أمين صادقي - المغرب
استراتيجيات التواصل في الخطاب التربوي التعليمي
ملخص البحث
يعد الخطاب التربوي التعليمي خطابا إنسانيا، له دواله ومدلولاته، ومرجعياته وبؤره وحدوده. إنه نص مرتبط بسياق، يجري على سنن اللغة الطبيعية. إنه خطاب ينطوي على قيم أخلاقية توجيهية، يقوم على الأنساق التالية: المرسل والمتلقي والسياق التربوي التعليمي. وينبغي أن يكون فهمه نسقيا وثقافيا، تتكامل في تكوينه مختلف العلامات السميائية واللسانية، إذ يعمد المرسل إلى استعمال علامات لغوية وأخرى غير لغوية من أجل تبليغ قصده، وتشكيل خطابه. فالأصل أن لا وجود لتواصل لغوي خالص، فاللغوي يأتي دائما مدعوما بأنساق بصرية. كما تجسد كل من العلامات اللغوية وغير اللغوية استراتيجية الخطاب التربوي التعليمي، وهذه الأخيرة تتبوأ مكانة هامة، بوصفها الطريقة التي توصل مقاصد المرسل. وتتعدد استراتيجيات التواصل بتعدد السياقات، ويعد توظيفها ضروريا للحجاج والإقناع وتبادل الأفكار. وتصنف هذه الاستراتيجيات حسب المعايير التالية: معيار نسقي، يهم شكل لغة الخطاب، ومعيار سياقي، يتمثل في العلاقات التواصلية، ومعيار ثالث مرتبط بهدف الخطاب. ولا يجب أن يقتصر المرسل على استراتيجية واحدة في كل سياقات خطابه، فهذا مؤشر على الجمود في التفكير.
الكلمات المفاتيح: استراتيجية؛ خطاب؛ مرسل؛ قصد؛ حِجاج.
إشكالية البحث
إلى أي حد تستطيع استراتيجيات الخطاب التربوي التعليمي التأثير في المتلقي وإقناعه؟ وتنبثق عن هذه الإشكالية مجموعة من الأسئلة من قبيل: (1) ما الخطاب التربوي التعليمي؟ وما أنساقه؟ (2) ما مفهوم الاستراتيجية في الخطاب؟ (3) كيف يُكوّن الخطاب التربوي التعليمي استراتيجياته التواصلية؟
منهج البحث
استندنا إلى المنهج الاستنباطي في بحثنا، حيث انتقلنا من العام إلى الخاص، كما اعتمدنا على المنهج الوصفي التحليلي لجمع المعلومات والمعطيات وكذا الشرح والتحليل لاستخلاص النتائج.
هدف البحث
يكمن هدف الدراسة في محاولة الربط بين النظريات اللسانية وتكسير الحواجز بينها في إطار ما يعرف بتكامل المعارف مع الانفتاح على علوم التربية وخاصة ما يرتبط بالتعليم والتعلم.
مقدمة
توزعت الدراسات اللسانية، في القرن العشرين، إلى تركيبية ودلالية وتداولية، فاهتمت التركيبيات بدراسة العلاقات بين العلامات (كلمات، جمل، متتاليات جملية) بغية تحديد القواعد التي تحكم نظام هذه العلاقات. أما الدلاليات فدرست المعنى ودلالات العلامات في علاقتها بالمرجع والماصدق. أما التداوليات فقد ظهرت لتمثل الضرورة التي تسمح بتوجيه وضبط استعمال هذه العلامات في السياق بشكل عام. لذلك سنقوم في هذا البحث بتحديد استراتيجيات الخطاب التربوي التعليمي التي تساهم في تحقيق تفاعل بين المرسل والمتلقي في سياق تربوي معين.
وتلتقي الدراسات اللسانية في نقطة البحث عن المعنى، كل نموذج بحسب منهجه في التحليل وطبيعة المدروس. وقد أصبح تحليل الخطاب يتجاوز الخطابات اللغوية إلى كل الأنساق التواصلية التي نعيش بها، إذ عُدّ الخطاب ظاهرة ثقافية هي حاصل فعل التخاطب "يندرج في حيز الإنجاز أكثر من اندراجه في حيز القدرة اللغوية"[1]، حيث يضم هذا الإنجاز السياق والذوات الخطابية/التخاطبية وتدافع القصد.
ومنه، سننظر للخطاب التربوي التعليمي بعين تداولية تفتح آفاق معانقته للسلوك الثقافي (التواصلي).
وقد أدى القصور المعاين في النموذج البنيوي ولسانيات القدرة في مقاربة الظاهرة اللغوية باعتبارها ظاهرة إنسانية، وتوقفُ التحليل عند المستوى الدلالي، إلى قيام نماذج جاوزت القدرة إلى الإنجاز، واللسان إلى التلفظ، فكانت تأشيرة للعبور إلى التداوليات بوصفها دراسة للغة في الاستعمال، فنظرت هذه الأخيرة للخطاب بوصفه ظاهرة تواصلية:
= قصدية: حيث تم الانتقال من قصد الخطاب العام (إقامة التواصل)، إلى القصد الخاص (وهو القصد من الخطاب).
= سياقية: يعني أن معنى الخطاب آني لحظي مرهون بسياقه، يختلف ويتنوع بتعدد سياقاته.
= استعمالية: مرتبطة بالزمان والمكان والذوات الفاعلة.
تجدر الإشارة إلى أن التداوليات أسهمت بكل نظرياتها المعروفة في إثراء مفاهيم تحليل الخطاب، من ذلك الدراسات التي قدمها اللسانيون في أبحاث التلفظ، ثم نظرية الأفعال اللغوية ثم أبحاث الحِجاج مع بيرلمان وديكرو.
كما أن هناك تداخلا مفهوميا كبيرا بين التداوليات وتحليل الخطاب نلمسه في نقطتين:
كلاهما يهتم بدراسة السياق بشكله العام، أي المقام التواصلي والمعارف المشتركة بين المتخاطبين.
وينظران إلى الخطاب باعتباره تواصلا إنسانيا، أثرى هذا التداخل تحليل الخطاب بمفاهيم وصفية وإجرائية"[2].
1. مفهوم الخطاب التربوي التعليمي
إن الخطاب التربوي التعليمي خطاب إنساني، له دواله ومدلولاته، ومرجعياته وبؤره وحدوده. إنه نص مرتبط بسياق، يجري على سنن اللغة الطبيعية. إنه خطاب ينطوي على قيم أخلاقية توجيهية. يعرف طه عبد الرحمان الخطاب بأنه: "كل منطوق به موجه إلى الغير بغرض إفهامه مقصودا مخصوصا"[3].
من صفات الخطاب حسب تعريف طه عبد الرحمان خاصية النطق، أي أن الأصل فيه ما هو منطوق، وليس ما هو مكتوب، وأنه موجه لمتلق محدد، وأن الغرض منه إفهام مقصود محدد؛ فالنص بعد استعماله يصير خطابا؛ أي ينتقل من حيز الكتابة إلى حيز الاستعمال، أومن حيز الكمون إلى حيز التجلي.
يقتضي الخطاب ميزة التواصل والتفاعل، سواء تعلق الأمر باللغة المنطوقة في عملية الحوار، أو باللغة المكتوبة. ويتميز بقصد تحقيق الإفهام لدى المخاطبين، الشيء الذي ينطبق على الخطاب التربوي التعليمي الذي يهدف من خلاله المرسل إلى تحقيق الإفهام لدى المتعلمين مع ترسيخ قيم إيجابية لديهم.
ويعد الخطاب التربوي التعليمي ظاهرة ثقافية، لأنه يتجاوز اللغوي إلى كل الأنساق، فنحن في الخطاب نتجاوز فعل الكلام إلى كل فعل اجتماعي، وهذا الفعل ليس حرا، وإنما خاضع لمؤسسة، ومادام كذلك فالخطاب التربوي نسقي سياقي ومؤسساتي.
إن الخطاب التربوي التعليمي حاصل فعل التخاطب بين المرسل والمتعلم في سياق تربوي، وبالتالي فهو حاصل سيرورة الإنتاج والتلقي، أي ناتج عن تفاعل التدليل والاستدلال عامة. ويصدر عن إدراك، فحيثما هنالك سلوك ثقافي واع يكون الخطاب. وهذا الأخير يرتبط بمختلف العلامات اللغوية وغير اللغوية. فحينما نتحدث عن السلوك الثقافي، فإننا نتحدث بالضرورة عن السلوك المنتِج للخطاب.
من هذا المنطلق، نستطيع صياغة تعريف للخطاب التربوي التعليمي كما يلي:
الخطاب التربوي التعليمي كل تعبير موجه من متكلم (مرسِل) إلى مخاطَب (متعلم) بقصد لقصد في سياق مؤسساتي يكون فيه هذا المخاطَب معهودا أو مفترضا.
أما حد التعبير فوسع من مفهوم الخطاب التربوي التعليمي الذي يشمل كل العلامات السميائية المنتجة للمعنى، والقول الموجه إلى الآخر يجعل من الخطاب حاصل تدليل وتأويل، باعتباره ظاهرة حِجاجية تعتمد استراتيجيات تخاطبية قوامها الإقناع والإمتاع، حيث ينتج عنه "تكوثر الخطاب بناء على أنه لا خطاب بدون حجاج"[4].
وسننطلق من المقاربة السميولسانية التي نتبناها لنؤكد أن الحجاج حاضر في كل الخطابات والأنساق الثقافية بما في ذلك أنساق الخطاب التربوي التعليمي. أما القصد فهو أمر ضروري لقيام التخاطب والتواصل بشكل عام. وليس تحقق الذوات الفاعلة في الخطاب كذوات حقيقية أمرا لازما، بل يمكن أن تكون "ذواتا اعتبارية، لذلك فلا عجب أن تتعدد مع توحد الذات الحقيقية، فالمتكلم واحد بشخصه، كثير بأدواره، والمستمع نظيره في ذلك"[5]. فقد يكون المخاطِب أو المرسل مفترضا واعتباريا مثلا في حالة الحلم، وحين تتلبد السماء، فحينها تخاطبنا الطبيعة بأن المطر سيهطل، وكذلك في حالات الكتابة التي نفترض فيها مخاطَبا يتفاعل مع الخطاب بما تخبرنا بذلك نظرية التلقي، مثلا حينما يؤلف المفتشون والمسؤولون كتابا مدرسيا، يفترضون مخاطبا اعتباريا هو المتعلم. وبالتالي، يحاولون إنتاج مادة تربوية تعليمية تناسب المتعلمين ذهنيا ومعرفيا ونفسيا واجتماعيا.
وإذا كان الخطاب هو كل مدرك ثقافي، فإن التخاطب هو كل إدراك ثقافي. والمدرك الثقافي هو كل ما تدركه الحواس بخلفيات معرفية في سياق تفاعلي.
من هنا يمكن أن نستشف شروط الخطاب التربوي التعليمي وهي: الإدراك الواعي، والخلفية المعرفية، والسياق التفاعلي.
يقتضي الخطاب التربوي التعليمي وجود غرض لعملية التخاطب كالتربية على القيم الإسلامية أو الوطنية أو الإنسانية أو الاجتماعية، إلى آخره، ومخاطَب له من المؤهلات والكفايات لتحقيق وظيفة الفهم هو المتعلم، ومتكلم يقوم بمهمة الإفهام هو المدرس والمربي. وخطاب تتوفر فيه مقومات الإفهام والفهم مثلا نصوص قرائية أو سماعية مرفوقة بصور ومؤشرات خارجية، أو شريط تربوي وغيرها.
يصدر الخطاب التربوي التعليمي من مرسِل محاولا تبسيطه وجعله في متناول المتعلم (المتلقي) من خلال عملية النقل الديداكتيكي. فالخطاب التربوي التعليمي هو المادة الخطابية التي تشكلها الملفوظات التي تم إنتاجها من قبل المرسل في نشاط تعليمي-تعلمي، وفي إطار مؤسسة معطاة تتمثل هنا في سياق بحثنا في الإعدادية. كما يمتاز هذا الخطاب بوجود علاقة تفاعلية: مدرس-مادة-متعلم، وكذا علاقة حوارية بين الطرفين. فالتربية تضع في الوضعية الخطابية فاعلين، يحاول أحدهما التأثير على الآخر.
يقوم الخطاب التربوي التعليمي على جملة من الأنساق الأساسية هي:
1. المرسِل (المخاطِب): فبدونه لا يكون هناك خطاب، لأنه طرف الخطاب الأول الذي يتجه به إلى الطرف الثاني ليكمل دائرة العملية التخاطبية، بقصد إفهامه مقاصده، أو التأثير فيه، لذلك يختار ما يتناسب مع منزلته ومنزلة المخاطَب الذي هو المتعلم، بما يراعيه عند إعداد خطابه، وفق ما يقتضيه موقعه الوظيفي والاجتماعي. كما يتوخى اختيار ما يتناسب مع السياق التعليمي التعلمي، فخطابه مع متعلمين في مستوى الأولى إعدادي يختلف حتما عن خطابه مع متعلمي الثالثة إعدادي مثلا، كما يختلف خطابه مع التلميذ النجيب عن خطابه مع التلميذ المشاغب. كما أن مقاصده وأهدافه تتنوع بتنوع بعض العناصر السياقية، مما يفرض عليه أطرا معينة لا بد أن يستجيب لها، فإن كان هدفه الإقناع فإنه يختار من العلامات اللغوية وغير اللغوية والآليات الخطابية ما يبلغه مراده.
2. المتعلّم (المخاطَب): هو طرف الخطاب الثاني، وإليه تتجه لغة الخطاب التي تعبر عن مقاصد المتكلم المرسل، وعليه فإنه يمارس، بشكل غير مباشر، دورا في توجيه المتكلم عند اختيار علاماته وصياغة خطابه، وذلك بحضوره العيني والذهني، انطلاقا من علاقاته السابقة به وموقفه منه ومن الموضوعات التي يتناولها الخطاب، خصوصا أن المتعلم أصبح محور العملية التعليمية التعلمية وقطب الرحى فيها. يترك هذا أثره، بوصفه هو الذي يمارس تفكيك الخطاب، ويؤوله لمعرفة مقاصد المتكلم وأهداف الخطاب التي يرى أنه يريد تحقيقها.
3. السياق التربوي: هو الإطار العام الذي يسهم في ترجيح علامات بعينها واختيار آليات مناسبة لعملية الإفهام والفهم بين طرفي الخطاب، وذلك من خلال مجموعة من العناصر منها: العلاقة بين المتخاطبين (مدرس-متعلم) والزمان (وقت التمدرس) والمكان (الفصل الدراسي). فمعرفة عناصر السياق تسهم في عملية التعبير عن المقاصد والاستدلال لإدراكها. وعليه، فإن اختيار العلامات اللسانية والسميائية يعد انعكاسا للعناصر التي تشكل في مجموعها سياقا معينا يبرز من خلال الخطاب. وبمعرفته يمكن تفكيك هذا الخطاب للوصول إلى المعنى المقصود، أو الغرض المراد.
4. الخطاب التربوي التعليمي: هو ثمرة اجتماع العناصر الثلاثة السابقة، ففيه تبرز العلامات اللسانية والسميائية المنتقاة، ومن خلال تتبع خصائصه التعبيرية يمكن معرفة الكيفية التي تعامل بها المتكلم مع ذاته، ومع المخاطَب، هل حاول إقناعه أم فرض سلطته عليه مباشرة؟
من جهة أخرى، يسعى الخطاب التربوي التعليمي إلى التعبير عن مقاصد معينة وتحقيق أهداف محددة منها ما يتعلق "بالمستوى المجتمعي العام، وما يرتبط بالمستوى الشخصي للمتعلم"[6].
من خلال ما سبق، نخلص إلى أن الخطاب التربوي التعليمي خطاب سميولساني يتضافر فيه النسقي والقصدي والسياقي من أجل إنتاج المعنى. لكن كيف يكوّن استراتيجياته التواصلية؟
2. استراتيجيات التواصل في الخطاب التربوي التعليمي
لا ينتج المرسل خطابه إلا باعتبار السياق، فلا خطاب دون انخراطه في سياق معين، كما لا يتجلى الخطاب دون استعمال العلامات المناسبة، فقد يستعمل المدرس العلامات اللغوية وغير اللغوية ليمارس بها خطابا يوصف بأنه نوع من السلوك التواصلي. وهذا الخطاب يستعمل بكيفيات منظمة ومتناسقة، تتناسب مع مقتضيات السياق، ويتجلى هذا التنظيم عند التلفظ بالخطاب، فيما يسمى باستراتيجيات الخطاب.
ويعد موضوع استراتيجيات الخطاب من الموضوعات اللغوية الهامة، وتكمن أهميته في كل مجالات الحياة، ومنها المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وكذا التربوي الذي يهمنا في هذا البحث، لذلك فالحاجة قائمة لاكتشاف هذه الاستراتيجيات، ومعرفة كيفية تطويعها واستعمالها، وتطوير الذوات التخاطبية بما يواكب متطلبات السياق وما يكفل التكيف مع تقلباته، كما أن توظيف الاستراتيجيات ضروري للحجاج والإقناع وتبادل الأفكار. فالمدرس يحتاج إلى استعمال أكثر من استراتيجية في خطابه مع متعلميه، لاختلافهم في التعلم ولتعدد ميولهم، ودرجة استيعاب كل منهم في الفهم.
وعليه، فتعدد السياقات مدعاة لتعدد الخطابات السميولسانية، وهذا مؤشر إلى ضرورة تعدد الاستراتيجيات، لما لكل منها من مزايا وآثار تختلف باختلافها النابع من اختلاف السياق، وندرك أن المدرس لا يقتصر على استعمال استراتيجية واحدة في كل سياقات خطابه، فهذا مؤشر على الجمود في التفكير، بالإضافة إلى أن هذه الاستراتيجيات تتفاضل فيما بينها، وذلك راجع إلى الأنساق السميولسانية التي تتجسد من خلالها.
1.2. مفهوم الاستراتيجية في الخطاب
" يرجع مصطلح "استراتيجية strategie" إلى المجال العسكري، وهو يشير هناك إلى طرق الوصول إلى أهداف عسكرية بعيدة المدى"[7]. أما في لسانيات الخطاب فيعني مجموع عمليات المعالجة الموجهة إلى هدف والجارية عن وعي عند إنتاج الخطاب.
وكل محاولة للوصول إلى أهداف من خلال الخطاب تعتمد استراتيجية تخاطبية، "ولذلك نُعرّف الاستراتيجية بأنها نتيجة سلسلة من عمليات -اختيار- واتخاذ القرار تجري بوعي في العادة، تُعَلَّم من خلالها خطوات الحل ووسائله لتنفيذ أهداف تواصلية"[8].
وبذلك يصير واضحا أن الاستراتيجيات تتوسط بين المهام التواصلية المستنبطة من التفاعل والقيود الاجتماعية، وكذلك أهداف المشاركين في التواصل، هذا من جهة، وبين الوسائل اللغوية وغير اللغوية الموضوعة لتحقيقها وتأليف بنيتها من جهة أخرى. ويسعى الخطاب التربوي التعليمي من خلال وظيفتيه التواصلية والتفاعلية إلى التعبير عن مقاصد معينة وتحقيق أهداف محددة، إذ تبرز فيه مقاصد كثيرة، قد تظهر مباشرة من شكل الخطاب، أو تكون ضمنية. ويبني المرسل لغة خطابه من خلال المعطيات السياقية والعلاقات التخاطبية، والخلفيات المعرفية، كما يدركها المتعلم ليستدل على المقاصد من خلالها. ويتوخى المرسل لتحقيق ذلك خططا معينة هي التي يمكن أن نسميها استراتيجيات.
فما الاستراتيجيات التواصلية التي يتوخاها المرسل؟
يمكن تصنيفها حسب المعايير التالية: معيار نسقي يهم شكل لغة الخطاب، ومعيار سياقي، وهو معيار العلاقات التخاطبية، ومعيار ثالث مرتبط بهدف الخطاب.
يمكن تعيين الاستراتيجية التضامنية، مثلا، في معيار العلاقة التخاطبية (السياقي) بين أطراف الخطاب التربوي التعليمي (مدرّس–متعلم)، فيعبر المرسل عن هذه العلاقة بأدوات لغوية كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر، الأدوات الإشارية اللغوية التي تقرب البعيد أو تقترب منه، وتجمع الأطراف المتخاطبة، مثل الضمير (نحن) الذي يدل على الجمع بين طرفي الخطاب، واستعمال الاسم الأول للمتعلم والألقاب والكنى.
وتحت هذا المعيار أيضا، يندرج صنف آخر من الاستراتيجيات هو الاستراتيجية التوجيهية التي تتجسد من خلال آليات صريحة تسهم في توجيه المرسل للمتعلم، مثل أساليب النهي والأمر الصريحين والتحذير والإغراء. ومن خلالها يبرز دور السلطة التربوية والاجتماعية في إعطائها المرسل نفوذا يمارسه من خلال العلامات اللغوية وغير اللغوية.
أما المعيار الثاني لتصنيف استراتيجيات الخطاب فهو معيار دلالة الشكل اللغوي، إذ يكون واحدا من صنفين، إما قصدا مباشرا، أي أن القصد يتضح في الخطاب مباشرة، وإما قصدا غير مباشر، بأن يكون المعنى مستلزما من شكل الخطاب. وبالتالي يصبح شكلا يستلزم قصدا غير المعنى الذي يدل عليه ظاهر القول أو الكلام. "فقد يستخدم المرسل شكلا ما بقصد تبطين مقاصده ومعانيه، ويرمي من خلاله إلى أمور يتدخل سياق الخطاب في كشفها وتحديدها"[9]. ويمكن أن نصطلح على هذا الضرب من الاستراتيجيات بالاستراتيجية التلميحية. ومن أبرز الأدوات اللغوية المستخدمة في ذلك أسلوب الاستفهام الذي لا يقصد السائل منه أن يسأل عن مجهول، وإنما الخروج عن ذلك إلى قصد آخر. ومن آلياتها اللغوية ما يسمى عند الأصوليين بالمفهوم، وما يسمى حديثا بالاستلزام الحواري، وكذلك كافة أنواع المجاز من استعارة وكناية وتعريض.
والمعيار الثالث لتصنيف الاستراتيجيات هو معيار الهدف من الخطاب، "ويعد الهدف الإقناعي من أهم الأهداف التي يسعى الإنسان إلى تحقيقها"[10]. وبذلك يمكن تصنيف استراتيجية نسميها استراتيجية الإقناع، انطلاقا من أن المدرس يتوخاها لتحقيق مآرب كثيرة. ويستخدم بذلك أنساقا سميولسانية متعددة، منها ما يخاطب العواطف، ومنها ما يتعامل مع عقل المتعلم كالأنساق الحجاجية مثلا.
ويمكن أن يتوخى المدرس في خطاب واحد استراتيجيات مختلفة، أو يتوخى استراتيجية واحدة في خطابات متعددة. ولا يمكن إغفال دور المتعلم الذي يمارس معه المدرس فعله التخاطبي، فبالنظر إلى هذا النسق السياقي نستطيع أن نميز الخطاب ذا الاستراتيجية التضامنية عن الخطاب ذي الاستراتيجية التوجيهية أو التلميحية.
من هنا، تتبوأ الاستراتيجيات في الخطاب التربوي مكانة هامة، بوصفها الطرائق التي توصل مقاصد المرسل. ورغم اختلافها من مرسل إلى آخر، إلا أن إنتاج الخطاب وفقا لها يظل أمرا ضروريا. وعليه، فإن من المهم الكشف عنها ولفت الانتباه إلى قدراتها التي تتجلى من خلال كفاءات المرسل السميولسانية.
2.2. استراتيجية الخطاب التربوي التعليمي في المستويات اللسانية
يغدو الخطاب مركبا لغويا، وبالتالي، فهو مكون من معنى ومبنى، وهذا معيار "يدخل في إطار التواصل اللغوي وماله من قرابة بوحدات النحو والصرف والبلاغة، أو أوجه الانتقال من الدال إلى المدلول إلى العلامة"[11]، وتتجلى استراتيجيته فيما يسمى بالأنساق اللسانية، وتتضمنها كفاءة كل من طرفي الخطاب. وتنتمي هذه الأنساق إلى مستويات اللغة كالتركيب (نسق الجملة، البناء للمجهول مقابل البناء للمعلوم)، الصوت (نغمة التلفظ)، المعجم، الصرف، الأساليب (الأمر والنهي...)، فقد ينتج المرسل خطابه بتوظيفه لإحدى هذه الأنساق، وقد يخرج عن مقتضاها، وذلك حسب مقتضى السياق، مثل الخروج بمعنى الخطاب عن المعنى الحرفي للملفوظ لتجسيد نوع من العلاقة بينه وبين المرسل إليه. ولا تستعمل هذه الأنساق بمعزل عن السياق، فاستعمال نسق أو العدول عنه يعبر عن قصد سميولساني، ولذلك فإن الاستعمال "له مرتكزات لا تتفق دائما مع المعايير الافتراضية، فللمتكلم من الأغراض ما لا يتفق مع المحافظة على القواعد. تلك هي الأغراض التي تدعو إلى الخروج من الحقيقة إلى المجاز، ومن المطابقة إلى الترخص في معايير الإجراء بوسائل كالنقل والحذف والزيادة ومخالفة القاعدة والتعويل على الدلالات الصوتية والعقلية والتقديم والتأخير والإيماءات الجسمية والتعويل على دلالة الموقف أثناء الاتصال وعلى القرائن التاريخية والجغرافية وغيرها مما يخرج عن مجال دراسة القواعد النحوية"[12].
نستنتج من هذا الكلام أنه لا يجب الاكتفاء بالمستويات اللسانية في نسقها مستقلة عن الاستعمال والإجراء في تحليل الخطاب واستنباط معانيه، فللخطاب استعمال يحدده السياق. هناك علامات أخرى غير لسانية تصاحب الخطاب اللساني يمكن تحديدها فيما يلي:
3.2. العلامات غير اللغوية المصاحبة للخطاب التربوي التعليمي
يعمد المرسل عند التلفظ بخطابه إلى استثمار أكثر من علامة من خلال المزج بينها في الخطاب، ويعتمد تحديد ذلك على السياق، مثل العلامات التي تصاحب اللغة الطبيعية وتتحقق في مستوى التشكيل الصوتي بالنبر والتنغيم. وهناك أصناف أخرى من العلامات المصاحبة مثل استعمال بعض الإشارات بالحركة الجسدية المتمثلة في تحديد المرجع الذي تشير إليه أداة اللغة.
كما يستعمل المرسل بعض العلامات السميائية المتنوعة بالاستقلال عن اللغة الطبيعية، ومنها تلك العلامات التي قد تكتفي بنظامها المستقل في التعبير عن قصد المرسل، وتبليغ دلالات الخطاب إلى المرسل إليه، أو التأثير فيه، مثل اللون والحركة والصورة والشريط إلخ.
وقد لا يكتفي المرسل في تشكيل خطابه التربوي باللغة الطبيعية لأسباب كثيرة منها:
= التركيز على المقاطع الهامة من الخطاب اللغوي بواسطة توظيف بعض الصفات الصوتية كالنبر والتنغيم.
= الاستجابة للدواعي السياقية، ولذلك يعمد المرسل إلى توظيف الصمت، أو الإيماءات بالرأس دليلا على الموافقة أو الرفض مثلا، وحركات الجسد واليدين.
= تعويض الكلام بترسيخ علامة معينة، ككتابة الملاحظات الإيجابية على الدفتر المنظم والملاحظات التحفيزية للمتعلم الذي يحس بنوع من التعثر والإحباط، وغيرها الكثير.
وتجسد كل من العلامات اللغوية وغير اللغوية استراتيجية الخطاب، لذلك فالمرسل ينتج خطابه عبر استراتيجية مختارة لينجز به فعلا، هذا الفعل ليس لغويا فقط حسب التداوليات بل يمكن اعتباره فعلا "سميولسانيا".
4.2. نظرية الأفعال في الخطاب التربوي التعليمي
اعتبرت النماذج اللسانية الأولى، منذ سوسير، أن وظيفة اللغة الأساسية هي الإخبار، فكان مفهوم التواصل يُفهم على أنه نقل للمعلومات إلى المتلقي، وبذلك مَثَّلَ فعلُ الإخبار الفعلَ اللغوي الرئيسي. لكن سرعان ما تعرضت وجهة النظر هذه لانتقادات كثيرة من قبل عدد كبير من اللغويين وفلاسفة اللغة أمثال ستراوسن وأوستين وسيرل وغيرهم. فقد لاحظوا أن مجموعة من الأقوال لا تتمثل وظيفتها في الإخبار، ولا تصف أي واقع، ولا تخضع لمعيار الصدق والكذب، نذكر منها الأقوال الإنجازية والأقوال الملتبسة والأقوال التقييمية.
إن التصور التداولي للغة الذي نجده عند فلاسفة اللغة العادية من أمثال أوستين وسيرل وغرايس، ونجده في نظرية الأفعال اللغوية بشكل خاص، يرفض أن تكون اللغة مجرد وسيلة لتمثيل الواقع أو الذهن، إنها جهاز يمكن من إنجاز أفعال من نمط معين: كالأمر والوعد والنهي والاستفهام والنصح والشكر والتهنئة والإنذار والتعجب والتهديد، وغيرها من الأفعال المتنوعة. إن الأقوال التي ننتجها في حياتنا اليومية لها، إذن، جانبان: جانب لغوي وجانب فعلي، إنها أقوال وأفعال، أو هي أقوال يمتزج فيها القول بالفعل، ومن هنا نفهم العنوان الدال والمعبر لكتاب أوستين:
"عندما نقول، فإننا نفعل"، «quand dire -c’est faire»
ويمكن التمثيل للأفعال اللغوية أو الأقوال الإنجازية في الخطاب التربوي التعليمي بالحوار التالي بين مدرس وتلميذه حول قيمة متضمنة في نص قرائي يتحدث عن التعايش في الإسلام:
المدرس: اقرأ النص وحدد القيمة المتضمنة في النص.
المتعلم: يقرأ النص ويجيب: يتضمن النص قيمة إسلامية.
المدرس: ما تجلياتها؟ أو فيم تتجلى هذه القيمة؟
المتعلم: تتجلى القيمة الإسلامية في ضرورة التعايش بيننا في سلام رغم اختلافاتنا.
يتضح لنا من خلال المثال أن المدرس أنجز فعل الأمر، ويظهر تأثير هذا الفعل على المتلقي الذي هو المتعلم بالقيام بفعلين أولهما فعل القراءة والثاني هو فعل الإجابة. لكن ما هو الفعل؟ "يذهب ديكرو Ducrot، إلى أن كل نشاط يقوم به شخص معين يمكن اعتباره فعلا أو عملا إذا كنا نحدده انطلاقا من التغييرات التي يحدثها أو يريد إحداثها في العالم"[13]. ومن هنا، يمكن تحديد خصائص الفعل على الشكل التالي:
أولا: إنه سلوك يهدف إلى تغيير الواقع.
ثانيا: فعل قانوني، لأنه يهدف إلى خلق مجموعة من الحقوق والواجبات المتعلقة بالمتحاورين.
ثالثا: فعل مؤسساتي، يرتبط إنجازه وتحقيقه بالعديد من المؤسسات الاجتماعية.
رابعا: فعل قصدي، فمن خلال التعرف على قصد المتكلم، نتعرف على الفعل المنجز.
خامسا: فعل سياقي، لا يمكن النظر إليه بمعزل عن السياق، لنأخذ المثال التالي: سأحضر غدا، يفيد هذا الفعل معنى الإخبار في سياق معين، والوعد في سياق ثان، وكذا التهديد في سياق ثالث.
سادسا: فعل عرفي، أي خاضع للتواضع والتعاقد الاجتماعي[14].
أهملت التداوليات كذلك في مقاربتها للظاهرة التواصلية جميع الأنساق الثقافية وركزت على اللغة، لكن ما نريد مناقشته هنا، أن تحقيق الإنجاز التواصلي والتأثير في المتلقي لا يتم فقط بالأفعال اللغوية، وإنما بتضافر أنساق متعددة، فكل فعل بما فيه الفعل اللغوي يعد وحدة مركزية للتواصل ولبنة أساسية يضعها المرسل والمتلقي لتحقيق الإنجاز التواصلي. فقد أثبت التجربة الإنسانية الفعلية عدم وجود تواصل لغوي خالص، فبالرغم من هيمنة اللغة على باقي الأنساق في أحداث تواصلية معينة، إلا أن هذا لا يجعلها تكتفي بذاتها ملغية الأنساق الأخرى. فحتى في اللحظة التي نعتقد فيها أننا نتواصل باللغة وحدها، مثلا مع شخص في الظلام، فإننا نستطيع تمييز الصمت عن الكلام، وصوت الرجل عن صوت المرأة أو عن صوت الطفل أيضا. وأكيد أن هذه العناصر ليست لغوية خالصة.
يتجلى هذا الأمر في الخطاب التربوي التعليمي عندما تحضر الذوات (المدرس والمتعلم) في السياق التربوي العيني، حيث يتضافر اللغوي والمسموع والمرئي، فمع حضور الذوات تتضافر مع الكلام الهيئات والحركات والهندام وغيرها حسب السياق وظروفه. فهناك دائما أنساق أخرى مواكبة للنسق اللغوي، فحتى النصوص المكتوبة لا تعد أنساقا لغوية خالصة، لأن الكتابة نسق مرئي تدركه العين، فيتعلق الأمر هنا بتسنين من الدرجة الثانية، حيث يُصرَّف النسق اللغوي المسموع في نسق بصري.
من هنا نتبين أن النسق اللغوي لا يمثل إلا نسقا فرعيا داخل النسق التواصلي العام.
فالفعل اللغوي يتضافر مع نسق آخر غير لغوي، وهو ما يسمى، عند إريك بويسنس، بالفعل السميائي، ويعرفه بأنه "ترابط فعل محسوس، يتيح لنا إقامة العلاقة الاجتماعية بحالة وعي نريد إظهارها"[15]. إن الحركات التي تصدر عنا تستدعي قول التعليق التالي: "بعض حركاتنا ترافق كلامنا، وفي حالات كثيرة يكون من المستحيل الاستغناء عنها، ونحن غير واعين بذلك دائما، تخبر هذه الحركات محاورنا بسلوكنا النفسي"[16]. فكل فعل تواصلي يشكل علاقة اجتماعية، فمثلا رنين جرس المدرسة فعل سميائي يعني دخول المتعلمين إلى الفصل أو خروجهم منه، وانتظام المتعلمين في الصف مثنى مثنى فعل سميائي يخبرنا بالتزام المتعلمين بالقواعد والنظام الداخلي للمؤسسة.
سنحاول من خلال ذلك، أن نبرز تجليات الأفعال اللغوية والأفعال السميائية في الخطاب التربوي التعليمي:
إن الخطاب التربوي التعليمي، بوجه عام، حمال لأفعال لغوية تتجلى في الصوت الملفوظ كالحوار بين المدرس والمتعلمين، وأفعال سميائية تتجلى في الأنساق المرئية والسلوكات، فالكلمة في الحصة الدراسية فعل لغوي، لأنها تفعل فعلها في المتعلمين الذين يقرؤونها أو يسمعونها، كما تعد الإيماءة والصورة والحركة فعلا سميائيا.
يمثل الفعل اللغوي، حسب ج. ل. أوستين، "مقولة كلية أو وحدة مركبة من ثلاثة عناصر فعلية، ترتبط فيما بينها ارتباطا تكامليا"[17]، ولا يمكن الفصل بينها إلا من حيث التنظير والدراسة. وهذه العناصر هي:
"الفعل التعبيري، والفعل الإنجازي، والفعل التأثيري"[18].
وسنحاول تبيان تجليات الأفعال الموجودة في الخطاب التربوي التعليمي على هذه العناصر.
= الفعل التعبيري: ويراد به إطلاق ألفاظ في جمل مفيدة ذات بناء نحوي سليم وذات دلالة.
فالحديث عن الفعل التعبيري من خلال الخطاب التربوي التعليمي هو حديث عن فعل غايته إيصال قيم أخلاقية أو إنسانية أو اجتماعية عن طريق التفاعل والحوار بين المرسل والمتعلم، فوظيفة الفعل التعبيري هنا مبنية على قول فكرة أو قضية ما، ولا شك أن الأمر هنا يتعلق بالنطق، أي بنوع من الفعل طبعا، "ويمكن توضيح ذلك في التفريق بين من تكلم ومن لم يتكلم: فمن تكلم هو من فعل، ومن لم يتكلم هو من لم يفعل. فقد تكتفي بالتفكير في شيء دون أن تعبر عما فكرت فيه، وهذا يعني أنك لم تحقق الفعل التعبيري"[19].
ويتحقق عندما نتجاوز التفكير إلى التعبير، ونتمثل هذا في الحوارات التي تدور بين المدرس والمتعلمين، حيث تشتمل بالضرورة على أفعال لغوية، وهي المستويات اللسانية المعهودة: المستوى الصوتي، والمستوى التركيبي، والمستوى الدلالي. ولكن أوستين يسميها أفعالا: الفعل الصوتي، وهو التلفظ بسلسلة من الأصوات المنتمية إلى لغة معينة، وأما الفعل التركيبي فيؤلف مفردات طبقا لقواعد لغة معينة، وأما الفعل الدلالي فهو توظيف هذه الأفعال حسب دلالات وإحالات محددة، فقولنا مثلا: إنها ستمطر. يمكن أن نفهم دلالة الجملة، ومع ذلك لا ندري أهي: إخبار بنزول المطر، أو تحذير من عواقب الخروج إلى التنزه أو إلى رحلة، أو أمر بحمل المظلة، أو غير ذلك، إلا بالرجوع إلى قرائن السياق لتحديد قصد المتكلم أو غرضه من الكلام.
= الفعل الإنجازي: يلعب السياق دورا مهما في تجلي الفعل الإنجازي باعتباره فعلا متضمنا في القول، أي أنه عمل يُنجز بقول ما. "ويتعلق الأمر هنا بالوظائف التي تؤديها التعابير اللغوية في سياقات استعمالها، كأن تكون للاستفهام أو الإخبار أو الوعد أو غيرها"[20]، هذا ما قد يحضر في الخطاب التربوي التعليمي بعبارات مصحوبة بصوت مرتفع للدلالة على إثارة الانتباه، أو عبارات أخرى مصحوبة بصوت هادئ للدلالة على تلطيف الجو وبعث الطمأنينة في نفوس المتعلمين، وكذلك طرح الأسئلة بخصوص موضوع الدرس، والإجابات عنها، وإصدار تأكيد على فكرة أو قضية أو تحذير من سلوك سيء، أو أمر بالكتابة أو الحفظ.
فالفرق بين الفعلين التعبيري والإنجازي هو أن الثاني قيام بفعل ضمن قول شيء، في مقابل الأول الذي هو مجرد قول شيء.
استنادا إلى ذلك، فالفعل الإنجازي دائما ما يراعي العلاقات بين السلوكات اللسانية والاجتماعية والخلفيات المعرفية للمتلقين أي ما يمثل الإنجاز والاستعمال. "وبهذا يكون الفعل الإنجازي هو الفعل الذي من خلاله تبرز معالم اعتبارات التخاطب أو الاستعمال اللغوي"[21]. يعني ذلك أنه لا يبقى في حدوده الدلالية ويدل من تلقاء ذاته، وإنما يعتمد على السياق باختلاف تجلياته اللسانية والخارج لسانية.
لكن هذا الفعل اللغوي يكون مصاحَبا بفعل آخر غير لغوي، وهذا ما يجعل الخطاب فعلا سميولسانيا، وذلك مثل الخطابات التالية:
1. أطلب منكم التزام الصمت/أطلب منكم الانتباه.
2. أحسنت/جيد.
3. انتهت الحصة.
4. لا تكتب عندما أشرح الدرس.
فالمدرس قد أنجز فعلا لغويا في الخطاب الأول، هو الطلب بما تضمنه خطابه من اختيار الفعل (أطلب) الدال على طلبه اتساقا مع بعض الاعتبارات السياقية التي تتمثل في الفضاء التربوي (القسم) والانتباه للمدرس وكذا الإصغاء للدرس لما له من فائدة على المتعلم. ويصاحب هذا الفعلَ اللغويَ فعلٌ آخر غير لغوي يتمثل في الحركات وإشارة اليدين وإيماءة الوجه وغيرها.
كما يُنجز المرسل في الخطاب الثاني فعل التعزيز والاعتراف بصحة إجابة المتعلم، وقد لا يروم التوقف، بفعله، عند هذا الحد، فقد يهدف إلى إحداث تأثير على المتعلم، مثل إدخال السرور عليه أو جعله يشعر بالفخر أو تحفيزه وتشجيعه على الإجابة والمشاركة في المرات المقبلة، وهذا يجعل المدرس ينجز فعلين في الآن ذاته، هما التعزيز والتأثير.
ويتم إنهاء الحصة في الخطاب الثالث، بإنجاز هذا الفعل بالتلفظ (انتهت الحصة) أو من خلال علامة سميائية هي رنين الجرس.
وينجز المدرس، من خلال الخطاب الرابع، فعلا هو النهي أو التحذير مصاحَبا بإيماءات جسدية وحركات ونبرة صوت تثبت ذلك.
= الفعل التأثيري: يسميه أوستين بالفعل الناتج عن القول، وهو الفعل الذي نحققه بواسطة قولنا لشيء ما، ويظهر في الآثار التي يحدثها في المخاطَب. ومن أمثلة ذلك: الإقناع، والتضليل، والإرشاد.
ويمكن إيجاز قاعدة هذه النظرية في سلسلة من الأفعال:
= الفعل التعبيري: يقدم المرسل تعبيرا لغويا مصاحبا لآخر غير لغوي موجه للمتعلم في سياق تربوي.
= الفعل الإنجازي: يفعل المرسل فعلا في سياق معين.
= الفعل التأثيري: يؤثر المرسل على المتعلم بطريقة ما.
وبين هذه الأفعال علاقة جوهرية، فبالتعبير عن الخطاب يتحقق ما يلي:
= يقول المرسل شيئا ما إلى المتعلم.
= يفعل المرسل فعلا ما، في ذلك القول الموجه إلى المتعلم.
= يؤثر المرسل على المتعلم بواسطة ذلك الفعل.
ويتعلق الفعل الإنجازي بالمرسل، أما الفعل التأثيري فيرتبط بالمتعلم، لأنه يتوجه إليه. وقد لا تكتمل دائرة التأثير فيه إلا عند حدوث ردة فعل منه، مثل الاستجابة للأمر. ويمكن أن يتحقق الإنجاز عبر أكثر من استراتيجية.
طوّر سيرل من نظرية الفعل وربط هذا الأخير بالعُرف اللغوي والاجتماعي، لأنه أوسع من أن يقتصر على مراد المتكلم. كما طور شروط الملاءمة وجعلها أربعة وهي: الشرط التمهيدي، وشرط المحتوى القضوي، وشرط الجدية، والشرط الأساسي. لنأخد مثالا لمساهمة استيفاء هذه الشروط في إنجاح فعل الوعد: "أعدك بأني سأنجح".
= الشرط التمهيدي: للمرسل إمكانية تحقيق الإنجاز: (الوعد) وللمرسل إليه استعداد ورغبة في ذلك.
= شرط المحتوى القضوي: يسند المرسل لنفسه مهمة الفعل.
= شرط الجدية أو الإخلاص: المرسل جاد ومخلص لوعده، إنه يقصد ما يقول.
الشرط الأساسي: المرسل ملتزم، وعازم على الوفاء بوعده"[22].
وقسّم سيرل الأفعال إلى مباشرة (صريحة) وغير مباشرة (مُضمرة). وصنفها حسب غاياتها إلى خمسة أصناف مثل أستاذه أوستين، وهي كالتالي:
أولا: الغاية التقريرية المتضمنة في القول: تختص بنقل المتكلم للأحوال والأخبار من خلال التركيز على قضية ما. وبذلك فهي "تقدم القضية أو الخبر بوصفه تمثيلا لحالة موجودة في العالم"[23]. ونلاحظ أنها ذات طابع صادق أو كاذب، ويكون اتجاه المطابقة فيها من الكلمات إلى العالم.
ثانيا: الغاية التوجيهية: هي محاولة المتكلم توجيه المخاطَب إلى سلوك معين. ومن أمثلته: النصح والأمر والاستعطاف، "ويكون اتجاه المطابقة من العالم إلى الكلمة، وشرط الإخلاص النفسي المعبر هو الرغبة، لأن كل توجيه هو تعبير عن رغبة، في أن يفعل المستمع الفعل الموجه. ولا يمكن أن تكون التوجيهات مثل الأوامر والالتماسات صادقة أو كاذبة"[24].
ثالثا: الغاية الإلزامية: أي التزام وتعهد المتكلم بإنجاز أو تحقيق فعل معين، يقع في المستقبل؛ كالوعود والتعهدات والتعاقدات والضمانات، "واتجاه المطابقة فيها من العالم إلى الكلمة، وشرط الإخلاص يكون دائما هو القصد. ولا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة"[25].
رابعا: الغاية التعبيرية: هي تفسير ما في نفسية المتكلم، أو هي التعبير عن شرط الإخلاص في الفعل الكلامي. وأمثلة الأفعال التعبيرية هي الاعتذارات، والشكر، والتهاني، والتحيات، والتعازي، وليس لهذا الصنف من الأفعال اتجاه مطابقة؛ لأن المتكلم لا يحاول أن يجعل الكلمات تطابق العالم الخارجي ولا العالم الخارجي يطابق الكلمات؛ ولأن صدق الجملة أو المحتوى القضوي يسلم به؛ فإذا قال المتكلم: "أعتذر على التأخر"، فإنه سلم تسليمًا بأنه تأخر.
خامسا: الغاية التصريحية: غرضها إحداث تغيير عن طريق الإعلان أو التصريح وكأنه قد تغير فعليا. ويكون اتجاه المطابقة فيها مزدوجا من الكلمات إلى العالم، ومن العالم إلى الكلمات، ولا تحتاج إلى شرط الإخلاص. وتشمل الإعلام والإخبار والإعلان؛ كقول المدرس مثلا: "سأشرح الدرس"، فهو يصرح عن غرضه وغايته.
5.2. استراتيجية القصد
تتنوع دلالة الأفعال، وتنوعها محكوم بقصد المرسل بالدرجة الأولى، من خلال الملاءمة بين العناصر النسقية والسياقية، ولا يمكن أن يكون المعنى الحرفي للغة هو معنى الخطاب الوحيد، بل هناك المعنى غير المباشر. وهذا ما يمثل إحدى استراتيجيات الخطاب لتعبير المرسل عن قصده. ويُعرَف القصد بأنه كل الأهداف التواصلية التي يوظف لأجلها الخطاب.
ويتحدد القصد من خلال السياق بعناصره الكثيرة، فهو ركيزة في الخطاب لتجسيد معنى المرسل، بدلا من التقيد بالمعنى المباشر، رغم أنه قد يتطابق معه في بعض السياقات.
وتتعدد دلالات الخطاب التربوي التعليمي، حسب تعدد سياقات التلفظ. ولننظر إلى الخطاب التالي الذي يتخذ شكل سؤال يطرحه مدرس على متعلمه: "أتود أن تكتب الدرس؟"
إذ يبدو لأول وهلة أن هذا السؤال مطروح لمعرفة رغبة المتعلم في كتابة الدرس، أو استشارته، وذلك حسب ما يقتضيه المعنى المعجمي للمحمول (تودّ)، وبالرغم من بداهة ذلك، إلا أنه قد يستعمل هذا السؤال للدلالة على مقاصد كثيرة منها دعوة المتعلم إلى كتابة الدرس، أو أمره بطريقة مؤدبة، كما قد يخرج إلى الدعابة والمزاح، بل وإلى السخرية في بعض السياقات.
كل هذه المقاصد كانت مبنية في أساسها على الخطاب اللغوي أولا، والطريقة التي تم التعبير بها، ثم على معرفة عناصر السياق الذي أُنجز فيه المدرس هذا الخطاب، والتي سيوظفها المتعلم كذلك في فهم المقاصد التي يريد مدرسه أن يبلغه إياها، وكذلك فهم التأثير الذي يريد أن يحققه.
مثال آخر: "هل يمكن أن أبدأ الدرس؟"
إن المدرس يخبر المتعلمين ببدء المحاضرة، أو يطلب منهم الصمت، إن كانوا يخوضون في حديث قبل ذلك، بالرغم من الدلالة الحرفية للخطاب على الاستفهام، لاشتماله على أداة الاستفهام "هل" وطرحه إياه بشكل مباشر عند توجيهه إلى الطلاب، إلا أن الطريقة التي قيل بها الخطاب وملامح الوجه ونبرة الصوت وحركات الجسد تساعد على فهم المعنى المقصود. وللوصول إلى القصد لا بد من استدلال يتجلى من خلال آليات الحجاج. وهذا ما سنتطرق إليه في المحور التالي:
6.2. استراتيجية الاستدلال
عرف بيرلمان وتيتيكا الحِجاج بأنه: "مجموع تقنيات الخطاب، التي تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعُرض عليها من أطروحات، أو تزيد في درجة ذلك التسليم"[26]. ويجمع الحِجاج في نظرهما بين حِجاج عقلي وآخر عاطفي: "الحِجاج الأول قوامه العقل، وهو حجاج الفيلسوف. يتوجه به إلى جمهور ضيق. والحِجاج الثاني يرمي إلى دغدغة العواطف وإثارة الأهواء استنفاراً لإرادة جمهور السامعين، ودفعها إلى العمل المرجو إنجازه".[27]
ويرتبط الحِجاج، عند أنسكومبر وديكرو في مؤلفهما المشترك "الحجاج في اللغة" من حيث بنيته، باللغة في ذاتها، "لا فيما يمكن أن ينطوي عليه الخطاب من بنى شبه منطقية أو شكلية أو رياضية كما هو الشأن عند بيرلمان وتيتيكا[28]، إذ تحمل اللغة بعداً حِجاجياً في جميع مستوياتها، "أما وظيفة الحجاج عندهما فتكمن في التوجيه «l’orientation». ويحصل هذا التوجيه في مستويين: مستوى السامع ومستوى الخطاب نفسه"[29]. فهو بذلك توجيه للسامع والخطاب معا. فيكون توجيه السامع بالتأثير فيه أو مواساته أو إقناعه أو جعله يقوم بعمل ما وغير ذلك، أما التوجيه الذي يحصل على صعيد الخطاب نفسه فإنه يتجلى في أن قضية معينة تؤدي بالضرورة إلى ظهور قضية ثانية إما بشكل صريح أو ضمني.
من هنا بات بالإمكان فحص مختلف الأساليب والظواهر اللغوية: الصوتية، والتركيبية، والصرفية، والدلالية، والبلاغية من منظور حجاجي.
1.6.2. آليات الحجاج
= الروابط والعوامل الحجاجية
تُعرّف العوامل الحجاجية بأنها "مورفيمات إذا وجدت في ملفوظ تحول وتوجه الإمكانات الحجاجية لهذا الملفوظ"[30]، وأما من حيث تموضعها في الخطاب فإننا "لا نجدها تربط بين متغيرات حجاجية أي بين حجة ونتيجة أو بين مجموعة حجج، ولكنها تقوم بحصر وتقييد الإمكانات الحجاجية التي تكون لقول ما، وتضم مقولة العوامل أدوات من قبيل: ربما، تقريبا، كاد، قليلا، كثيرا، ما، إلا، وجُلُّ أدوات القصر"[31].
ولكي نبين الدور الذي يلعبه العامل الحجاجي، نورد المثال التالي الذي قام بتحليله الدكتور أبو بكر العزاوي في خضم شرحه للفرق بين العامل والرابط الحجاجيين: (1) الساعة تشير إلى الثامنة. (2) لا تشير الساعة إلا إلى الثامنة.
إن ما يمكن ملاحظته في هذا المثال هو إدخال أداة القصر: "لا" و"إلا" على العبارة، ولكن ما يمكن التساؤل عنه هاهنا هو ما الجديد الذي أضفته أداة القصر على هذه العبارة؟
إذا تأملنا العبارة السابقة جيدا، فإننا سنصل إلى نتيجة مفادها: أن إضافة أداة القصر لم ينتج عنه أي اختلاف بين المثالين من حيث القيمة الإخبارية أو المحتوى الإعلامي، وأن ما تأثر بهذا التعديل هو القيمة الحجاجية.
وعلاوة على ذلك فإن الإمكانات الحجاجية في المثال الأول تبقى مفتوحة، فالعبارة يمكنها أن تخدم حجاجا معينا مثلما تخدم الحجاج المضاد. وبالتالي، فإن العبارة لها "إمكانات حجاجية كثيرة. فقد يخدم هذا القول نتائج من قبيل: الدعوة إلى الإسراع، التأخر والاستبطاء، هناك متسع من الوقت، موعد الأخبار.وبعبارة أخرى، فهو يخدم نتيجة من قبيل: أسرع، كما يخدم النتيجة المضادة لها: لا تسرع"[32]. لكن بعد إدخال العامل الحجاجي "لا" و"إلا" على العبارة، فإننا نلمس تأثيره في إمكاناتها الحجاجية، فقد تقلصت وأصبح الاستنتاج العادي والممكن هو: لا تشير الساعة إلا إلى الثامنة، لا داعي للإسراع.
أما الرابط الحجاجي فيعرف بأنه "مورفيم من صنف الروابط (حروف العطف–الظروف)، فهو يربط بين وحدتين دلاليتين أو أكثر، في إطار استراتيجية حجاجية واحدة"[33]. وأما من حيث الجانب الوظيفي فللروابط الحجاجية وظيفتان رئيسيتان: تربط بين وحدتين دلاليتين أو أكثر، وتخدم دورا حجاجيا للوحدات الدلالية التي تربط بينها.
فالروابط تربط بين قولين أو بين حجتين أو أكثر، وتسند لكل قول دورا محددا داخل الاستراتيجية الحجاجية العامة. ويمكن التمثيل لها بالأدوات الآتية: بل، لكن، حتى، لا سيما، إذن، لأن، بما أن، إذ، إلى آخره.
فإذا أخذنا المثال التالي: "زيد مجتهد، إذن سينجح في الامتحان"، فسنجده يشتمل على حجة هي (زيد مجتهد)، ونتيجة مستنتجة منها (سينجح)، وهناك الرابط الحجاجي الذي يربط بينهما.
وللروابط الحجاجية أنماط عديدة أهمها:
الروابط المدرجة للحجج: حتى، بل، لكن، مع ذلك، لأن...
الروابط المدرجة للنتائج: إذن، لهذا، بالتالي...
الروابط التي تدرج حججا قوية: حتى، بل، لكن، لا سيما...
روابط التعارض الحجاجي: بل، لكن، مع ذلك...
روابط التساوق الحجاجي: حتى، لا سيما..."[34]
فقولنا مثلا: (1) جاء زيد؛ (2) حتى زيد جاء.
يخدم القولان نتيجة واحدة، ولكن في المثال الثاني (حتى زيد جاء) يقدم معلومة جديدة (مجيء زيد غير متوقع)، حيث لعب الرابط دورا في إدراج حجة جديدة أقوى من الحجة المذكورة في المثال الأول، فالحجتان وإن كانتا تخدمان نتيجة واحدة، إلا أن درجة القوة متفاوتة بينهما.
المبادئ الحجاجية
إن وجود الروابط والعوامل الحجاجية لا يكفي لضمان سلامة العملية الحجاجية وقيام الحجاجية، بل لا بد من ضامن يضمن الربط بين الحجة والنتيجة هو المبادئ الحجاجية.
وتتميز هذه الأخيرة بجملة من الخصائص، يمكن إيجازها فيما يلي:
أ. إنها مجموعة من المعتقدات والأفكار المشتركة بين الأفراد داخل مجموعة بشرية معينة.
ب. العمومية: فهي تصلح لعدد كبير من السياقات المختلفة والمتنوعة.
ج. التدرجية: إنها تقيم علاقات بين محمولين تدريجيين أو بين سلمين حجاجيين (الاجتهاد والنجاح) مثلا.
د. النسبية: هناك إمكانية إبطال المبدأ الحجاجي ورفض تطبيقه باعتباره غير ملائم للسياق المقصود، أو يتم إبطاله باعتماد مبدأ حجاجي آخر مناقض له"[35].
مثال: سينجح زيد لأنه مجتهد. يشتمل هذا المثال على مبدأ حجاجي هو: الاجتهاد يؤدي إلى النجاح، أو تكون فرص نجاح الإنسان بقدر عمله واجتهاده.
السلّم الحجاجي
إن السلم الحجاجي هو "علاقة ترتيبية للحجج، فعندما تقوم بين الحجج المنتمية إلى فئة حجاجية ما علاقة ترتيبية معينة، فإن هذه الحجج تنتمي إذ ذاك إلى نفس السلم الحجاجي"[36]، حيث ب، ج، د، حجج وأدلة تخدم النتيجة "ن"، فيمكننا مثلا أن نمثل لها بالتدرج عبر المراحل الدراسية كالآتي:
ب. حصل زيد على شهادة الإجازة.
ج. حصل زيد على شهادة الماجستير.
د. حصل زيد على شهادة الدكتوراه.
فإذا تأملنا العبارات أعلاه، فإننا نجدها تنتمي إلى فئة حجاجية واحدة، وإلى السلم الحجاجي نفسه، وأنها تفضي إلى نتيجة مضمرة تتمثل في مكانة زيد العلمية وكفاءته المعرفية، والتي يدل عليها الدليل القوي من بين العبارات السابقة، وهو حصول زيد على شهادة الدكتوراه.
وللسلم الحجاجي قوانين يحتكم إليها، أهمها ثلاثة:
1. قانون النفي: ينتج عن طريق النفي أو النقيض.
مثال له: (1) زيد مجتهد، لقد نجح في الامتحان. (2) زيد ليس مجتهدا، إنه لم ينجح في الامتحان.
فإذا قبلنا الحجاج الوارد في المثال الأول، وجب أن نقبل كذلك الحجاج الوارد في المثال الثاني.
2. قانون القلب: يرتبط هذا القانون أيضا بالنفي، ومفاده أن السلم الحجاجي للأقوال المنفية هو عكس الأقوال الإثباتية.
مثال له: (1) حصل زيد على الماجستير، وحتى الدكتوراه. (2) لم يحصل زيد على الدكتوراه، بل لم يحصل على الماجستير.
فحصول زيد على الدكتوراه أقوى دليل على مكانته العلمية من حصوله على الماجستير، في حين أن عدم حصوله على الماجستير هو الحجة الأقوى على عدم كفاءته من حصوله على شهادة الدكتوراه.
3. قانون الخفض: "إذا صدق القول في مراتب معينة من السلم، فإن نقيضه يصدق في المراتب التي تقع تحتها"[37]. مثال له: (1) الجو ليس باردا. (2) لم يحضر الكثير من التلاميذ إلى الفصل.
سيؤوّل القول الأول بأنه إذا لم يكن الجو باردا، فهو معتدل أو حار، وسيؤوّل القول الثاني بأنه لم يحضر إلا القليل منهم إلى الفصل.
نخلص إلى أن نظرية ديكرو في الحجاج تنطلق من فكرة أساسية مفادها أن الوظيفة الأساسية للغة هي التأثير والإقناع، وأن المكون الإخباري ثانوي، أما المكون الحجاجي فهو الأساسي. ومن أهم مبادئها: السلم الحجاجي وقوانينه الثلاثة: النفي والقلب والخفض. بالإضافة إلى الروابط والعوامل الحجاجية التي تحتل هي الأخرى مكانة هامة لما تقوم به من حصر وتقييد للخطاب. لكن لا يكتفي الخطاب التربوي التعليمي بالنسق اللغوي في إقناع المتعلم والتأثير فيه بل يتضافر مع النسق البصري في إنتاج المعنى وتداوله.
خاتمة
إن الخطاب التربوي التعليمي خطاب لساني وسميائي في الآن ذاته، وبما أنه كذلك، فلا يمكن استيعابه إلا باستيعاب مقوماته النسقية والإجرائية باعتبارها فعلا معقدا قوامه انفتاح الأنا على الآخر، فعلا تُسخر فيه كل الأنساق اللغوية وغير اللغوية، حتى وإن كان النسق المهيمن في التواصل هو النسق اللغوي، كما هو الشأن في الخطاب التربوي التعليمي، فهذا لا يعني إلغاء باقي الأنساق. كما تجسد كل من العلامات اللغوية وغير اللغوية استراتيجية الخطاب التربوي التعليمي، وهذه الأخيرة تتبوأ مكانة هامة، بوصفها الطريقة التي توصل مقاصد المرسل. وتتعدد استراتيجيات التواصل بتعدد السياقات، ويعد توظيفها ضروريا للحجاج والإقناع وتبادل الأفكار. وتصنف هذه الاستراتيجيات حسب المعايير التالية: معيار نسقي، يهم شكل لغة الخطاب، ومعيار سياقي، يتمثل في العلاقات التواصلية، ومعيار ثالث مرتبط بهدف الخطاب.
إن التقطيع اللساني لا يعدو أن يكون مجرد إجراء نظري لتسويغ التحليل وتسهيل الدراسة، فالحقيقة أن هذه المستويات متداخلة ومتكاملة فيما بينها، فإن كان اجتماع الصواتي والصرافي والدلالي والتداولي أمرا لازما من أجل خدمة النسق اللغوي ككل، فقد عُدّ مدخلا لتكامل أوسع وصار اجتماع اللساني والسميائي مطلبا مشروعا ليس من أجل النسق اللغوي فحسب، بل من أجل النسق التواصلي ككل.
= = =
الهوامش
[1] المتوكل أحمد، الخطاب وخصائص اللغة العربية، دار الأمان، الطبعة الأولى، 2010، ص 22
[2] التداوليات وتحليل الخطاب، بحوث محكمة، إشراف وتقديم، حافظ إسماعيلي علوي، دار كنوز المعرفة العلمية، الطبعة الأولى، 2014، ص 213
[3] طه عبد الرحمان "اللسان والميزان أو التكوثر العقلي"، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى،1998، ص 215
[4] طه عبد الرحمان، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، ص 213
[5] المرجع نفسه، ص 275
[6] التوجيهات التربوية الخاصة بمادة اللغة العربية بسلك التعليم الثانوي الإعدادي، المملكة المغربية، الطبعة الأولى، غشت 2009، ص 3
[7] فولفجانج هاينه مان وديتر فيهفيجر: مدخل إلى علم لغة النص، ترجمة سعيد حسن بحيري، مكتبة زهراء الشرق، الطبعة الأولى، ص 269
[8] المرجع نفسه، ص 269
[9] ابن ظافر الشهري عبد الهادي، استراتيجيات الخطاب: مقاربة لغوية تداولية، دار الكتاب الجديد، الطبعة الأولى، 2004، ص 20
[10] المرجع نفسه، ص 20
[11] في تجديد مفهوم الخطاب، عمران كمال، المجلة العربية للثقافة، العدد 271، نونبر، دجنبر 1993م، ص،64
[12] دي بوجراند روبرت، النص والخطاب والإجراء، ترجمة د. تمام حسان، عالم الكتب، القاهرة، الطبعة الأولى 1418ه/1998م ص 4
[13] العزاوي أبوبكر، اللغة والحجاج، ص 118
[14] العزاوي أبوبكر، اللغة والحجاج، ص 119-120
[15] بويسنس إيريك، السميولوجيا والتواصل، ترجمة وتقديم: جواد بنيس، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 2017، ص 55
[16] المرجع نفسه، ص 31
[17] إسماعيلي علوي عبد السلام، السمیولسانیات وفلسفة اللغة، مرجع سابق، ص 174
[18] المرجع نفسه، ص 175
[19] المرجع نفسه، ص175
[20] إسماعيلي علوي عبد السلام، السمیولسانیات وفلسفة اللغة، ص 177
[21] المرجع نفسه، ص 177
[22] إسماعيلي علوي عبد السلام، السميولسانيات وفلسفة اللغة، ص 185
[23] سيرل جون، العقل واللغة والمجتمع، الفلسفة في العالم الواقعي، ترجمة وتقديم، صلاح إسماعيل، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2011، ص 183
[24] المرجع نفسه، ص 183
[25] المرجع نفسه، ص 184
[26] 1- Chaim Perelman et Lucie Olbrechts-Tyteca. Traité de LʼArgumentation. Editions de L’universite de Bruxelles. 1992. P : 5
[27] صولة عبد الله. الحجاج في القرآن. مرجع سابق، ص 28
[28] المرجع نفسه، ص 33
[29] المرجع نفسه، ص 35-36
[30] عمران قدور، محاضرات في تحليل الخطاب، المدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانية، بوزريعة، الجزائر، مصلحة التكوين عن بعد، ص 84
[31] العزاوي أبو بكر، اللغة والحجاج، العمدة للطبع، الطبعة الأولى، 2006، المغرب، ص 29
[32] العزاوي أبو بكر، اللغة والحجاج، ص 29
[33] عمران قدور، محاضرات في تحليل الخطاب، ص 85
[34] العزاوي أبو بكر، اللغة والحجاج، ص 30
[35] العزاوي أبو بكر، اللغة والحجاج، ص 31
[36] المرجع نفسه، ص 20، 21
[37] طه عبد الرحمان، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، 2000، ص 105، 106
= = =
لائحة المصادر والمراجع
ابن ظافر الشهري عبد الهادي، استراتيجيات الخطاب: مقاربة لغوية تداولية، دار الكتاب الجديد، الطبعة الأولى، 2004.
بويسنس إيريك، السميولوجيا والتواصل، ترجمة وتقديم: جواد بنيس، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 2017.
دي بوجراند روبرت، النص والخطاب والإجراء، ترجمة د. تمام حسان، عالم الكتب، القاهرة، الطبعة الأولى 1418ه/1998م.
اسماعيلي علوي عبد السلام، السميولسانيات وفلسفة اللغة: بحث في تداوليات المعنى والتجاوز الدلالي، دار كنوز المعرفة، الطبعة الأولى، 1438ه/2017م
سيرل جون، العقل واللغة والمجتمع، الفلسفة في العالم الواقعي، ترجمة وتقديم، صلاح إسماعيل، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2011.
صولة عبد الله. الحجاج في القرآن، بيروت: دار الفارابي وكلية الآداب منوبة، الطبعة الأولى،2001.
طه عبد الرحمان، "اللسان والميزان أو التكوثر العقلي"، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى،1998.
طه عبد الرحمان، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 2000.
العزاوي أبو بكر، اللغة والحجاج، العمدة للطبع، الطبعة الأولى، 2006، المغرب.
فولفجانج هاينه مان وديتر فيهفيجر: مدخل إلى علم لغة النص، ترجمة سعيد حسن بحيري، مكتبة زهراء الشرق، الطبعة الأولى، 2004.
المتوكل أحمد، الخطاب وخصائص اللغة العربية، دار الأمان، الطبعة الأولى، 2010
Chaim Perelman et Lucie Olbrechts-Tyteca. Traité de LʼArgumentation. Editions de L’universite de Bruxelles. 1992.
وثائق تربوية
التوجيهات التربوية الخاصة بمادة اللغة العربية بسلك التعليم الثانوي الإعدادي، المملكة المغربية، الطبعة الأولى، غشت 2009م.
مقالات وأبحاث علمية
بحوث محكمة، إشراف وتقديم، حافظ إسماعيلي علوي، التداوليات وتحليل الخطاب، دار كنوز المعرفة العلمية، الطبعة الأولى، 2014.
عمران قدور، محاضرات في تحليل الخطاب، المدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانية، بوزريعة، الجزائر، مصلحة التكوين عن بعد.
عمران كمال، في تجديد مفهوم الخطاب، المجلة العربية للثقافة، العدد 271، نونبر، دجنبر 1993م.