أيمن خالد دراوشة - قطر
خربشات عقل شاب: قراءة
خربشات عقل شاب (*): محاكاة للواقع الاجتماعي بخيال فنان، ولغة شبابية راقية من السهل الممتنع
(*) مجموعة قصصية للقاص القطري أحمد المصطفوي. الناشر: مطابع الدوحة الحديثة، قطر (2011).
القصص عند المصطفوي ليست سرداً لمجرد السرد، فبعد قراءة قصة تتوقف مذهولاً لتقول هناك حكاية أخرى تطل من بين السطور، فللمشهد ظله، والظل يروي حكاية قد تكون مخالفة للظاهر، وهذا ما يذهب إليه الشعر، (فالقصيدة البليغة) هي التي تمتد بظلالها خارج معناها المكتوب، فتخلق أبعاداً وإيحاءات وتؤدي إلى سبلٍ شتى.
احتوت المجموعة على عناوين متنوعة منها : "كأس من الشاي"، "الاتهام "، "الإيمان "، "الشهقة الأخيرة "، "المسجل"، "تذكرة العودة "، "تلك اللحظة الغادرة"، "المنظر الخلاب"، "شطيرة جبنة "، "لذة القلق "، "البنك ".
نجح الكاتب باختيار عناوينه البرَّاقة مما جعلها مغرية للقراءة، وتمنيت لو اختار الكاتب واحداً من هذه العناوين لمجموعته مثل : "الشهقة الأخيرة" أو "الإيمان"؛ لكان أشد تأثيراً في نفسية القارئ من "خربشات عقل شاب".
وبمجرد قراءة عنوان المجموعة نجد الرغبة الشديدة في قراءة القصص التي تفتح شهيتنا لنتهيأ، ونشعر بامتلاكنا لأجنحة نستطيع بها التحليق عالياً، حتى إذا انتهينا، شعرنا بأننا ما زلنا نريد المزيد، فنضطر لإعادة القراءة مرة أخرى رغبةً منا في الارتواء المستحيل.
لقد كتب القاص قصصه بشاعرية ورومانسية مستعيناً بالسرد، ويغري القارئ بسرد حكايات التقطها من الحياة العملية تارة، ومن خياله الخصب تارة أخرى، وحسب تجربته الشخصية على ما أظن، فأكثر القصص هي محاكاة للواقع الاجتماعي، عبَّر عنها الكاتب بلغة شبابية، وفكر شبابي تجاوز به القاص إلى اللغة الأدبية الفنية الراقية.
"فجأة يدخل شاب قطري في أواخر العشرينات حاسر الرأس مرتدياً الثوب، وينزع النظارة الشمسية من بداية دخوله ويحي الجميع بقوله: أحلى سلام لأحلى حلاقين في المطار القديم".
هذا هو عالم المصطفوي القصصي الذي ربما مارس القراءة بكثافة فعرف من أين يدغدغ القارئ، وأبدع قصصاً مثمرة ومثيرة.
ومن القصص المثيرة والتي شدتني كثيراً، وتركت أثراً بالغاً من الحزن والألم في نفسي قصة "الإيمان"، والقصة تدور حول طبيب جراح مكافح، وقع على عاتقه رعاية أخيه الصغير بعد وفاة والديه بحادث أليم ليدخل في عراك مع الحياة، وبسبب الفقر الشديد يضعف إيمانه، لكنه يعود إليه لحاجته إلى الله سبحانه وتعالى لكي يطلب الدعاء والنجاة لأخيه أثناء إجراء عملية له، والمدهش أن النهاية تأتي على خلاف توقعات القارئ فأخ الطبيب يموت تحت العملية، وعودته للإيمان جاءت متأخرة.
كان التشويق عاملاً هامًّا للقاص، ويمكن ملاحظة ذلك في قصة "الشهقة الأخيرة" وقصة "البنك". ورغم أن المصطفوي قد أغرقنا بجو من الحزن في غالبية قصصه، إلا أنه رسم البسمة على شفاهنا من خلال بعض القصص التي لم تخل من طرافة ونكتة مثل قصص "كأس من الشاي" و"تلك اللحظة الغادرة" و"شطيرة جبنة" و"الهزيمة المرة". والقصة الأخيرة، "الهزيمة المرة"، كان لها هدف سام ومعان راقية، ولو كنت أحد شخوص هذه القصة لتصرفت نفس تصرفاتها. ومما يثير الإعجاب في قصص المجموعة، أن الكاتب مزج بين الحزن والفرح في وقت واحد كقصة "الشهقة الأخيرة" و"تلك اللحظة الغادرة ".
لقد استطاع المصطفوي تحريك شخوصه بعفوية وبراعة وموهبة الأديب، كما التقط الجزيئات بكثير من العمق الذي يشكل بناء النص بأطروحته الاجتماعية والنفسية وأيضاً بأبعاده الجمالية، فالكاتب يعيد الواقع ويشكله وفق معايير وضوابط القصة، بحثاً عن الإنسان وما يحيط به. وقد وجدنا المصطفوي في مجموعته يحوِّل بعض تجاربه الحقيقية إلى عملٍ فني راق تحمل في طياتها دلالات عميقة تنم عن رؤية اجتماعيه ثاقبة، وخيال قاص غارق في الشبابية.
ورغم أن العمل هو الأول للكاتب، ويقدم من خلاله أوراق اعتماده لعالم الفن القصصي، فالواضح أنه كان قد استكمل كل أدواته، ويندر أن يبدأ القاص، مهما كانت موهبته، من هذا السقف العالي. ويلفت النظر مدى الانضباط الهندسي للنص ودقة الوصف مع الاقتصاد في اللغة المعبرة عن المعنى، بحيث تؤدي الغرض المطلوب دون حشوٍ لا يفيد.
وسلك القاص مَسْلكاً سهلاً بعيداً عن الغموض والألغاز، وهو مسلك من السهل الممتنع البسيط، فأضحت القصص في متناول الصغير والكبير والمثقف والقارئ، مما يؤهلها لأن تكون نموذجاً جيداً لمشروع القراءة الذي أقرّه المجلس الأعلى للتعليم لمستوى المرحلة الثانوية (في قطر). كما يمكن أن تتحول بعض القصص إلى مشاهدٍ تمثيلية تلفزيونية أو إذاعية أو حتى مسرحاً مدرسياً.
أما لغة السرد فقد أختار أن تكون بلسان السارد الصريح، وهو الشخصية المحورية في القصة، وبذلك اختفى الصوت المباشر للكاتب، وبدا كما لو أنه ترك القارئ في مواجهة بطله:
"ما الذي يحدث لي؟ لا أكاد أصدق نفسي، إنني أضيع بين هذه المتاهات الغبية مرة أخرى".
"وانطلق بشيء من السرعة مُخلِّفا زوبعة رملية أتت على سطح أوراق النبتة الخضراء".
"ما أغرب أن تفتن بالقشور وتترك لب الحقيقة!"
ومما يميز هذه القصص الهادفة، ابتعادها عن السرد الطويل والتركيز على العناية بالجزئيات وتكثيف الألفاظ؛ مما ألهب مشاعر وأحاسيس قارئه، حتى يشعر المتلقي أنه أحد شخوصها.
إن نمو الإيحاءات والمجازات في إطار الفكرة عمَّقها خيال القاص، إضافةً إلى الحث في إشكالية الواقع الاجتماعي المر.
كما أنَّ القضية الأساسية هنا لا تتمثل في استخلاص الأفكار التي من خلالها أقام الكاتب عمله بمقدار ما تتمثل أننا نواجه عملاً فنيًّا يحتوي عناصر متنوعة، مهمتها رصد الكيفية التي صيغ فيها هذا العمل الإبداعي.
إنَّ النفس الإنسانية وما تحمله من اضطراب وتردد دفع الكاتب إلى استغلال هذه النفس، وإعطائها بعداً رمزياً، والذهاب بنا إلى أقاليم جديدة أساسها الوصف المباشر والتصوير الدقيق للأماكن:
"تقدم فواز بجسمه وهو يحاول أن يأخذ نظرة أفضل إلى محتويات الشرفة وإلى ذلك المنظر الطبيعي الجميل الذي لا يفتأ أن يسلب خياله".
"الضوء هو دليلي الوحيد عبر هذه المتاهة الحقيرة التي يغمرها الظلام الدامس".
لقد عاد بنا الكاتب إلى الماضي، وحاول جاهداً أن يقدم لنا شرائح زمانية ومكانية تتصل اتصالاً وثيقاً بالفكرة، وهي العودة إلى الماضي وما يحمله من هموم وأشواق وتطلعات، ولكنه في جانب منها انكفاء على الذات وتجسيد للخيبة والمرارة فيما يحسه منطلقاً على خط الزمن.
إنَّ العمقَ الإنساني هو المتبقي من قصص هذه المجموعة، التي تمثل مغامرة ممتعة لأي قارئ يبحث عن الواقع الاجتماعي بكل تجلياته أفراحه وأحزانه في صفحات من نبع خيال خصب.
◄ أيمن دراوشة
▼ موضوعاتي