عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

بشير عمري - الجزائر

أنيس وزهرة نيس


بشير عمري=1=

انتهى البارحة الدرس الأخير عن حياة زهور بالأرصفة الطويلة في مدن المناطق الباردة الذي استغرق نص الفصل بكامله تقريبا وقررت لحظتها أن استريح من قلم رصاص أتعبته وأتعبني وألتحق بهم أنا أيضا، لأمزق تلك الحجب الأولى، وأكتشف معهم من أكون؟ وأين أكون؟ وهل أنا حقا من هو خلف الأسوار الأربعة السامقة التي كان ينبعث منها عبق الزهور التي لم أرها إلا بالأبيض والأسود؟

الكل كان يفيض في عتمات الأنفس بما فيه من وجع و جوع حتى أولئك الذين لم تبرد أفواههم يوما، ولم تلثم الرمال نعالهم ولم تمزق أرصفة الحجارة أحذيتهم، الجميع يحفر الحوائط بأسنانه وفأسه، أما أنا فكانت أفيض صورا و كلاما من عين الذاكرة التي جرى سيلها لحظتها بشكل سريع وكثيف، تلك الذاكرة التي حفظت لي رزمة من الأسئلة كرأسمال سنين والتي بفضلها أنا ما أنا رغم الابهام في صحراء لا تعلم فيها عن نفسك شيئا، فتذكرت للتو أنني سألته ذات مرة: "لمَ سكنت بنا بواد غير ذي "زهر" كهذا يا أبي؟"

كان والدي يخشى أسئلتي المثقلة بالعتابات والعتبات والمنفلتة دوما، أو كما كان يراها هو، أسئلة غالبا ما كانت تأتي بعد صمت طويل في مجمعنا، قال لي في كذا مرة إنني لم أتعلم بعد كيف أطرح السؤال الصحيح في الوقت الصحيح والمكان الصحيح. كان والدي يصر على تكرار كلمة الصحيح.

"بل كان واديا ذا زرع يا أنيس يا ولدي، فقط هي الأرض قلبت كل شيء حين انقلبت وكشفت عن عورتها فغوت الناس حتى هجروا الزرع وذهب الوادي بما فيه إلا الزهر الذي انحجب عن الكل ولا تسألني عما لم أحط به علما".

قالها هذا بنبرة مصحوبة بإشارة من ملمحه مصوبة نحو الحوائط الصامتة الصامدة. تلك القلعة الكبيرة الرابضة على هضبة المدينة، لهذا لم أكن متأكدا من أنا. أبي يجهل حقا أين فر الزهر كله هكذا فجأة ومرة واحدة من فيض جوف الأرض، لكني لم أشأ أن أشغله بتوافه الأمور كالسؤال عن الزهور والورود التي هجرت حقول الزرع في زمن تموت فيه الولدان صارخة في أقبية صمت العيون وعمى الألسن، ورجل بالكاد تخلصت يداه من رائحة براميل النفط يوم تقاعد.

=2=

لم أعد أدري هل كبر حقا والدي عن أسئلتي أم أنا من صغر بها؟ لهذا طويت سجل ذاكرتي وكتمت مشاعري فأنا كنت كلما ازددت سنتمترا طولا ازدادت الحوائط أمامي بعشر أمثالها وأتساءل ساعتئذ هل تكبر الجدران مع الإنسان؟

شيئا فشيئا ما عدت أشم عبق زهرة "نيس" التي جيء بها منذ عقود خمس إلى مناطقنا الحارة و حيل بيني بينها من يوم كنت مشروعا بيولوجيا في أرشيف ظهر أبي، فقط تمتعت لمواسم عدة بظل تلكم الجدران من حر الشمس اللاهبة وأنا أغدو إلى المدرسة، اقف أحيانا لأنظر في قمتها وأحسد النحل والطيور إذ أرقبها وهي تتخطى الحوائط بأسهل ما يمكن تلكم الجدران، وتنعم بجمال زهرة نيس، وأنا بالكاد أخالها بالأبيض والأسود على دفتر المُدرسة إلى درجة أنني سألت المُدرسة بعد أن شرحت لنا في درسها عن حياة الورود على أرصفة المدن الباردة، أن المدن لا تضاء بشموس نهاراتها ولا بمصابيح شوارعها الليلية، بل بمقدار ما تفيض به عليها زهور حدائقها من نور ألوانها، لأن الشمس تغرب بنورها والمصابيح ينقطع تياراتها، بينما الورود تزداد توهجا فينا.

"هل توجد زهور سوداء؟"

"نعم توجد؟"

"وكيف يضيء السواد نورا؟"

"الزهور تضيء داخل الإنسان ولا علاقة لها بخارجه. لا قيمة للون نوره".

مرة كنت أنا ونسيم ابن جيران في طريقنا إلى المدرسة فانفتح الباب لتدخل الكاديلاك السوداء ذات الزجاج المطلي هو الآخر بالسواد بحيث يراك من بداخلها من حيث لا تراه أنت، فرميت بناظري في فتحة الباب لأسترق النظر داخل الحديقة العجيبة فلم يتسن لي الأمر وفاتني الحلم، شعرت بألم شديد في نفسي ساعتها. استدرت وسألت نسيم:

"هل استطعت أن ترى شيئا؟"

"وكيف لم أر؟"

"ما الذي رأيت هي، صف لي كيف هو شكلها؟ ما لونها؟"

"طويلة. عريضة. مسطحة. سوداء. أنيقة. مريحة".

"ما الذي تقوله هل حقا هي كذلك؟ سوداء، عريضة، طويلة، هي ذي زهرة نيس؟

"أنا أتحدث عن الكاديلاك".

=3=

حل إذا الربيع قبل موعده في حسابات والدي التي علمنيها، نحن أيضا كان لنا نصيبنا من الصرخات البعيدة، فتسلقنا الهضبة سويا. مزق حليم قميصه الأبيض القصير الذي بالكاد تدلى تحت ركبتيه حالما وصل قمة السور الأول، وجعله حبلا لنصل إلى قمة السور كان مندفعا بجسده الأوبر، وشعره الأغبر متحمسا إلى حد أن قال لو اقتضى هذا الأمر أن أنزع لحيتي وأضفرها حبلا لفعلت، وذهلنا لحماسته.. قلت في نفسي وأنا أرى بريق التحدي في عينيه: "زهرة نيس تستحق أقصى التضحيات".

كان الكل جائعا لشيء ما. جوع فكرت أنه لم يكن ثمة من شيء ليبدده فيهم سوى هشيم الأسوار وهي تتداعى في صخب وغضب الجميع حتى سويت كلها مع الأرض، تسلقنا كلنا الجدران وفي تلك اللحظة ونحن وقوف فوق السور الأعلى غزت ريح باردة رؤوسنا. نظرنا كلنا قبل أن نقفز الى الداخل خلفنا، فأدركنا أن القلعة هي تاج الصحراء. لم أركض كما الجميع إلى الداخل، بل أبقيت على ناظري في الخلف فانقشع في عيني وميض قوي في الصحراء في عز النهار. المكان الذي اعتدت رسمه مذ عشرين سنة بقلم رصاص محته الحديقة تماما من ناظري. لم تتسع الصحراء في عيني إلا في تلك اللحظة. وقت في نفسي هذا ما نقُص الصحراء في تاريخها المديد. صدقت مدرستي، الزهور تضيؤنا من الداخل؛ لا لون لنور ضيائها.

=4=

خمد الوطيس وخفَت صوت الرصاص الذي اقترب منا بعدما كنا نسمعه في الأمكنة البعيدة. بيد أن غبارا كثيفا خلفته الأقدام المندفعة إلى الفيلا، غطى سماء المكان، ثم ما لبث أن حجب فجأة الأفق وحال دون اكتمال متعة العين، تلاشت من أمامي صورة زهرة نيس التي توسطت بستانا لورود المناطق الباردة البيضاء، وأنا جالس على ركام الأسوار السامقة، لا أحمل غنيمة ولا أصرخ في الخلاءات الجديدة التي عادت لتطوقني، فقط أسقطت بناظري إلى الأرض ثم عصبت رأسي بكفي يدي، ورحت أعترف في صمت الصدمة في محراب الذاكرة لوالدي عن طيش أسئلتي، فلتات لساني وخطورة أحلامي.

أراني من جديد ماكثا وراء جدران أعلى وأعتى من تلك التي هدمنا منذ لحظات وإذا بنسيم يقف قبالتي مزهوا بغنيمة الغبار، سألته:

"ما تلك التي بين أناملك؟"

"هذا كل ما استطعت اغتنامه من معركة قلعة الرمال. ولاعة السجائر للكاديلاك القديمة هل تذكرها؟"

"وماذا عن زهرة نيس؟"

"أية زهرة؟ عذرا، أنيس، فأنا لم أر زهورا قط".

D 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013     A بشير عمري     C 1 تعليقات