مهند فوده - مصر
وأضاعهـا النسيان
عزيزي: اشتقت إليك كثيراً رغم أنك معي كل يوم، ولكن بماذا يفيد جوارك لي وأنا لا أعي وجودك بجانبي يا حب العمر؟
اعذرني فليس بيدي ما حل بي ولا بيديك، واغفر لي إن لم أستطع أن أستكمل ما كنا نصبو إليه، فلقد زادت تعاستك بزواجنا ولم تجن معي ما كنا ننشده من هذا الحب. وهبت لي كل جميل، ومنحتك أشد أنواع الألم، وتحملتَ راضيا بلا شكوى أو ملل. أغدقت عليَّ بحنانك واحتويتني، فأبادر بسؤالك "من أنت؟ وأين أنا؟"
أدرك جيدا الآن كم تتعذب، كم هو موجع حينما لا يهتدي إليك حبيبك وهو بين يديك! كم كاد أن يفتك بك الهلع والخوف حينما فقدتني مرة في إحدى الأسواق، ومرة أخرى حينما قررت التنزه حول بيتنا فنسيت طريق العودة وضعت في شوارع مدينتنا الكبيرة.
أضعت نفسي كما أُضيع بوصلة الاتجاهات وتفلت مني عقارب الوقت.
إنني أتعجب كيف لذاكرتي التي أحبتك بكل ذرة من خلاياها أن تنساك وأنت من أثثها بأروع ما تؤثث به ذاكرة امرأة من ذكريات، امرأة ظلت منذ ولادتها وحتى سُكناك بها جدران ذاكرتها خاوية سوى من بعض الصور غير الملونة وأحداث لم ترق لتملأ أطرها الفارغة، امرأة لم يكن لها من تاريخ يوثق بذاكرتها قبلك.
أنت تاريخي كله وما أود لذاكرتي فقط أن تحفظ، ولكن مرضي لا يختار سوى محو الأحدث، وقدري يا عزيزي أنك لم تأتني في زمن أقدم.
وكأن القدر استكثر عليَّ أن تعوضني دفعة واحدة بقدر ما فاتني من ذكريات، فمنحني مرضاً يسلُبني ذاكرتي، يفتتها بمرور الوقت، يمزقها ويرتع محواً لأهم ما فيها.
وإن استسلمت ذاكرتي للنسيان، كيف لا يتذكرك قلبي الذي لم ينبض سوى لهواك؟ وإن نساك قلبي، كيف لم تهتد إليك عيناي اللتان لم تر للدنيا ألواناً قبل رؤياك؟
وكأن كل حواسي تكالبت علينا كما سبق وتحالف أهلنا على رفض زواجنا، وحينما رضخوا أمام إصرارنا وباركوا زواجنا قررت حواسي أن تستكمل جريمة محو كل شيء نحوك وعنك.
أعِدُك في لحظة من لحظات عودة إدراكي وأعلم أنها قد تنتهي قبل الشروع في كتابة السطر التالي أنها لن تستطيع، وإن استطاع الزهايمر أن يُنسيني كيف تنطق الكلمات. ولو تمكن من يدي وأنساني كيف تكتب حروف "أحبك" وكيف أصوغ شكري لك في عدة كلمات.
سأظل أتشبث بك حتى وأنا في لحظات غياب وعي عنك، سأظل أصارع النسيان لأعود إليك ولو لدقائق معدودة، أبث خلالها إليك شوقي وأعبر لك عن امتناني، وإن لم يساعدني الحظ وكنت عن بيتنا غائباً، سأوثق ما أكتبه لك في رسالة، سأضعها بجوار باب البيت الكبير ناحية الصالة، إنه الجدار الوحيد الباقي، بعد أن ملئت كل جدران البيت بصور تجمعنا وتواريخ واضحة بأسفلها، وشرح موجز لكيف ومتى تم التقاطها.
أحبك.
أحبك بعدد ما سطرت فيها من حروف وكلمات، أحبك أكثر مما كنت وقت ما سجلت لنا تلك الصور لحظات سعادتنا، ووثقت للذكرى حبك لي وعشقي لك.
سأظل مُحبة لك وأكثر من عاشقة أعدك بذلك، وإن بدا لك في يوم غير ذلك، فقط اقترب مني وانظر لعيني.
ستجد في حركتهما التي تجيد دوما قراءة سطورها ما يطمئنك على هذا الحب الذي زرعته في قلبي ولن تغلبه ولا ألف نوبة نسيان. لقد منحتني ما يكفي كل نساء الأرض من سعادة، وحاربت ثانية كي لا أعود لبيت أبي رغم أن أهلي أولى برعايتي الآن في مرضي منك وأنت الذي لم تهنأ معي سوى بزواج سعيد قصير العمر.
كن مطمئناً أنني راضية وممتنة لك كثيراً أينما كنت. وسواء كنت غائبة عنك بعقلي أو جسدي، كن على يقين أنني أحببتك كما لم تُحب امرأة رجل من قبل...
وتوقف القلم، ولم تستكمل رسالتها أو تثبتها على الجدار كما كانت تنوي، فقد انتهت نوبة الإدراك والتذكر وعادت للشرود، تتأمل ما حولها ولا تتذكر أي شيء.
قامت من على مقعدها، ولم تأبه لسقوط القلم من يدها، أخذت تمشى بحذر بين ردهات منزلها الذي بالكاد ما زالت تتذكر أين تؤدي ممراته، تشاهد صورهما المعلقة على الجدران كمن تشاهدها لأول مرة، وتقرأ باندهاش ما كُتب بأسفلها وكأنها لأشخاص لا تعرفهما ولا سبق وأن انتمت إليهما.
حملت الرياح المارة من خلال النافذة المفتوحة رسالتها، لتقذف بها وتخفيها أسفل أحد وحدات الأثاث بالبيت.
هل سيقرأ زوجها ما كتبته إليه في غيابه؟ أم أنه سيعود من عمله ليجدها كما تركها دون أي اثر لذاكرة عادت ولو لبضع دقائق. سؤال يملك القدر وحده الإجابة عليه.
لكن من المؤكد أنه وإن لم يقرأ رسالتها، فلن تدنو همته في رعايتها أو تخفت حرارة حبه لها. هكذا أحبها قبل المرض وحارب لأجل بقائها معه بعده ليداويها بيديه. ولم ولن ينتظر منها أبدا كلمة امتنان أو رسالة شكر.
◄ مهند فوده
▼ موضوعاتي
6 مشاركة منتدى
وأضاعهـا النسيان, إيمان محمد - مصر | 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 - 23:01 1
بجد أكثر من رائعة يا بشمهندس - سلمت يداك
1. وأضاعهـا النسيان, 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013, 00:50, ::::: مهند فوده-مصر
شكرا ايمان ..ربنا يكرمك
وأضاعهـا النسيان, سهى بالعربى | 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 - 01:13 2
لامستنى الكلمات و داعبت حنينى و تغلغلت فى وجدانى ....حروف رائعه تسكن السطور باعذب و ارق الاحاسيس ........تحياتى لنبض قلمك المبدع
1. وأضاعهـا النسيان, 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013, 00:48, ::::: مهند فوده-مصر
شكرا سهى سعيد بقراءتك وتعليقك ..دمت سالمة
وأضاعهـا النسيان, زهرة يبرم / الجزائر | 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 - 16:03 3
نص رائع يلفت النظر إلى الأسلوب الراقي الذي تميزت به معاملة زوج لزوجته في محنتها، ذلك هو البعد الإنساني في القصة، وهو رفع المعاناة والحرج على الإنسان حين يكون في أزمة وبحاجة لمن يأخذ بيده ويهدئ من روعه ويخفف من آلامه المعنوية فضلا عن الجسدية.. رغم أن الزوج كان مثاليا في هذا الجانب إلا أني تمنيت لو يعثر على الرسالة، ليقرأ ذلك الإعتراف الجميل بالجميل.
1. وأضاعهـا النسيان, 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013, 19:12, ::::: مهند فوده-مصر
شكرا لك سيدتي..على تعليقك ..وعلى مرورك الكريم..واشاركك ذات الامنية ..
وأضاعهـا النسيان, رولا كمال - مصر | 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 - 13:57 4
فعلاً ابدعت جداً في هذا المقال، وانني لأرى من الرومانسية والاخلاص والحب ما يذيب الحديد ويوجع القلوب .. كم كانت كلماتها صادقة ومؤثرة في رسالتها .. وكم كان هو نعم الحبيب والزوج، ولكن هل يجود القدر عليه ان يقرأ رسالتها، وهل يمكن أن يجود القدر بمثل هذه المشاعر النبيلة من كليهما ...
رائع سيدي .. دمت مبدعاً
1. وأضاعهـا النسيان, 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013, 00:52, ::::: مهند فوده-مصر
سعيد بانفعالك للقصة ..وتأثرك بيها ..كلماتك شهادة اعتز بيها ..شكرا لك رولا
وأضاعهـا النسيان, رانياكمال -مصر | 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 - 00:18 5
النص رائع جدااااااااااااااااا
والحقيقه انك فى كل مره يكون النص اكثر ابداعا
والجميل انك تعيدنا الى الرومانسيه الجميله
سلمت يداك مهند ودمت مبدعا
تحياتى
وأضاعهـا النسيان, إبراهيم يوسف - لبنان | 3 كانون الأول (ديسمبر) 2013 - 16:41 6
مهند فودة
مصطفى لطفي المنفلوطي.. كان بارعا في التعبير عن خواطره. لكن الرجل غاب عن هذه الدنيا وغابت معه نصيحة إدارات المدارس، وأولياء الطلبة لإعادة النظر وإحياء ميراث الراحل المغبون، والميراث اختفى حتى عن العربات التي تبيع الكتب العتيقة على الطرقات.
من جهتي؛ لا أختلف عنك في الحسرة على الرجل وعلى الماضي الجميل. لكن؛ ذاك عهد قد مضى، وهذا زمن مختلف يا صديقي تغيرتْ معه أحوال الناس ونمط أفكارهم.