عادل سعد يوسف - السودان
حالةُ سطوٍ خفيفة
هذا العراقي الممزق ولونه الطيني وثقوبه التي اتسعت من فرط جلوسك المستمر محدقاً في الفراغ الذي يمتد بينك وبين هذا النهر عبر تاريخ طويل لا تعرف منشأه. وحدك جالس هنا منعدم الخيارات، لا خيار لك، كل الأسئلة اللجوجة والناشزة لا تملك بصلة إجابة واحدة، تمسح عرقك وصنان إبطيك، وتعفر جبهتك بما يجود به الخليفة من بيت مال المسلمين، لا تملك غير صفة واحدة: خفير البوابة.
أزح هذا الغطاء عن وجهك لترى هذه المراكب المحملة بالقش والأخشاب، والتي جُلبت خصيصاً لبناء بيت الخليفة، محملة بالعيش [الذُّرة]. أعرف نظرتك الجامدة هذه وما تحويه من مرارة ومن أحلام مستحيلة.
كيف لك أن غافلت التاريخ؟
كيف لك هذه الانعطافة الكبرى؟
يا عبد القيوم
أعرفك تماما تغالب حالات من الشوق لتخليد ذكراك بالقرب من النهر، لم تكن مشهوراً أبداً، ولا تملك من رصيد البطولات ما يؤهلك لتصبح ما أنت عليه الآن.
لم تكن راضياً كل الرضا ولا تستحضر ما لديك من ينابيع الصبر وقناطير الأيام المرفوعة على رايات الخليفة، وعرضته على فرس شوهاء. نضبت مصادرك الذاتية والخاصة، تمضي على وتيرة واحدة كل مساء تفرش برشك المتهرئ وتتعلق بحملقات للسماء في صيفها اللاهث.
يا عبد القيوم افرد ثياب الحكي حتى حذر العيون من جواسيس الخليفة، أنجز ترسانتك الخاصة وأمش على الحائط، فالطرق غير معبدة وغير سالكة. لا تخف الخراب والغزوات التي لا تنتهي، طالما بيت الأمانة قابع في مكانه ومستفاً بالذخيرة، فالبطش قادم لا محالة وأنت الخفير الوحيد. لا تحسب تكلفة الحراسة الليلية واحتسب.
احتسب عمرك عبر جبال الظلام المبعثرة، وأقطع تيارك الداخلي من الاسترسال، هذه الأمور تحدث كثيراً في هذه الأرض، لست الوحيد الذي يسطو، السطو هنا مباح تماماً في كل زاوية أسبوعية، ما من صحيفة إلا بها خبر من سطو مسلح وغير مسلح، خفيف أو ثقيل بالجملة هو سطو.
كان أبوك القادم مع جيش المهدي ومن مناطق أكثر عوزاً، أكثر حنكة منك. استسلم للراية وأنقذ نفسه من ويلات الهلاك، آثر السلامة من الردى وادخرك لأيام مجنحة ومنتفخة ببطولات حقيقية وأخرى زائفة، كما أنقذ أخواتك من النهب ومن خليلات متع لا أفق لها، وصفى فكرته بصورة نهائية من مقاومةٍ يعلم أنها خاسرة.
وبما أنك الذكر الوحيد، حملَّك فكرة حمايتهن والوقوف على زواجهن، وتلا عليك كل الوصايا الخاصة بالحفاظ على روابط الدم الواحد، دمٌ واحدٌ مستقيم غير معوج. ولم تمسك بمناح همسهن ذات ليل أطرافُ الراتب.
يا عبد القيوم كيف غافلت تاريخاً معلقاً على وريقات ذابلة؟
ما زال صمتك الجارح يزداد اتساعاً، وعيناك اللتان تشبهان ميزان الكزبرة، تجوسان في محجرين تآكلا من غبار السنوات.
لا تقلل من قيمة اللحظة التاريخية التي سطوت فيها على بطل حقيقي، كنت شاهداً على ذلك، كنت تمشط خيالك الكبير جيئة وذهاباً، ترتب قفزتك، لا شيء يعوق طريقك المستوي.
كيف راكمت هذا الصبر وحملته على كاهلك لتتباهي بمنجزٍ ليس لك؟
لا تشتم عجزك، عجزك الذي جعلك تتفنن في وضع خطتك الجهنمية الخالدة. لا تلم نفسك فيما أنت عليه، إن الفرق بين الغصب والسطو يكمنُ في الأسلوب، تسطو لخلد اسمك وليس لديك أحلام أخرى كما الخليفة.
لا عليك. أحلام الخليفة تخصه وحده.
ولا يخصك إلا حلمك.
كل الناس تذكرك الآن، الذين رأوك وشهدوا ملامحك، والذين يمرون بهذه البوابة، ويضعون مسامير نظراتهم المنسوجة من خيوط استفسار بعيد، ويفتلون حبال الحكايات الشعبية حول بطولتك، يقلبون دفاترهم المدرسية لم يجدوا سطراً واحداً ويتيماً يتحدث عنك، وأنت ملتف في عراقيك الطيني.
يا عبد القيوم لا تقلل من لحظتك.
يدك المرتعشة والخلوة القاتلة وأنت على برشك المرجوج بتعب الليلة الفائتة.
تنتبه وصمتك يغسل أطراف أصابعك المعقوفة كخطاطيف، تنجز المغالطات الكبيرة، كانت المدينة سوراً كبيراً، وأنت تعلم ذلك، وفي أحد أضلاعها وقفت هذه البوابة ترمي أطرافها حتى الطابية، وأنت تعلم ذلك، وأي زائر للخليفة لا بد أن يمر من خلالك وأنت تعلم ذلك، لا تقلل من أهمية وجودك الذي عبره يمر زوار الخليفة، إذن أنت المدخل الوحيد ومن حقك أن تسمي البوابة باسمك: بوابة عبد القيوم.
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ