مختارات: الذاكرة والأوراق لمحمد دكروب
وكما يحدث في الأفلام العربية التي تتألف أحداثها من سلسلة مصادفات سعيدة: عثرت مؤخرا، والمصادفة، على كنز ثقافي كنت اشك أصلا في وجوده.
أما "هم" فكانوا ومنذ زمن طويل يبحثون عن النصف الأول الضائع من هذا الكنز الثقافي بما يشبه اليأس.
* * *
عام 1958، وكنت أتولى مسؤولية التحريري في مجلة "الثقافة الوطنية" الشهرية، بدأت تصلني من الشاعر والكاتب المسرحي نجيب سرور، وكان يعيش في موسكو، فصول من دراسة طويلة متميزة بعنوان "رحلة مع نجيب محفوظ"، وهي دراسة جديدة من نوعها في النقد الأدبي العربي في تلك الفترة، وربما في زماننا هذا أيضا، عن ثلاثة نجيب محفوظ (بين القصرين-السكرية-قصر الشوق). ولعلها أول دراسة في النقد العربي الحديث تذهب في رحلة تحليل واستكشاف العالم الداخلي، والبنية الداخلية لثلاثية محفوظ.
إنها في الواقع دراسة تجمع منذ تلك الأيام بين الطريقة البنيوية والرؤية الماركسية والإمتاع القصصي، معا، فلا هي تكتفي بالتحليل البنيوي التشريحي الجاف والمجرد، ولا هي تنظر إلى العمل الأدبي من الخارج، بل هي بالفعل رحلة ناقد ماركسي مستنير إلى العالم الداخلي للثلاثية، يعرفنا على معالم وأسرار الشخصيات والأماكن والأحدث.
وهذا الناقد كان يملك أسلوبا قصصيا مشوقا وممتعا، فإذا الدراسة النقدية تحمل إلى القارئ متعة فنية ومتعة عقلية ومتعة الاكتشاف، معا، فهي دراسة طليعية رائدة، سواء بالنسبة للآخذين فيما بعد بالطريقة البنيوية من النقاد العرب، أم بالنسبة للنقاد العرب الماركسيين في ذلك الزمان.
* * *
نشرنا من هذه الدراسة أربعة أجزاء في أربعة أعداد متوالية من مجلة "الثقافية الوطنية. الجزء الأول في عدد كانون الأول (ديسمبر) 1958. يمهد نجيب سرور لدراسته هذه بالقول: "هذا حديث سيطول. ويكفي أن نعرف أن الأستاذ نجيب محفوظ قد كتب عمله الروائي في أربع سنوات لنعرف أن الغريب ألا يطول الحديث".
واضح من هذا التمهيد أن الدراسة ستكون طويلة، وقد تمتد لتصل إلى حجم كتاب كامل. ثم توالى نشر الأجزاء حتى وصلنا إلى الجزء الرابع منها، المنشور في عدد آذار-نيسان (مارس-أبريل) 1959. واللافت للنظر أن نجيب سرور وضع في أعلى هذا الجزء الرابع من دراسته الآية القرآنية "قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا" [سورة الكهف؛ الآية 72]، بما يعني أن الدراسة ستطول أكثر فأكثر. وقد جاء في أسفل الجزء جملة: "البقية في العدد القادم".
ولكن ذلك "العدد القادم" لم يحمل الجزء الخامس من الدراسة، ولا حمله العدد الذي صدر بعده. والسبب كما أذكر أن الكاتب لم يرسل الجزء الخامس هذا، أو أنه ضاع في البريد. ولكن السب الأهم هو أن المجلة توقفت عن الصدور في ذلك العام نفسه (1959).
وكانت رحلة نجيب سرور في ثلاثية نجيب محفوظ قد وصلت إلى نقطة تشابك إحدى عقد الرواية، فختم الكاتب هذا الجزء بجملة فيها تشويق لما سيأتي من فصول، وفيها إيحاء بأن هذه الفصول ستكون كثيرة: "العقدة نائمة. لعن الله من أيقظها".
فهل تابع نجيب سرور في فصول لاحقة فكفكة العقد؟ وهل أنهى دراسته الرائدة تلك؟
في تلك الفترة لم يصلني الجواب. ونام السؤال مع الجواب داخل عقدة تنتظر من يوقظها.
وكان نجيب سرور قد عاد من موسكو إلى القاهرة، حيث عاش فترة من مجد مسرحي شعري. ثم عانى من فترة قلق و"جنون" ومطاردة وبؤس ويأس وجوع وتشرد.
ورحل نجيب سرور عن دنيانا بعد معاناة مأساوية طويلة.
وظل السؤال نائما.
* * *
في مطلع هذا العام (1988) استيقظ السؤال من جديد. المناسبة: ظهور سلسة جديدة من الكتب بعنوان "الكتاب الجديد"، كلفتني دار "الفكر الجديد" بالإشراف على إصدارها. فاتفقت مع العديد من الكتاب والباحثين العرب على إصدار كتب جديدة لهم ضمن هذه السلسة.
وتذكرت دراسة نجيب سرور تلك، فاعتزمت جمع أجزائها المنشورة، وإضافة عدد آخر من الدراسات له بحيث تصدر في كتاب واحد، وفاء للرجل وحتى لا تضيع الأجزاء من هذه الدراسة الرائدة.
"ولكن ألا يمكن أن يكون نجيب سرور قد ترك أجزاء أخرى من دراسته تلك؟"
وجاءني الجواب قبل أن أرفع صوتي بالسؤال.
= = = = =
غلاف الكتاب
◄ عود الند: التحرير
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ شخصيات
- ◄ كتب مختلفة