سلام عبود - العراق
مطر أسود
رفع يده المتعبة وضغط على جرس الباب. انتظر بضع ثوان. تذكـّر أنّ التيار الكهربائي مقطوع. دقّ بكفه على الباب، وانتظر متكئا على حافة الجدار الملطخ ببقع داكنة، جرّاء المطر الأسود الذي هطل يوم أمس. ومن خلف الباب جاءه الصوت الذي توقع أن يسمعه، صوت أمّه: "من؟"
فُتح البابُ فظهرت أمّه بملابسها البيضاء. توقفت أمامه مندهشة، مترددة، خائفة، بينما كانت نفحة مفاجئة من الريح تعبر جسده وتدخل البيت من خلال الباب المفتوح، فيهتز ثوبها الأبيض مرتعشا، وتبدو له مثل علم يخفق في الريح؛ علم وحيد يخفق في روحه، علمه الوحيد المتبقي بعد أن أحرقت النيران آلاف الأعلام البيض المرفوعة باستسلام.
"أنا منتصر"، أجاب وهو يبتسم ابتسامة غير مرئيّة، أخفت معالمها طبقات الطين والتراب والسخام التي تغطّي وجهه.
"منتصر؛ حبيبي". شهقت وهي تندفع نحوه وتشرع في عناقه، فاركة وجهها في رقبته، مقبّلة البشرة المطليّة بالطين والسخام، باحثة بأنفاسها عن قطعة من روحها، عن رائحة الكائن الحبيب الذي يخصها، المتواري خلف طبقات من أتربة ودخان ودم متخثر وأملاح، تغطي جسده وتخفي كيانه.
جرته من كفه الوسخة التعبة في اتجاه باحة الدار. سار خلفها طائعا مثل طفل كبير، جارا رجليه الحافيتين المتورمتين، وهو ينظر بدهشة إلى وجوده المحيّر في هذا المكان شديد الألفة، شديد الغرابة.
بدت له أرضيّة البيت نظيفة خارقة النظافة، والجدران عالية، منيعة، خارقة المنعة، أما الشمس فقد بدت باهرة السطوع، مثل كوكبة متراصة من الأجرام المضيئة.
قادته من كفه ووضعته أمام حوض الغسيل. أحضرت إبريق ماء، فأحنى رأسه طائعا من دون أن تقول له ذلك. صبت الماء على رأسه وراحت تفرك وجهه بالماء والصابون، كما كانت تفعل له حينما كان طفلا صغيرا. رفعت الوجه الندي، المبقع بالسخام وبقايا الأتربة، فرأت شيئا من لون بشرته وشيئا من ملامحه. اندفعت نحوه تعانقه وتقبله في وجهه، وهي تشم بعضا من رائحته التي تعرفها.
"ربما تريد أن تتأكد من شخصي"، فكر منتصر بدعابة، وراح يقبّل وجهها الباكي، الفرِح.
لفت ساعدها حول خصره مثل عاشقة وسارت معه نحو غرفة الاستقبال. أجلسته على الأريكة الوثيرة والتصقت به، فأحسّ كما لو أنـّه يغرق في حلم. نعم، حلم وأي حلم!
حينما وضع جسده على الأريكة غار جسمه في طياتها الوثيرة، ولم ترتطم مؤخرته بحديد العربة المصفـّحة القاسي. وحينما أمال جذعه إلى الخلف التصقت رقبته بساعد أمّه الدافئ النظيف، ولم يلامس جسده اللحم الميت، الملطخ بالدمّ المتناثر من أجساد زملائه الجنود. وحينما غمس وجهه في وجه أمّه لم يشمّ رائحة الموت، التي ظلّ يشمّها خلال الساعات الطويلة الرهيبة، التي مرت به وهو يعبر طريق الموت، مع بقايا الجيش المنسحب من الكويت.
وحتـّى الطنين الرهيب الذي ولدّته في رأسه القذائف والانفجارات وأصوات الطائرات المطاردة توقف، لم يعد يُسمع، وبدلا منه أخذ يَسمع نشيج أمّه، وأنفاسها القوية.
"فاجأني رجوعك"، نطقت وهي لما تزل تضع شفتيها فوق رقبته المالحة.
لم يجب. ظل يواصل الاستماع إلى صوت قلبها. أبعدت رأسه بيديها عن وجهها قليلا وراحت تنظر إليه. استجاب لها بليونة وأمال رأسه إلى الجانب قليلا، مانحا إيّاها فرصة لمشاهدة وجهه جيدا. نظرت إليه بتفرّس كما لو أنـّها تريد أن تتأكد من حقيقة وجوده إلى جوارها، بينما نظر هو إليها بنشوة طاغية وهو يتذكر وجهها عندما تاه عن البيت مرّة، حينما كان طفلا.
قبـّلته أوّلا، ثمّ أبعدته عنها قليلا وراحت تنظر إليه، ثم هجمت مجددا لتقبّله بقوّة، وهي تهتف في داخلها: أنت في حضن أمّك الآن.
"أنا أدري أنـّهم أعلنوا وقف اطلاق النار، والحرب توقفت، سمعت هذا من الجيران صباح اليوم. ولكن ما كنت أتوقع أن ترجع بهذه السرعة، أأنا أحلم؟" نطقت كلماتها وهي تشمّ مجددا رائحة ابنها مختلطة بروائح الدخان والبارود والرمل والملح.
أما هو فلم يفهم إن كانت تسأله أم أنها كانت مجرد مندهشة لما حدث، فلم يجب، وظل يحني رأسه على كتفها مثل كتلة ثقيلة، مبهمة من اللحم والأتربة.
"هل انتهت الحرب؟ أنا لا أصدق". نطقت باكية، ولم يجبها أيضا. وماذا يجيب؟ ماذا يقول لها؟ وكيف لها أن تفهمه؟ كيف لها أن تفهمه لو قال لها إننا لم نحارب؟
هم وحدهم الذين أطلقوا النيران علينا. نحن لم نذهب لنحارب. نصف مليون جندي زرعونا في الصحراء مثل أهداف تائهة في العراء. نصف مليون محارب لم يحارب. نصف مليون محارب أوقفوهم في عري الصحراء ووضعوا أمامهم جحيما من النار. نصف مليون محارب لم يطلق طلقة واحدة، ولبث في العراء يتساقط كالذباب بنيران وحيدة لا مجيب لها.
نصف مليون من المحاربين، مكسوري الروح، ممزقي الإرادة، يركضون مثل الفئران الطريدة، تتعقبهم الطائرات وقذائف المدفعية والآليات. أجساد متفحمة، أشلاء ممزقة، مبعثرة في الرمال، دماء شربتها ألسنة النار وحقول الموت.
ماذا يقول؟ وكيف ستصدق؟ وهل يتوجب عليه أن يجيب؟ هو الآن بين يديها، آمن في حضنها، كما كان يأتي إليها طفلا عقب المشاهد المفزعة؛ يلتصق بها ويدفن رأسه في صدرها. هو الآن بين يديها. هل يجب عليه أن يقول شيئا؟ هل يجب عليه أن يرسم لها خريطة الموت الرهيبة، التي مرّ بها مع آلاف الجنود المذعورين الهاربين من مصيدة الموت؟
"المهم الحرب انتهت، المهم أنت هنا". قالت بصوت يختلط فيه الفرح بالبكاء، وهي تضغط جسده على صدرها ملتصقة به، كما لو أنـّها لا تريد له أن يبتعد عن حضنها.
فتح عينيه الملتصقتين ببياض ثوبها وفكـّر في أن يقول لها "الحرب لم تنته. نحن لم نبدأ الحرب بعد، نحن لم نحارب. لم نطلق طلقة واحدة. ذهبنا إلى مصيدة الموت ولم نحارب. نحن لم نقاتل، ذهبنا لنُقتل". أوشك أن يقول لها ذلك، لكنـّه فضّل أن يسكت وأن يظل يستمع إلى دقات قلبها القريب من أذنه.
كان قلبها يبثّ في روحه موجات من الهدوء والإحساس بالأمان، ويمنح جسده الخدر، المتعب، لذة الاسترخاء، استرخاء المحارب عقب معركة طويلة، قاسية، وخاسرة. أغمض عينيه فتعالى دوي قلبها.
"أهم شيء عندي هو أن الحرب انتهت، وأنت هنا". كرّرت الأمّ قولها بصوت خافت، ولم يسمع هو ما قالته. كان دوي قلبها يملأ أذنيه، وأنفاسها الهادئة تخدر روحه التعبة الجريحة. هل قالت شيئا؟ ربما هي لم تخاطبه أصلا، وإنما همست بذلك لنفسها لتطمئن روحها القلقة، ولكيلا توقظه من إغفاءته المفاجئة.
لم تستمر إغفاءته طويلا. بضع ثوان لا أكثر. انفجار مكتوم انطلق وهزّ المكان، تلته رشقات متواصلة من بنادق آليّة خفيفة. انتفض جسده بغتة. أفاق كمن يصحو من حلم مثير. نظر إلى وجه أمّه، إلى جدران البيت، إلى الفضاء المشمس المحيط به، فاختلطت عليه الأشياء اختلاطا عجيبا، ولم يعد يفهم هل كان نائما، يغطّ في حلم وأفاق الآن على صوت الرصاص، أم أنه لما يزل يحلم هذا الحلم الطويل المرعب، الذي لازمه طوال الأيّام الماضية، منذ انسحاب وحدته مع بقايا القوات المتقهقرة وبدء هجوم القوات الأجنبيّة عليهم.
رشقات جديدة من بنادق آلية يعرف صوتها جيدا شقت سكون الصمت، تلاها انفجار عنيف لقذيفة مقاومة دبابات، ثم أعقبها مزيج من الانفجارات والطلقات.
قالت الأم وهي تسحب ابنها نحوها وتمسك بثيابه:
"هل جاء الأمريكان وراءكم؟"
"لا، ليس الأمريكان، هذه حربنا هذه المرة. ربّما حربنا الأخيرة".
صرخت وهي تتشبث به بقوة: "لن أدعك تذهب. لن أدعك تذهب إلى حرب جديدة مرّة أخرى".
نظر إليها مبتسما وهو ينهض متوجها نحو الباب.
"لن أذهب، أنا لا أحتاج هذه المرّة إلى الذهاب. الحرب الآن هنا، هنا في باب البيت يا أمّي. ألا تسمعين؟"
تسمّرت هي في مكانها مأخوذة، مبلبة الفكر.
أضاف منتصر من دون أن يلتفت إليها: "أريد فقط أن أرى ما يجري في الشارع، لا تخافي".
نطق ذلك وهو يخطو مبتعدا عنها باتجاه الباب، بينما لبثت هي تنظر إليه مرتعشة، خائفة، حائرة ومندهشة، بالضبط كما وقفت قبل دقائق حينما فتحت الباب ورأته أمامها عائدا من مصيدة الموت.
1 مشاركة منتدى
مطر أسود, عبد العزيز | 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 - 10:39 1
"مطر أسود " ..تلائم وبشكل أو بآخر مع محتوى قصتك المؤثرة ،،
لقد عشت أحداثك التي نسجتها بأحترافية ووصلت أليّ مشاعر وأحساس
كل من منتصر والأم ..،،
ولكن !!
تألمت للنهاية اللقاء والآمان الذي عاشه منتصر دقائق قليلة متناقض
مع ساعات الموت التي قد لازمته أوقات طويلة ..
بانتظارك جديدك بكل شوق .،،
تحياتي ،،،