راضية عشي - الجزائر
عبور على حافة الذاكرة
وحين دق جرس البيت، ذهبت على غير العادة مسرعة، أسابق نفسي لأصل إليكما، وشيء ما بداخلي يخبرني أنكما على الباب: بتول وإسراء، صديقتا الطور الثانوي.
لا أعلم لماذا تخيلت أنكما قد تعقدان صفقة مع المستحيل لمفاجئتي مع أن آخر شمعة في علاقتنا كانت قد أطفِئت قبل قليل بآخر رسالة منكما وصلت لهاتفي.
لم تكونا على الباب. كان عابر سبيل، يشحذ صدقة، وأنا أشحذ صداقة.
كان ثمة شعلة تجمعنا، أمسكناها ثلاثتنا لثلاث سنوات، وكان علينا عهدا ألا نفلتها، لكن شاء القدر غير ذلك، وكانت الشعلة من أطفأت نورها وتركتنا. تركتنا هكذاَ دونما دليل.
أذكر أنني حاولت أن أعيد أواصر الصداقة وحاولتما ذلك كثيراً، لكن لا أحد منا قد نجح. كان آخر خريف قضيناه معاً.
ما آلمني جداً أنكما اجتمعتما مجدداً، ولم أنقصكما، لم تنتبها أنني قد رحلت من الولاية وغيرت تفاصيل أحلامي لتناسب وضعي الجديد، لم تحاولا الاتصال إلا نادراً وأنا أيضاً، لم تسألاني كيف فقدت حبي الأول في مدينتنا وكيف قررت أن أتخذ مساراً جديداً لأمنياتي –بمفردي.
كان لزاما علي أن أحاول النسيان أيضاً، نسيانكما، رغم أنني على علم أن صداقتكما قد توطدت أكثر من قبل.
أخذت أذكّر نفسي كيف كانت كل واحدة منكما على حدة تخبرني أنني المفضلة لديها، وأن ثقتها بي أكثر من ثقتها بالأخرى. بل وأذكر أيضا كيف كنتما تغتابان بعضكما كلما غابت إحداكما قليلا، وكيف كنت أحاول توطيد العلاقة وأخذها بالجدية والحب الكافيين.
لم أنتبه أنه من المعقول جداً أن تفعلا بغيابي نفس الشيء. أقسم أنني لا أتهكما ولا ألومكما بل وأسامحكما إن فعلتما، لكن يحق لي الآن أن أكشف أوراقي لأتمكن من تصفية كل الحسابات العالقة بجيب ذاكرتي.
كنت أقرأ في رسالتك التي أعطيتني إياها في آخر يوم من امتحان البكالوريا: "أريد أن نلتقي في الجامعة. وإن لم نفعل فلا أريد لهذه المرحلة أن تذهب ضحية مرحلة أخرى (بتول)".
قلت أيضاً إنك لا تحبين لعب دور الفتاة المكسورة القلب. هل كان هذا السبب كافيا ليكون قلبي في النهاية هو المكسور؟
أخذت كراس مذكراتنا الثلاثي، حاولت استرجاع تلك المشاغبات، ونجحت كثيراً في البكاء، رغم أننا تعاهدنا ألا نبكي إلا سوياً، ألا نتخذ أي قرار إلا وثلاثتنا متواجدات، ألا نندم إن يوماً هزتنا الظروف وغصبا ابتعدنا، ألا نندم أبداً على ما عشناه معاً.
جنوناً وعبثا حاولت تجديد الذاكرة فأرسلت لكما حروفي عبر هاتف يشح في نقل المشاعر:
"أجمل اللحظات. هل تتذكران أجمل اللحظات؟ أنا لم أنس، لم أنساكما ولم أسامح نفسي أبدا على إهمالكما، كم أنا نادمة. توحشتكم. اشتقتُ لتلك الأيام، وتلك الأغنية لا تزال تجعلني أبكي كثيراً. أخبِراني إن كنت لا أزال جزءا من ذاكرتكما، وهل من الممكن أن تسامحاني؟"
كنت أستمع لأغنيتنا وأكتب لكما وأتذكر أننا اخترناها لأنها حزينة جداً، وكنا نضعها حين نحس باختناق لنبكي كثيـــراً. نبكي سوياً كأن وجعنا واحد وإن اختلف.
جاءني الرد وكان مطولاً، قاسيا جدا. واختصاره: "اذهبي نحو النسيان بخطى ثابتة. لأنه المسار الوحيد الذي نتمناه لكِ، ولنجعل الذكريات الجميلة الشيء الوحيد الذي يجمعنا. لا نريدك معنا وهذا قرارنا". كحد السكين كانت كلماتكما جارحة.
دفعت ثمن هذا وحدتي، وكنتما معا، تعزيان بعضكما على فقداني (الذي لا أعتقد أنه كان بدرجة كبيرة من الألم). ما عاد هناك إناء فارغ يحتوي ما تبقى من صداقتنا. سأنطلق نحو النسيان كما شئتما ولن يبقى غير الذكريات الجميلة وشيء من هذا الفراق الباهت.
فقط يجب أن أقول إنه لا يحق لكما أن تحاكماني غيابيا وتصدرا الحكم علي هكذا دون أن أحضر أي جلسة. لا يحق لكما أن تلوماني على أشياء أنا لم أدافع فيها عن نفسي، لم تعرفا شيئا عن ظروفي لتفعلا بي هذا الآن.
لا يليق بكما أو بنا أن أقول إنني لا أزال أحبكما وأشتاق إليكما فلا تردان على هذا الجزء من الرسالة ولو بكلمة عزاء واحدة تنتشلني. لا يشرف علاقتنا أن أطلب المغفرة منكما رغم علمي أنني لم أكن المخطئة الوحيدة في حكايتنا، ولا أسمع منكما رداً ولو كاذبا.
سأعتبر رسالتنا سوء تفاهم أو سوء تكاتف، وأجرب المضي دون أي التفاتة شوقٍ واحدة.
عزائي الذي وجدته، إن كنت قد ظلمتكما، أنني أدفع الثمن حيرتي وعجزي في اختيار صديقات جدد.
وحدتي قاسية جداً ولا أتمنى لإحداكما أن تجرب ما أمر به، فالفشل في بدء علاقة جديدة أشد ألما من أي علاقة فاشلة.
من قلبي أسامحكما رغم أنكما لم تطلبا. أتمنى أن تستمرا معا إلى الأبد فكل ما يتوقف قبل الأبد سيء جدا.
◄ راضية عشي
▼ موضوعاتي
4 مشاركة منتدى
رائع
الوفاء
أجمل ما في النص أنه يحاكي الواقع و فيه من أصابع الإتهام للجميع. تذكرة لصداقة و معناها
بوركت
راااااااااائعة أثرت فيي جداااا واااقع معاش
الغالية راضية
ربما أفضل ما يقال"لا تبن بيتاً جديداً من خشب قديم"
وهو متضمن في نص للأستاذة هدى الدهان بعنوان (خشب قديم)
من الجيد أن تقرئيه.
موفقه غاليتي
تحيتي
لا تقلقي يا صديقتي! هي هكذا الصداقات، يأتي عليها حين من الدهر تفتر فيه لكنها إن كانت صادقة لا تموت. ستزهر من جديد مع أول لقاء ولو بعد سنين. المهم قبل الأبد..
نص واقعي قريب إلى القلب.