د. أحمد بلحاج آية وارهام - المغرب
دلالات الماء في شعر عبد الكريم الطبال
التشكلات الدلالية للماء في شعر الشاعر المغربي عبد الكريم الطبال مقاربة مفتوحة
شعرية عبد الكريم الطبال وشاعرية الماء
نقصد بلفظ الشعرية تلك الخصائص المائية التي تحضر في شعر عبد الكريم الطبال، وتغيب في شعر غيره، وتنبني على مبدأ المحايثة، بمعنى أنها محايثة لنصوصه، مُجلية للغة الراقية فيها، ولكيفية تشكُّل معاني المعاني داخلها. فهي لا تسعى إلى تسمية المعنى، بل إلى معرفة نسيج تلك النصوص الدلالي، وأسرار انفتاحه على ابستيمولوجيا الكتابة التي هي أعلى النشاطات المعرفية المتميزة، خاصة الشعرية التي تُعتبر فاعلية معرفية خاصة لا علاقة لها بالمجانية أو الزخرفية أو الإلهام أو الانعكاس، وإنما هي بناء باللغة وبالخيال لأكوان لم تتكون بَعْدُ.
ولذلك فإن شعرية النصوص الطبالية لا تَكْمُنُ في وظيفتها الشعرية فقط، بل في بنيتها ومكوناتها الكتابية والفكرية والجمالية وما تحمله من رؤيات جديدة تكشف عن المعتم الغامض في داخل الإنسان والوجود، وعن المكبوت والمجهول والمهمَل، وتصعدُ بالكائن إلى أفق يتيح له بناء تصورات جديدة لم تكن مُنتظرَة.
فجوهر شعريته إذن يكمن في كونها قائمةً دائما على الضد أي على ضد المألوف والثابت والمتواطأ عليه، وعلى اجتراح أسماء جديدة للعالم وللأشياء بلغة تبتكر ذاتها كلما ابتكرت الكون. إنها شعرية تَنْبِضُ بالصور الحية التي هي مشهد للفتنة والغرابة والدهشة والمتعة وكأنها بِلَّورٌ متعددُ الأضلاع فاتنُ الأضواء، تبدو كل قصيدة فيه صورةً مُوَلِّدة للعالم (1)، تسمحُ بالرؤية والحياة حيث لا تتوقعها، وتزرعُ الدهشة والتوتر والثراء في التعبير.
فالصورة في شعرية الطبال لها دور أساسي في إذكاء قوة الأداء الشعري والإيقاعي، وتصعيدِ كثافة المعنى وشفافية اللغة وسِحرها، ولم يتأتَّ هذا للشاعر إلا لكونه يمتاح من تجربته الشعرية العميقة التي لا تأتي بفكرة لتبحث لها عن صورة مناسبة، وإنما تأتي إلى شكل الفكرة وكمالها من خلال الصورة، ولذلك كانت استعاراته ومجازاته طرازًا خاصًّا في الإدراك، واكتشافاتٍ تتمايز جذريًّا عمَّا ألفه المشهد الشعري الراهن، من حيث عمقُها الدلالي، وسطوعُها الأسطوري الخلاق الذي تتعقد فيه الصِّلة بين الإنسان والطبيعة بكل عناصرها من جهة، وبينه وبين ذاته من جهة ثانية.
فالشاعر الطبال يغوص في معروف العالم ومجهوله لالتقاط ما تَحَجَّبَ في أغوارهما مما لا تراه إلا عين الحدس والبصيرة المنشغلة بالغياب في تفاصيله السرية، وهو غياب لا يُقتنص إلاَّ بالصورة؛ التي هي عمقٌ أُنطولوجي شعري يَفتح العينَ المنشغلة بالحضور، ويُؤَهلها لرؤية ما لا يُرى.
فعبد الكريم الطبال في تصوره للعالم وأشيائه لا يعتمد على حالات الوعي المباشر، وإنما على حالات الوعي غير المباشر التي يكون فيها هذا العالم بكل موجوداته موجودًا حاضرًا ماثلاً أمام البصر، وموجودًا غَائِبًا متمثلاً أمام البصيرة التي تستكشف اللامرئي فيه، حيث تراه بعين القلب أو بالإشراق، أي بنوع من التجلي المعرفي يتطابق مع الباطن اللامرئي، فيمحو الظاهرَ المرئيَ لكتابة باطنه، ومن ثمة يلتقي الباطنان: باطن الرائي وباطن اللامرئي، ويلدُ الشعرُ معرفته الجديدة التي تَرَى ما وراء اللامرئي، وتُحاورُ دُخَيْلاَءَهُ وميتافيزيقاه دون أن تقع في فخاخ المرئي، وبذلك تكون معرفةً خارج المعارف وفوقها.
إن الصورة لدى الطبال تُتِيحُ الوحدة مع العالم اللامرئي، وتُعطي إمكانية امتلاكه وامتلاكِ أشيائه بحميمية، والنفاذ إلى حقيقته المُتَجَدِّدَة باستمرار. ولهذا نَرى بنيتها تقوم على الهدمِ والبناء: هدمِ الجسور التي يُقيمها التشبيه بين الأشياء لتكريس الابتعاد ونَفْيِ الاتحاد، وبناءِ علاقات تناغمية وتواشجية وتناسُجية مع مَخْبَر العالم ومُكوناته عن طريق الصورة التي هي نتاجٌ خالصٌ للخيال المطلق وظاهرةُ وجودٍ (2)، وفاعلية تعمل على عدة مستويات: مستوى نفسي، مستوى دلالي، مستوى رمزي، مستوى أسطوري، كلٌّ منها يتسم بالقدرة على الكشف والإثراء، وتفجير بُعْدٍ تِلْوَ الآخر من الإيحاءات في الذات المتلقية.
وهذه الفاعلية لا تُدْرَكُ في نصوصه إلا وفق السياق الواردة فيه، وفي نطاق الوحدة الكلية لكل نص، فهي تنمو شيئا فشيئا مع مجموع الصور الجزئية التي تُكونها في وحدة بالغة التناغم والانسجام مقترحة معناها الخاص.
وعليه؛ فإن الصورة هي في القلب من شعرية الطبال، لها بنية تعالقات وتشابُكات لا تُفهم إلا داخلها، إذ كل قصيدة في متنه الشعري ليست سوى صورة قائمة الذات، منفتحةٌ معماريتُها على شتى الإيحاءات، حتى لتبدو وكأنها بناء شامخ ومنفسحٌ تتحركُ فيه مجموعة من الصور الجزئية المفردة بعلاقاتها المتعددة، وتتشابك وتتضامُّ في شكل هو القصيدة ذاتها.. شكل يضيء الأنفاق المعتمة في النفس الإنسانية (3)، ويحفر دربَ الاستبصار للكشف عن المجهول وتحرير عينِ البصيرة لترى وتقولَ ما توارى في هذا الكون وتستَّرَ فيه من أبعادٍ طمَسَها الحضور الساذج.
ماء الرمز وماء الصورة
وإذا كانت الصورة في شعر الطبال تذكي الأداء الشعري بمائِيَّتِهَا، فإن مائية الرمز فيه تُغني كل عوالمه بما هو غير متصوَّرٍ من قبل على صعيد اللغة والتخييل والفكر. فالرمز لديه هو أفضل طريقة للإفضاء بما يمكن التعبير عنه، يؤول دائمًا إلى ما يمكن تفسيره ومعرفته بالحدس، ولذا كانت رموزه مؤسسةً على الإبداع، وليس على الاصطلاح، مفارقةً للعلامة التي هي تعبير عن شيء واضحٍ معروفةٍ ومُحَدّدَةٍ معالمُهُ.
تجد هذه الرموز تمتزج بموضوعها الشعري وتتداخل وتتلاحم معه حتى تصير هي ومرموزاتها وجهان لشيء واحدٍ، تنتفي عنها الدلالة العلمية والإشارة اللغوية، ولا يبقى فيها إلا تلك البنية العضوية المتنامية والمتفجِّرة آنيا في متنه الشعري، والتي لا يمكن للمتلقي فهم هذه الرموز إذا تخطاها، لأنها الحاملة لفكرة النص الشعري المتجسدة والمحسوسة، قيمتُها في نفسها لا في خارجها أي في عقلنة الانتقال من المدلول الأول إلى المدلول الثاني الذي لا تستطيع الاستعارة القيام به ما لم تكن رمزًا. فالرمز ثريُّ الدلالة، منعدمُ القرين، لا يشتغل مفردًا ضمن ثنائية، ولا يقوم بوظيفة الإخبار. أما الاستعارة فإنها بعكس ذلك، ولأجل هذا كان الرمز أعلى منها، لأنه يؤسسُ العالم ولا يعكسه.
والطبال شاعر يمارس التخييل بالنسق الرمزي، ويحيا "في عالم رمزي، فاللغة والأسطورة والفن والدين هي عناصر من هذا العالم، إنها جميعا خيوط مختلفة تخلق نسيج الرمزية...وكل تقدُّم في فكر الإنسان وتجربته يعقدها هذا النسيج ويقويه" (4). والتجاءُ الشاعر إلى هذا النسيج وجعله وسيلةً للتعبير عن تجربته، وحالاته النفسية والوجودية، إنما هو لغاية إثارةِ حالات شبيهة بحالاته في المتلقي، وإيقاِد نار الغَواية المُثلى فيه.
ولأجل هذا كله اعتمد الطبال على رموز أصيلة، تتسمُ بقوتها الدلالية والإيحائية، وبأنها: (أ)كونية الأبعاد، منفتحَةٌ بسخاء على العالم ومُقتبسَةٌ منه بشكل رصين. (ب) حُلُمِيَّةُ الأغوار، متجذرةٌ في الذكريات، وفي الطفولة، وفي الحركات التي توقظ ذاكرة الأحلام فينا. (ج) شاعرية الفضاءات بامتياز، متدفقة باللغة الأكثر شفافية والأجدِّ بكارة (5).
رصد الحقول الدلالية للماء: موضوعة الماء
وبهذا كان عبد الكريم الطبال شاعرا استثنائيا في المشهد الشعري المعاصر، فشعريته تتأبَّى على السير في خط واحد ووحيدٍ، وعلى السكون إلى بُعدٍ لاَحِبٍ معروفة صُوَّاهُ ومطروقةٍ خفاياه. وبما هي كذلك فإنها ما تنفك تنفلت وتحتفي بالمنفلت، وتسيلُ في أشكال واتجاهات وجغرافيات شتى كما الماء، وبسمات كونية وإنسانية، وبإيقاعات كنبض الطبيعة وحُدُوسِ الكائن.
ولذا تتعذر الإحاطة بها ومقاربتها من جميع جوانبها، وإلا فإن القول بغير ذلك سيكون من قبيل الادعاء الذي يُخْرِجُ شَطْأَهُ، ويضع صاحبه في موقف من يقبض على سراب وهو يخاله ذهباً وما هو بذلك. ولتلافي كل هذا عَمَدْنا إلى مقاربة جانب مهم من شعريته؛ هو ذاك المتمثل في موضوعة الماء كقيمة مهيمنة على إنجازه النصي، وما يحف بها من طقوس وشعائر تجعلها تتمركز في ميتافيزيقا الماء، لا في فيزيقاه فحسبُ، فتفيض عنها عوالم وأكوان كما تفيض الأشياء عن كلمة (كن).
وموضوعة الماء هاته لا تنفصل عنده عن موضوعة المكان، خاصة وأن بعض الأمكنة لها سحرٌ يأسر الروح فتحملها في طيات الكلمات والمعاني والذاكرة، ولا تملك معها إلا أن تنساب بكثير من الشغف والرغبات. وهذا شأن الطبال مع الشاون، عَدَنِهِ المنسابة في فضاءاته الشعرية برأس مائها، فترحاله الكثير في أنحاء متباينة لا يحجب عنه الشاون أندلُسَ حياته، ولا يُبْعده عن وطاءِ حَمامِهَا الآخذ بمجامع كيانه.
وقدسية الماء لديه هي من قدسية الخالق، فالنفس تبحث عن خالقها كما الطبيعة الظمأى تبحث عن الماء الدافق، عطشُها المتجهُ نحوه شبيهٌ بعطش الأرض القاحلة المتجهة نحو الماء، فهي تنتظر تجلِّيه كما تنتظر الأرض الذابلة شربَ ماء المطر. فالأرض والماء صورتان عن النفس والخالق. ولذلك نجدُ الماء في الفكر العبْرِي يتخذ صفة الحكمة، ففي قلب الحكيم يسكن الماء، وهو شبيه بالينبوع. أما قلب المحروم من الحكمة فشبيه بوعاء مشقوقٍ يتسرَّبُ منه ماء الحكمة (6).
إن في الماء قوة اجتذاب فاتنة ساحرة وواعدة بسلام دائم..قوة الجذب هاته قائمة على فكرة الصور المنعكسة، وهي نواة الجمالية. فحكاية نرسيس هي حكاية الانعكاس والتأمل، حيث يصبح انعكاس الأشياء أشد واقعية من الواقع ذاته، لأنه أكثر نقاوة، ولأن صورته المنعكسة هي انتصار للهدوء والراحة (7). فالماء عين الطبيعة ونظرها، فهو في الطبيعة يرى، ولكنه في عيوننا يحلم (8)، ويدفعنا إلى الأمْثَلَةِ ، وإلى الشعور بأن كل التحققات الجمالية مَهْمَا بلغت فإنها تبقى مجردَ خطوات لم تبلغ الكمال، وأن علينا متابعتَها وإنجازَها، والتطلعَ إلى ما لا يُمكنُ القبض عليه إلا بالخيال.
فالصورة المنعكسة على الماء تفتح الطريق إلى عالم الخيال الذي هو حضرة الحضرات، حسب تعبير ابن عربي، ومرآة الماء هي فرصةٌ للخيال المنفتح، لأن الإغواء والجمال يسيران نحو الأعماق «فالأحلام الجيدة هي الطبيعية، أي التي تربط الحُلُمَ بالطبيعة، إذ يستحيل تحقيق أحلام عميقة مع الأشياء المصنوعة. والشاعر الحق حين يبدأ الكلام عن المرآة تسوقه دينامية الخيال إلى الحديث عن الماء ليُضفي الشمولية والغنى والكمال على تجربته الشعرية» (9).
لغة الماء
يعتبر المتن الشعري لعبد الكريم الطبال بمثابة فراديس تزهر فيها مفردات الماء وما يدخل في مجالها الإيحائي من كلمات، بدءًا من ديوانه الأول« الأشياء المنكسرة»، ومرورًا بدواوين «البستان»، «شجر البياض»، «القبض على الماء»، «لوحات مائية»، إلى ديوان «على عتبة البحر». فكلها تدور حول موضوعات الماء، وتخلُق منه ما لم يُخلق، وتُشَكِّلُ ما لم يتشَكَّل، وكأنها بذلك تضع بديلا موضوعيا للعالم الحسي المرئي الذي لا ترى العين إلا سَطْحَهُ الساذج، وليس هذا بغريب من شاعر كُرْسِيُّ إبْداعه على«رأس الماء».
فالماء في الخيال العربي والعالمي هو كوجيطو الوجود، وسرورُ الموجود، وصلة الوصل بالمعبود، به يتم إحساسُ الكينونة بالنقاوة، واشمئزازها من القذارة، وبه تحلم وكأنها في رحم البراءة (10). إذ كل ما يرغبه القلب يُمكن أن يُختصَرَ دائما بصورة الماء (11). إنه البذرة السماوية التي يتكون منها اللؤلؤ، لأن كل لؤلؤة ما هي إلا قطرة ماءٍ عذبٍ نزلت من السماء، فتلقفها فمُ صدفةٍ صعدت من أعماق البحر، وطفتْ على سطحه، ثم شكَّلتها في رحِمِهَا. والشاعر حين يتلقف الماء السماوي بوجدانه يُحيِلهُ لؤلؤة تُسَمَّى القصيدة.
حقول الماء ودلالاتها
تبلغ الحقول الدلالية للماء أكثر من 42 حقلا في شعر عبد الكريم الطبال، وتكاد تُغَطِّي معظم مفاهيم الوجود والكينونة، وما يدور في فلكهما من مفاهيم جمالية وفكرية وإنسانية. فالماء في نصوصه هو دائما مُتحولُ الدلالة، منسربٌ في ترميزات جديدة لا تشابه بينها ولا تناسخ.
فهو البياض كما في قوله:
جَنِينًا كَذَرَّةِ ضَوْءٍ
تَسَلَّقْتُ سَاقَكَ ثمَّ سَلاَسِلَ صَدْرِكَ
حتى ارتقيت
فتوضأتُ مِنْ ثلجها مرتينْ
وصليتُ في صوتها ركعتينْ
إذَا جفَّ حَلْقِيَ
أَنْهَلُ من سَلْسَبيلِ اُلنَّشِيدْ (12) (ص ص 9-10).
وهو المجتمع المُكبّلُ المقهور:
رأيتُهم
يَنْحدرُون
كَيْ يفضُّوا
مجمع القراصنةْ
ويكنسُوا
أَبْهَاءَ البحر (ص: 12)
وهو السكينة والهدوء:
حينَ يأتي الصديقُ البهيُّ
المساءُ
أَثُورُ
على نسمة
في جُنَيْنَةِ بحرٍ
عميقٍ سحيقْ (ص: 14)
وهو السلام المنشود:
لعل الأرضَ تبدأ
بالعصافير الصغيرة
بالنبْعِ الخفيفِ الظلِّ
لا بانبجاسِ الدَّم. (ص: 15)
هو الوشم الناطق:
سِيقَانُ مَاءٍ مِنْ دَمَالِجِ نَسْمَةٍ
أَمْ بَعْضُ سِرٍّ فِي اُلْحَدِيثِ اُلْوَاضِحِ (ص: 20)
وهو القصيدة:
من أجل أن تبدأ نهرًا
دَائِمَ النشيدْ
تَخْلَعُ اُلْوَجْهَ وَاُلْيَدَيْنْ (ص: 21)
وهو الأمل:
ملتصقٌ بكل شيء
بعطر ماءٍ سيهُبُّ بعدَ غَدْ (ص:24)
وهو العروج:
أنْ أَكُون حصاة أُفكِّرُ في البحر
كيف أُطَوِّقُ قامَتَهُ
ثمَّ لا شيءَ يحجُبُ عنِّي السماءْ (ص: 28)
وهو الإيقاع:
فَتِّشوا في جيوب الرياحْ
في مسامِّ الحجارةِ
بين جفون الندى
في دماء القرنفل
في داليات السحابْ
فلن تجدوا
غير نقرَةِ عودٍ
وشهقة رُوحْ. (ص: 29)
وهو الحنين:
لم يبق من ضحكتهِ
سوى رنينٍ غامضٍ
ومشجب
ودفتيْ كتابْ
هو اللبلابْ
يلتفت حول الجذع
يهصرُهُ كالماءْ
هو اللبلابُ وحدهُ
في الأرضْ. (ص: 30)
وهو المكان:
حورية بالحائكِ والحنَّاءْ
تنزل من مراقِى الماءْ
إلى مُنْحَدَر الورد
تلهثُ خلف حفيفٍ
أو آخر ساقيةٍ منسيةْ. (ص: 37)
وهو المقاومة والنضال:
لا يزال الأميرُ
يُصَفِّفُ أشجاره
على شكل ريحٍ
وماءٍ
ونارْ
ليفتح آخر قفرٍ حصينْ. (ص: 39)
وهو الإيمان الراسخ:
سأبعثرُ هذا الركام بعيدًا
لأخرج
حتى أرى المطرَ النبويَّ
يُحَيِّي سوائمهُ المؤمنَةْ. (ص: 47.48)
وهو الوجود الحميم:
لم أشاهد هنا في المساء العميقِ
سوى بعضِ عشبٍ
وبعض ازرقاقٍ
وبعض نشيدٍ
وبعض سماء مُذَهَّبَةٍ
وكلِّ الحياةْ. (ص: 53)
وهو الذكريات الفاغمة:
قد تكون هي النهر في وكْرِهِ
قبل أن يتطاير موجًا
على موجهِ
قد تكونُ أميرة نبعٍ بعيدْ. (ص: 61)
وهو الأطلال:
خَلَّفُوا خلفَهم
أنْهُراً
وَ حَدَائِقَ غُلْبًا
وَ أَبًّا
وَ مَا حَمَلُوا فِي اُلرَّوَاحلِ
غير ترابٍ قليلْ. (ص: 69)
وهو الشعر بكل معانيه:
وحالمٌ كالنهر
ينتعل الحشائش دائمًا
يجري على صدري
مثل ماءٍ في الجبالْ ( ص:77)
هو اللغز الشبيه بلغز أبي الهول القابع في باب طيبة:
حمامة ٌفي البابْ
تسأل كل داخلٍ
عن اسمه السرِّيِّ
عن تراتيل مَاءْ
عن غيمة ناعسةٍ
تحلمُ بالوديانْ،
منذُ ألف دمعةٍ
وما انتهتْ. (ص: 83.84)
وهو النسيان:
أيتها السحابةُ الحزينةْ
ها أنتِ الآنَ في الدُّولابْ
مطويةً كالسرّْ. (ص: 90)
وهو الشهادة والتضحية:
سأنادي عليك
وأفتح صدري إليك
فلا شِعْرَ أجملُ منك
ولا شمس أشرق منك
ولا بحر أعمق منكْ. (ص: 94)
وهو الغياب:
لم يَعُدْ صاحبي
فسألتُ الرذاذَ
الذي يسقط الآنَ
فوق مظَلَّتِه. (ص: 99)
وهو الجوهر:
إني حجرٌ ملكي
كنتُ هنا قبل شروق النهرِ
جسدي من ماءٍ
لا يبليه الوقت
كلماتي من ماءْ
لا تمحوها الريحْ. (ص: 103)
وهو البذل والسخاء:
كان السحابةَ
أينما وليتَ وجهكَ في السماءْ
تنثرُ عليكَ الفجر والنسرينْ
تضحكُ بقلب أبيضٍ
مثلَ الحليبْ
لا تستريحْ
في أي ميناء حقيرٍ أو جليلْ. (ص: 107)
وهو الإبداع:
تمثالٌ ذهبي للبحْرْ
ينطق بالحكمةْ
إن ثرثر نهرٌ
أو جدَّفَ عصفورٌ
يتلألأ منه الوجهُ
إذا قطَّبَ غيمٌ
أو ناحتْ ساقيةٌ
أحيانًا
يحبو طفلاً
فوق الموسيقى المبثوثة في العشْبْ. (ص: 109)
وهو المحبة والعشق:
هبني الماءَ
يا سيدَ السحبِ
كي أَتَمَوَّجَ
في كَأْسِ حُلمٍ
ستشْرَبُهُ امرأةٌ
لا شَرِيكَ لها
فَأَصيرُ على فَمِهَا
بَوْحَ نَايْ. (ص:127)
وهو الحبور والانشراح:
ها هنا يستحم الحمامُ
بماء الصباح
ويحطُبُ عُشْبَ المساءِ
ليدفأَ في ليله
ها هنا
كانت المملكةْ
شادها من شذًى وهديلْ. (ص: 136)
وهو القنديل المتوهج:
قنديل فضة يضيءُ
ما هو ليليٌّ في الظلالْ
يكشفُ
ما هو فجريٌّ في الضياءْ
لولاه ما قرأنا وِرْدَ العشقِ
في مقامِ الوصلْ
وما شهدنا الورْدَ
قبل أن يكونَ فكرةً. (ص: 143)
وهو المعرفة:
لَكَ يَا حَكِيمُ
مَا تَشَاءُ مِنَ الرقائقِ
فِي رَقِيمِ المُزْنِ
فِي رَقِّ الغَمَامِ
عَلَى جدار الصبحِ. (ص: 151)
وهو الكتابة:
هل أقدرُ أن أكتب حرف الألف: الثَّلْجْ
في سِحْرِ وَسَامَتِهِ
في سِرِّ جلالته
هل أقدرُ
أن أرسم من يبدأ في قاع الصوتِ
ويمتد إلى سطح الصمتْ
مرفوعا بين الشهوة والصحوةْ. (ص: 176)
وهو الحرب:
فكم تشبُّ الريحُ
بين الغيمتينْ
وكم يهيجُ الماءُ
بين الوجنتينْ
والآن
مات واقفًا
وما تزال الحرْبْ. (ص: 193.194)
وهو المرأة:
تُطل
قبل أن يستيقظ الصباحْ
على رباب الماءْ
فلا ترى
سوى التي تُطلُّ في المرآةْ. (ص: 196)
وهو الصداقة:
دَعْنِي رَذَاذًا
للذي سيدق بابًا من هَبَاءْ
فَلَعَلني
أمحو الغبارَ عن الزجاجْ
ولعلهُ
إنْ كان شمسيَّ المزاجْ
يمحو بُكائي من يدي. (ص: 204)
وهو الاختفاء:
في آخر النهار العميقْ
جنونُ ماءٍ
وَعويلُ سَمَكٍ
وَقمرٌ كئيبْ
فالغابرون ليلاً
إختَفَوْا
في أول المطر. (ص: 209)
وهو الموت:
في الضفة الأخيرةْ
خارطة للبحر
ولوحةٌ لعاصفةْ
وَشِلْوُ زورقٍ
وبعضٌ من عظامْ. (ص: 210)
وهو التحول:
انثيال المطرْ
قد يجنِّحني
فَأُحَلِّقُ في جسَدِ العشبِ
حتى أرَى
كيف يخضرُّ ماءٌ
بلا ريشةٍ
تتقصَّى البياضْ. (ص: 245)
وهو الشاعر:
يا ماشيا قرب الخراب
أُجلُّ فيكَ
نضارةَ الدفلَى
وشلالاً
على يدك المديدةِ في السماءْ. (ص: 246)
وهو الصبا:
يجري مجنونًا
خلْفَ خيالِ الصَّدَفَةْ. (ص: 268)
وهو الإنسانية:
هنا مَجَرَّةٌ على العُبَابْ
دائمًا
تُشرقُ
لِي وَلسوايْ
أَوْمَأَتْ. (ص: 271)
وهو الهلاك:
تتقافز قُربي
أشباحٌ أو أصواتٌ
تتشنج
تستسلمُ
تهذي:
هات لَنَا كَفَنًا
أَوْ حَبْلاً سِرِّيًّا
أو حتى تعويذةْ. (ص: 277)
وهو الهدية:
أحشو جيبي بالماء
أُعقدُه قرطًا
أُهديه إليها. (ص: 288)
وهو الكلام:
من دمي
هبط الهاربون إلى الأرض
يرتعشون من الخوف
ثم تكلمتُ مثل اليمامِ
فكان كلامي الأمينُ المموسَقُ
فاتحةً للصلاةْ. (ص: 295)
وهو الغيب:
شبحٌ قادمٌ
في همود الرياحِ
وصمتِ الجبالِ
وموت المساء
هل سيسمح لي
أن أخطَّ دَمِي
على الماء ورْدًا
ولا قاطع للطريقْ؟ (ص: 303)
تلك بعض دلالاتٍ اتخذها الماء عند الشاعر عبد الكريم الطبال، وتمركزت شعريتُه في ميتافيزيقا هذا السائل السحري.
استخلاصات
الطبال شاعر مغردٌ خارج السرب، نصوصه من مجرة المختلف، ذات صوت متفرد، ولها ميزتان غاية في الأهمية: (أ) إنها لا تشبه سواها، فملامحها وصوتها لا يُشبهان سوى صاحبها. (ب) إن هويَّتها أصيلةٌ، بمعنى أنها على غير مثال. وعلى هذا يتأسسُ اختلافها، وتنبني إبداعيتُها، لأنها خارج السياق التراكمي، ترفع سقف الإبداع، وتوسِّع دائرة السياق الشعري، ولا تقع في دائرة التشابه بأي حالٍ من الأحوال، لكونها مختلفة إبداعيا.
وبما أن الشعر قابل للاختلاف، والذائقة تختلف باختلاف الزمان والمكان، والثقافة الشعرية لصاحبها، فإنه لا يمكن تحديد معايير يتسنّى الاحتكام إليها في هذا الشأن، لأن الشعر كالجمال يختلف باختلاف زوايا النظر وطبيعةِ النفوس، ومستويات الحضارة، وثقافة المكان، وكلها اعتبارات تؤثر في النص الشعري، وفي الذائقة، فتجعل الحكم عليه بأنه مختلف إبداعيا أمرًا يعودُ إلى ثقافة المتلقي، وإلى نظرته إلى النص من الزاوية التي يود أن يراه من خلالها.
لقد قدم الطبال متنا شعريا مختلفًا، تقرؤه فتحسب أن أطرافك استحالت إلى أجنحة، وأن قلبك بدأ يخفق، وأن قريحتك شرعت تتفتح بالحياة، وكأن قصيدة للتوِّ أطلت برأسها استجابة للمتن المقروء. فنصوصه تكتب في ذاكرتك قدة أخرى، وتسيطر عليك فتملأك حتى لا تستطيع أن تغادر صوتها، بحُكم كونها: (أ) تلدُ نصوصًا أخرى كلما قرأها قارئ شاعر. (ب) تُحرِّضُ على الاختلاف، وتجعل التشابه صدًى لها. (ج) تثير الأسئلة، وتفتح آفاق التخييل، وآفاق الكتابة، وتُولِّدُ النظريات.
إن النص المختلف لا يمنح نفسه لكل شاعر، ولا يستطيع الوصول إليه، وإلى أرضه سوى شعراء الإبداع بمفهومه الحقيقي، لا بمفهومه المتداول في الواقع الثقافي والفني الآن. وعبد الكريم الطبال هو من هذه الطينة من الشعراء النادرين؛ الذين ما فتئوا يهجسون بالتجاوز الخلاق، ويمارسونه نصِّيًّا. ولا أعرف سجَّادة يمكن للروح والوجود أن يصليا فيها بابتهاج وائتلاق أروع من شعره.
= = = = =
الهوامش والإحالات:
=2= Gaston Bachelard. La poétique de l’espace, Presse Universitaire de France, Paris 1974, p. 79
=3= عبد القادر الرباعي: الصورة الفنية في النقد الشعري دراسة في النظرية والتطبيق، ط 1، دار العلوم للطباعة والنشر 1984م، ص: 10.
=4= مبارك حنون: دروس في السيميائيات ط1، دار تبقال 1987م، ص: 82.
=5= Gilbert Durant. L’imagination symbolique, P. U .F. Paris, 1962, p. 9
=6= زهير مناصفي، مرجع مذكور، ص: 149.
=7= Bachelard. L’eau et les rêves, Essai sur l’imagination de la matière, José corti, 1942, 11e Edition, paris, p. 53
=8= Bachelard. Op. cit. p. 33
=9= زهير مناصفي، مرجع مشار إليه، ص ص: 154-153.
=10= Bachelard. L’eau et les rêves, p. 86
=11= Ibid. p. 203
=12= عبد الكريم الطبال: الأعمال الكاملة، الدواوين الشعرية، جـ 2، منشورات وزارة الشؤون الثقافية، مطبعة دار المناهل، الرباط 2000م، ص ص 10-9.