د. سهام السرور - الأردن
إجــــــــازة
بدأ يوم متثاقل الخطى، تلفح شمسه الوجوه منذ ساعات الصباح الأولى، صحوت فيه قبل أن تخشع الأرض تحت صلاة الفجر، حاولت الابتسامة.
نظرت حيث أحب حيث تقف شجرة الريحان منتصبة بكبرياء، شددت عزيمتي بما تبقى من أمل في نفسي، حاولت امتطاء حذاء السعداء، وارتداء ثيابهم، ولكن هيهات، فما أن وقعت نظرة مني على كتبي المكدسة فوق طاولتي، حتى تكدست في مخيلتي خسارات أقوام بائدة، وأحلام أطفال كسرها عمر الشباب.
هنا كتبي حيث يحط الوقت رحاله منذ العصر الجاهلي حتى يومي الحاضر، هنا بين هذه الأوراق الصفراء والبيضاء والبنية تمكث شعوب ودول، هنا انتصارات وهزائم مدوية، هنا حيث تجتمع القنبلة وحمامة السلام.
أجلس كما يومي متثاقلة إلى الأرض أمام طاولتي القصيرة فأتكئ عليها واضعة يديّ على وجهي، مقررة العصيان على ديوان الخدمة ومتجاوزة بإجازاتي الحد المسموح به، وهل يضر مفلس المال زيادة إفلاسه؟ فليذهب الراتب الصفري إلى الخزينة فقد يستفيد منه من هو أكثر حاجة مني.
سأجلس اليوم بين كتبي، في مملكتي الخاصة، حيث يملأ الحبر أصابعي، وتخترق الحروف عقلي وقلبي، كل سطر يفتح في مخيلتي عالما خاصا لا يسكنه غيري، هنا ما أحب وما أعشق.
يكفيني لقوت يوم كأس من الشاي أصنعه بنفسي على الموقد الصغير المستقر على طرف طاولتي، وقطعة من الخبز وأخرى من الجبن تكفياني ليوم كامل حيث أنسى نفسي وتسرقني الكتب بفوضوية محببة إلى نفسي، وينساني أهلي في غرفتي.
ما أن يحين العصر حتى تطل إحدى أخواتي لتتعجب من عدم ذهابي للعمل وبقائي مع علمها وعلم جميع من يسكن في القرية أنني قد تجاوزت الإجازات المسموح بها، فلحق مقص الخصومات براتبي بعد أن لحق به منشار الرسوم الجامعيز.
لم أخبر أحدا ولكن يكفي أن لا يراني أهل القرية على الشارع كعادتي في الصباح الباكر منتظرة وسيلة نقل عام حتى تبدأ تُنسج القصص بين قصة تقول بطردي من الوظيفة، وقصة أخرى تقول بمرض مزمن لحق بي، وقصة تقول بوجود مشاكل في أسرتي، ولكني وحدي أعلم أن عشق الكتب أبقاني هنا.
لم أُحارب في حياتي سوى من أصفار البشر. إن من لا يهتم لأمر الكتاب مع معرفته بالقراءة والكتابة فهو لدي من أصفار البشر، فلا صداقته ولا معرفته ولا رأيه يهمني، لأن كل ذلك يصدر عن جهل متعمد. لو كان جهلا غير متعمد لوجدت العذر بقولي هو أميّ أو هو ضعيف البصر.
ولكن للأصفار إصرار على الانتساب للأمية وإن عرفوا القراءة وحفظوا حروف العربية وكتبوا بها في دروس النسخ، وامتلأت دفاترهم بالحبر لزمن بعيد إكراها من معلميهم، وكانت أعينهم 6/6.
ولم أصادق في حياتي صداقة أجمل من صداقة عشاق الكتب، من اعتادت أصابعهم على شن الحروب على الدفاتر بالأقلام رغبة لا رهبة.
ليتهم يعطوني حيزا من الوقت أقضيه بين كتبي بسلام، وليت الوظيفة لا تسرق كل هذا القدر من وقتي وجهدي وتنهش بجسدي إلى هذا الحد، فلو كان ذلك متاحًا لكنت أسعد فتاة في هذا العالم.
لو كان لكتبي أرواحا وأجسادا وعلمت بمدى عشقي لها لتكفل كل كتاب منها بالعمل عني ساعات في السنة، ولتوزعت أيام عملي عليها كلها بالتساوي، ولبقيت أنا جالسة أطالع أحدها بنهم، أو ملطخة بياض صفحاتها بالحبر الأسود، لينشأ عالم جديد من نوعها وجنسها، ولبدأ هيكل عظمي لأحد الكتب بالنمو ليكتسي بعد أيام كل معالمه المحببة لدي، فيأخذ حيزًا على طاولتي، بعد أن أخذ حيزًا من روحي وتجربتي وقد يحتضن بين أوراقه ألف دمعة ودمعة.
فلتنتشري بشموخ على طاولتي أيتها الكتب، وسأعدكِ باستمراري في التمرد على جمود قانون إجازات لا يعترف إلا بالمرض، أو لا يعلم واضعه أن أرواحنا يعلوها الغبار أحيانًا ونحتاج أن ننفض غبارها دون وصفة طبيب، أو توقيع مدير.
بدأ النعاس يجذبني ليبدأ يوم لا إجازة فيه، ولكن سأعود قريبا للتغيب لا إصرارا على جز رأس راتبي، ولكن للجلوس أمام طاولتي لأسكب كتبي في عقلي وروحي، وأسكبني بين الأوراقِ غريبا يحتضن غريبا.
◄ سهام السرور
▼ موضوعاتي
3 مشاركة منتدى
إجــــــــازة, أشواق مليباري\ السعودية | 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 - 22:12 1
الأخت سهام
النص جميل حقا، الحنين إلى الكتب يصيبنا جميعا، منا من يقدر على قتله والتخلص منه ومنا من يستسلم فيسهر الليالي أو يأخذ إجازة من الناس ليختلي بها..
ذكرني نصك بنص آخر للأستاذ إبراهيم يوسف(ضاعت بين الركام).
أعجبتني هذه الجملة(للأصفار إصرار على الانتساب للأمية) ما أكثر الأصفار!
شكرا لك
تحيتي واحترامي
1. إجــــــــازة, 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2013, 18:08, ::::: د.سهام السرور\ الأردن
عزيزتي أشواق؛ شكرًا لما منحت كلماتي من وقت، هي الكتب وعالمها المحاري يغلقنا عن
العالم حين نود الهرب عن كل شيء، بحجم الألم بحجم ما نركن إليها لنتلمس ذاتًا تشبه ذواتنا....
إجــــــــازة, إبراهيم يوسف - لبنان | 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 - 07:37 2
محمد الماغوط طيب الله ثراه. كتب رسالة من سجنه أو منفاه يناشد فيها أباه أن يبيع أقراط اخته الصغيرة ليرسل إليه مالاً يشتري به دواةَ حبرٍ أو كتاب. لم أجد "الرسالة" القصيدة للإشارة إليها.. فمضمونها جدير بالقراءة كما أذكر.
ملفتٌ وجميل موضوع الإجازة، ولا اعتراض لي إلاَّ على مفردة (نهم) أتت في غير موضعها..؟ فلا وجه للمقارنة بين شغف المطالعة، وبين النهم على الطعام والتخمة.
حبذا أيضاً لو لم تشيري إلى الناس (النكرة) ومقارنتهم بالأصفار، (كرمال) الصفر..!؟ فالصفر في الحقيقة يا سيدتي وفي علم الرياضيات مسألة مذهلة..؟ فما نشهده من التقدم والحضارة وغزو للفضاء والطب، قائم في بعضه على قيمة الصفر وأهميته في علم الرياضيات.
في تعليق منقول عن ترجمة لكتاب الخوارزمي إلى اللاتينية، وُجِدَ في بعض الأديرة القديمة ما يعني على وجه الدِّقّة: ( إن الله يتمثل بذلك الصفر في دائرة تبدأ من حيث تنتهي، ولا يمكن للصفر أن يتضاعفَ أو يقسم فلا يزيدُ ولا ينقص، وإنما يجعلُ من الواحد عشرة إن وُضِعَ إلى اليمين ومن العشرة مئة فألف ومليون.. .. ألخ. كذلك فإن الله يضاعف كل شيء إلى ما لا نهاية ال ∞ (Infini) ويخلق كل شيء من العدم).
تحيتي وخالص محبتي وتقديري لك وللصديقة أشواق لمتابعتها واهتمامها وإشارتها الكريمة إلى نص (ضاعت بين الركام). هذا النص بالذات كتبته وأنا راض عما فعلت، و(الصفر) أيضاً مقالة لبست بعيدة عن المدلول. كتبتها بنفس الرضا والاقتناع، ونُشِرَتْ في بعض أعداد عود الند.
إجــــــــازة, زهرة يبرم / الجزائر | 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 - 17:01 3
يبدو أن الكاتبة هي من ضاعت بين الركام وربما أضاعت عملها وبالتالي راتبها وعلاقتها مع الناس والعالم الخارجي.
أخالفك في أمر وأعجب بأمر آخر.. أخالفك الرأي في كلامك عن أصفار البشر في قولك:" لا صداقته ولا معرفته ولا رأيه يهمني..."، والحقيقة عن تجربة أن للأمي، ولاأقول للجاهل، أيضا رأي صائب في بعض الأحيان وقد تعلم في مدرسة الحياة واكتسب خبرة لا نجدها دائما في بطون الكتب، والحديث الشريف يقول:" الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها." وقد تضيق بك الحيلة أحيانا فتضطرين إلى استشارة الأميين فيكون رأيهم الأصوب. ثم إن الإحتكاك بهم هو لفائدتهم أيضا.
أعجبتني الفقرة:" ولكن للأصفار إصرار على الإنتساب للأمية... وكانت أعينهم 6/6"، هي سخرية وتهكم من تهاون هؤلاء، ولكن هي أيضا دعوة لمتوسطي الثقافة والذين يفكون الخط إلى الإهتمام بالعلم والتعلم فيميلون كفة وضعهم لينتسبوا إلى فئة المتعلمين.
بالتوفيق
زهرة