموضوعات المجلة عموما، لو كان هناك خيار (like) في المجلة على غرار (فيسبوك) لوضعته على تعليقاتك. 
      أشكر أيضا مرورك الكريم وتشجيعك الدائم للأقلام الصغيرة. 
      تحيتي واحترامي

  • الاستاذة أشواق
    لغة النص جميلة بسيطة لا تعقيد فيها وبهذه فهي تساعد القارئ على فهم المغزى من القصة.
    بالنسبة للقصة والمعاني التي فيها فهي تحتاج الى بعض التأمل لنرى ما الذي تحويه القصة من المعنى.
    صراحة لم أعرف ما الرابط بين الوظيفة الجديدة والتأملات.
    على العموم القصة جيدة وتشكرين عليها.


    • الدكتور محمد التميمي
      كثير من التأملات والذكريات لا تغزو مخيلتنا ونحن نسترخي على كرسي وسط بستان أو حديقة غناء فقط، بل تغزونا ونحن في خضم مشاغلنا وحياتنا العملية التي لا تهدأ، والعبرة في حسن فهمها وإدراك مغزاها.
      أشكر لك قراءتك المتأنية واهتمامك، وملاحظاتك البناءة. 
      تحيتي

  • سيدتي
    كلمات غاية في الصدق والبساطة والعفوية ..
    وانا اقراها احسست وكأن طيف ذلك الجد الجليل ، أطلّ علي
    كقطرات مطر تنقر على زجاج النافذة ، لتفوح منها رائحة البحر وعطر تلك البساطة والعفوية التي تئن قلوبنا شوقاً اليها .
    سلمت اناملك.
    هدى الكناني


  • (توقف عند إشارة أضاءت له عينها الحمراء القاسية، في تلك المدينة التي تكتظ بالسكان، اصطفت السيارات أمامها تتوسل الخلاص. أسند رأسه وأغمض عينيه لثوانٍ، ربما أراد أن يعود إليه الطيف ليتحقق منه، شعر بالهواء الرطب تجلله رائحة البحر، وسمع هدير موجه الهادئ على شاطئ رملي أبيض..) ألخ

    الالتفاف المُتْقَن في صياغة العبارة يوضح الفكرة، فلا تأتي ملتبسة أو مبهمة..؟ سأقترحُ عليكِ صياغة بديلة للفقرة الواردة أعلاه، فلو قلتِ مثلاً:

    توقف عند إشارة أضاءت عينها القاسية الحمراء، وإلى جانبه وخلفه اصطفت سياراتٌ أخرى تتوسل خلاصها بالضوء الأخضر، في مدينة تكتظ بالكثير من السكان.. .. وشعر بالهواء الرطب يلفح وجهه، واشْتَمَّ رائحة البحر.. وسمع هدير موجه الصاخب "بديلا من الهادىء"..؟ لاستقام المعنى وأتى المولود في رأي سليما معافى. رب قارىء يأتي أيضاً ليقترح تعديلا على الصيغة التي اقترحتها عليكِ..؟ يتبع


  • تابع

    أشواق مليباري

    مهما يكن الأمر.. فينبغي أن أكون منصفا لأشهد أن النص يحمل إحساسا بالوداعة والحنين، ونفسا دينيا عميقا أصابني رذاذه، وأسعدني حقاً ما تقولين.


    • الأستاذ إبراهيم يوسف: أشكرك جزيل الشكر أستاذنا على التعديل، بعض العبارات تكون واضحة بالنسبة لي وغير واضحة بالنسبة للآخرين، وهذا ما يجعل إرسال المسودة إلى الأصدقاء وأخذ رأيهم خطوة مهمة جدا كما أشار الدكتور عدلي سابقا. أرحب بك، وأعترف أن الصيغة الثانية التي تفضلت بإقتراحها تمتاز بالوضوح والترتيب الصحيح للجمل، وأرحب بأي إقتراح مماثل من قبل الآخرين أيضا. تشرفني قراءتك، ومرورك الكريم، ويسعدني تشجيعك الدائم لنا جميعا. تحيتي واحترامي

  • هكذا تعودينا على التعبير السلس والمعنى الواضح. سلمت وحييت اشواق.


  • وانا اقرأ .. طيف تجلله رائحة البحر..وعند مشارف النهاية خلتك تنهين.. لغز الطيف بالذهاب الى ذلك الكوخ .. واحتضان ذاك الجد حبيب البحر.. يا ليتك فعلت ذلك .. واخرجت من افئدتنا زفرات حزن دفين..منذ امد بعيد...لكن تظل القصة تحمل بين طياتها ارهاصات كاتبة متمكنة من لغة الحراك بين الان والماضي السحيق بارك الله فيك


  • هو نص مستوحى من قصة حقيقية. استيقظ صاحبنا خدر الأوصال، مثقل الأجفان، بمشقة انتزع نفسه من فراش احتواه حتى الظهيرة، بعد أن طوى جل ليلته "مفنجل" العينين أمام شاشة الحاسوب. تداخل ليله مع نهاره، فاتخذ جزءا من الليل فهارا، وانقلب جزء من نهاره ليلا. لم يراعي حق جسده عليه، ولم يعطه كفايته من النوم. ونوم الليل لا يعوضه نوم النهار. هناك لخبطة في النوم، وحتما تصاحبها غفلة عن أداء فريضة الصلاة.

    وعند الأستيقاظ "...أخرج شريحة خبز من كيس بلاستيكي وضعها في فمه وهو يفتح البراد..."، هي طريقة أكل غير صحية، ثم هل هذه وجبة فطور أم غداء وقت الظهيرة؟ هو لم يعطي جسمه حقه من التغذية السليمة!

    مع هذه الفوضى في حياته كيف لا يرى طيف ضميره يتبعه في كل خطوة على شكل جد يؤنبه بحنان على ما فرط فيه من جنب الله، ويذكره بما استوطن في عقله الباطن فيتحسر عليه وهو يجهله؟

    لكن النهاية أتت غامضة: يتبع


  • لكن النهاية أتت غامضة:
    " وقف وحيدا أمام الباب... محبطا تأكل الحسرة قلبة على شيء يجهله، سرق منه وغيب عنه كل تلك السنين". هل الأم هي من فعل به ذلك؟ وما السبب؟

    نص جميل فيه أبداع ملحوظ
    لك مني كل التشجيع


  • لا شيء يموت حقيقة .. الذكريات فقط تحتاج لشيء يطرق بابها حتى تعود كأنها حدثت قبل برهه .. مهما طمسنا الحقيقة يأت يوم تظهر فيه جميلة حقاً


في العدد نفسه

كلمة العدد 88: القول الفصل للسلطة التي تمثل الشعب: مجلس العموم البريطاني مثالا

النقاد وفكر مي زيادة

الهوس بفكرة الكمال

الكتابُ الرقميّ يجتاحُ الورقيّ

فيلما آثار جانبية وأضواء في الغسق

بحث



5 مختارات عشوائية

1.  قضايا وشخصيات يهودية

2.  الأدب الجزائري القديم ج2

3.  قصتان: مهذب ومتسخ + لماذا لا يرتاح؟

4.  شتاء، بحر وأشياء أخرى

5.  الْعَنَاصِرُ الدِّرَامِيةُ وتَشَكُلاتِها الفَنِّيَة

send_material


microphone image linked to podcast



linked image to oudnad.net pdf_xive
linked image to oudnad.net/dox