محسن الغالبي - السويد
قصة وهم
مثل حالم تسمرّت وسط الساحة الصغيرة أتأمل اختفاء قرص الشمس خلف مبنى شاهق ينتصب مثل غول. بل مثل ضائع بين الجموع – ولا احد، وتائه بين سنوات مبعثرة هنا وهناك، أتحول أحيانا إلى صعلوك وانا في قعر داري، وغريب برغم كل الوجوه التي أعرفها وتعرفني – ولا أحد.
مذهلة أنت أيتها الشمس، حتى في غروبك ما من منافس، والغول الذي أراد حجبك أستحال إلى مساحة مظلمة وسط المشهد.
وسط غفوتي تلك شعرت بنسيم هادئ رقيق عذب يداعب وجهي، وموسيقى حالمة برقّة ألحان زامفير (1)، أو أعمق حلما.
شيء ما يمسّد طرف وجهي، قليل من هواء عابث قد حمل بعضا من شعرها. كانت تقف على مقربة مني دون أن أشعر بها. خفيفة كانت مثل ظل صفصافة، شفافة كنور الشمس، وعابرة كانت تماما كلحظات السعادة.
سألتني: "أتعرف أين مكتبة المدينة؟"
"تعطلت لغة الكلام" (2)، وطالت لحظات صمتي، تمعّنت فيها مليا. فقط كي أدرك أن ما أراه حقيقة. غالبا أنا لا أثق بما تراه عيناي، بل على يقين أن ما أبصر وما تبصرون (3) ليس حقيقيا . الحقيقة شيء أبعد من ذلك بكثير.
أردت أن أتلمّس ملامح وجهها كي أتيقن. ولم أجرؤ. ما أعرفه حينها أن الشمس قد غربت كي تهبط أمامي هاهنا. أظنها ظنت بأني ليس على ما يرام، أو أن بي جـنّة. مع ذلك ظلت تنتظر الجواب.
قلت: "هناك بعد أن تتجاوزي ركن الميدان الغربي". وأشرت بيدي.
لملمت الشمس خيوط نورها وذهبت صوب الغرب شاكرة جوابي. تذكرت بعدها أن هدفي هو المكتبة أيضا، بحثا عن رواية " قصة حب مجوسية " (4)، كنت قد قرأتها قبل عشر سنين أو أكثر، واشتقت إلى قراءتها اليوم مجددا .
كان الوقت متأخرا للتجول داخل المكتبة ولتصفح الكتب. لمحتها تقف هناك في وسط المكتبة تقلب كتابا ما، كان نورها كافيا للدلالة عليها.
كنت أعلم أن الكتب العربية تصطف في طرف آخر، مع ذلك تظاهرت بأني أبحث عن كتاب حيث هي، وحين بلغتها لم أجد لها أثرا. لعلي أخطأت الوصول. لمحتها في طرف آخر، مشيت حذرا صوبها. كانت قد تلاشت واختفت من ها هناك. لم أكن أحلم. لمحتها تخرج، تظاهرت بأني وجدت ما أبحث عنه وقفلت راجعا للخروج.
كان الميدان فارغا. لا أحد. أقفلت المكتبة أبوابها بعد خروجي ونسيت أن أستعير الرواية. وقفت قبالة ذلك المبنى الشاهق، كانت بعض تفاصيله ما زالت ترى بنصف وضوح، فالشمس لم تغرب بعد تماما .
في زاوية بعيدة من الميدان فتح مطعم صغير أبوابه لبرهة فبلغت مسامعي موسيقى زامفير من داخله، وشعرت بنسيم ناعم يعبرني، ولا أحد .وعدت إلى "البيت وحيدا فارغا إلا من الوحدة" (5). كنت أحاول أن أعثر على الفرق بين الحقيقة والوهم، ولم أجد .
كل ما هو حقيقي وهم. وكل وهم حقيقي.
= = = =
=1= زامفير: موسيقي روماني اشتهر بعزفه على آلة الفلوت حتى لقب بملكها، موسيقاه مفعمة بالفولكلورية والرومانسية.
=2= العبارة مقتبسة من قصيدة "يا جارة الوادي" للشاعر أحمد شوقي.
=3= العبارة مقتبسة من الآيتين الكريمتين (فلا أقسم بما تبصرون، وما لا تبصرون). سورة الحاقة. الآيتان 38-39.
=4= رواية لعبد الرحمن منيف.
=5= من قصيدة "أغنية" للشاعر محمود درويش.
◄ محسن الغالبي
▼ موضوعاتي
- ● لقاء
- ● ضباب
- ● ما حدث معي هذا الصباح
- ● شيء من العذاب
- ● شمس
- ● هوس شرقي
- ● وحل الوطن
- [...]
2 مشاركة منتدى
قصة وهم, أشواق مليباري\ السعودية | 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 - 08:07 1
الأستاذ محسن الغالبي
هذا الكلام الرقيق، وموسيقى (زامفير) الراعي الوحيد، واللوحة البسيطة التي رسمت في ساعة من التأمل..
كلها مجتمعه تمثل بناء مكتملا لنص رائع في إطار جميل.
شكرا لك
تحيتي
قصة وهم, زهرة يبرم / الجزائر | 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 - 18:25 2
" غالبا أنا لا أثق بما تراه عيناي، بل على يقين أن ما أبصر وما تبصرون ليس حقيقيا. الحقيقة أبعد من ذلك بكثير".
ذلك هو التخيل والوهم الذي بنيت عليه قصتك الوهم. على هذا الأساس كم في حياة الناس من قصص أوهام.
رائع ما كتبت سيدي.