عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

أيمن دراوشة (*) - الأردن

قراءة في قصيدة


قراءة في قصيدة "لا تسل" للشاعرة اللبنانية أنجل (ابنة الأرز)

(*) ناقد أردني مقيم في قطر

قصيدة "لا تسل" مركبة من صورتين إيجابية وسلبية، صورة الرجل الإنساني النادر الوجود، وصورة الرجل اللاإنساني الموجود بكثرة. تبدأ الشاعرة قصيدتها بـ"هي الأرزية"، كناية عن شدة تعلقها بالأرض المقدسة ، ثم يقتحم خيالها الخصب لتفترض حلماً:

أغمَضَتْ عَينَيها عنِ الوجودِ وابتَكرَت رجلَ شِعرِها

لتستمر بمبالغة شديدة في وصف رجل نادر الوجود :

رجلاً شكلتُه على مزاجي،
 
زرعتُ فيه بذور الكمال،
 
ولونتُه بآياتٍ من الجمال
 
لوّنتُ سُمرتَه كما أعشقُها

هنا تهيم الأرزية بهذا الرجل الخيالي النادر، فتشكله كما تشاء وتزرع فيه الكمال، وتصوره كأنه آية من الجمال وتلونه كما تعشق. هذا الرجل ليس من كوكب الأرض، إنما من كوكب الصدق والرجولة في عالم أصبحت فيه البطولة والرجولة عملة نادرة، وهي بذلك في صف هذا الرجل لا خلافه. والقضية ليست مساواة بين الرجل والمرأة عند شاعرتنا أنجل التي تذهب بنا بعيداً وضد المألوف، فهي حالمة بالرجل الإنسان، والرجل الصادق، رجل التضحية والعنفوان ، مثل هذا الرجل نادر الوجود:

هذه الأرزية إنما تُعلِن بِذكاءٍ مُبَطّن
 
أن للأرزيات رجالاً ليسوا من كَوكَبِ الأرض
 
بل هم من كواكبِ الرّجولةِ والصدق
 
العنفوانِ والبطولة

تستمر الأرزية في خطابها للرجل وتلح بصيغة الأمر "كن" مكررة إياه عشر مرات:

يا صَديقنا الرجل
 
كُنْ شِراعَنا إلى الأرقى
 
كُنْ لمَشاعِرَنا الأنقى
 
كُنْ لجِراحِنا الشّافي
 
كُنْ لليلِنا النّور
 
كُنْ لابتِهالاتِنا القديس
 
كُنْ لنَشوِتِنا النَّسيم
 
كُنْ لعُشقِنا الإعصار
 
كُنْ، وكُنْ، وكُنْ،

هذا التكرار الذي أضفى موسيقى جميلة على القصيدة، ربما أفاد الرجاء المبطن بالحيرة والقلق، فهل فعلا سيكون هذا الرجل ما أرادته الشاعرة؟ وتستمر الشاعرة باستخدامها لأسلوب الأمر لتطلب من هذا الرجل الإنسان أن ينسى أنه الذكر، وليكن رجلاً إنساناً حتى يتم الارتقاء معاً:

وانسَ أنك الذكرُ لترقى بي، وبك، لنرتقيَ معاً

وتنتقل بنا الأرزية لتكشف لنا صفات الرجل اللاإنساني، الذي يهمه مما تكتب الشاعرات الشعر الإباحي. ولكن الأرزيات، كما ترى الشاعرة

لا يتملَّقنَ الشهرةَ بإباحية الشعر
 
إنما بغوايةِ الوَمضات التي تُلامِسُ المشاعرَ في عمقِ النّشوةِ لترتقيَ بِتلكَ المشاعرِ المُقدسةِ الى مكانها الطّبيعي في هياكلنا المُمتلئة بالنّعمة

وتنهي الشاعرة قصيدتها بعتاب ولوم ذلك الرجل البعيد عن الإنسانية، فالأرزية

غازلته، بكت غيابه، توسدت معه وسادات اللقاء الحميمة، عاتبت ذاكرته
 
لتُبقيه قِديساً
 
ليَستَحِقَّ منها كلَّ ذاك العُشقِ المَسموحِ والمَمنوعِ
 
الهادرِ من سَمائها وتحتَ نورِ الشّمس

اللغة هي الموروث، والإبداع معركة داخل ساحة هذا الموروث، والتجديد هو البحث عن صيغة تفترضها القصيدة. اللغة هي الأنا الجمعي، والأسلوب الشعري هو الأنا الفردي ، والعملية الإبداعية هي عملية تموضع الذات.

لغة القصيدة واقعية وهذا – في حد ذاته– موقف محمل بالإثارة والثورة والتفجير، ولا تعني الواقعية هنا الابتذال والركاكة، وإنما تشكيل لغوي يمزج بين اللغة المحكية الفصيحة واللغة المثالية المنتقاة بعناية فائقة، وهذا ما جعل قراءتها سهلة قريبة من الذوق العام ، وتنفد إلى الأعماق فتؤدي فعلها ببلاغة وإحكام.

هي كلمات لا تنقل معنى بشكل مباشر، بل هي رمز بعيد وطاقة شعرية وصورة مصغرة تنطق بكل المعاني والدلالات التي جمعها العنوان "لا تسل": الكمال والجمال؛ صوب النور؛ الرجولة والصدق؛ العنفوان والبطولة؛ كن؛ غواية الومضات؛ العشق الممنوع والمسموح؛ نور الشمس.

الرمز عند شاعرتنا ليس غموضا، ولا لغزاً مبهما، كما أنه ليس مباشرة وتقريرية ، فهو كقنديل نستضيء به في عالمنا المظلم البعيد ، إنه تجربة عميقة ، ومسحة جمالية تغطي كوناً شعرياً رائعاً.

هذا الرمز عبارة عن معالم في الطريق ، ولوازم إيقاعية يتكئ عليها هذا الوزن المتحول إلى قطعة موسيقية تنبعث من باطن القضية لتبلغ المدى الأقصى ، فالرمز هنا لحظة انتقالية من الواقع إلى صورته المجردة، وهي الإطار الفني الذي يتم فيه الخروج من الانفعال المباشر إلى محاولة عقلنته، وهو تجسيم للانفعال في قالب جمالي.

ولو تتبعنا الظواهر اللغوية في القصيدة لوجدنا ان الفعل هو العنصر السائد في كل المقاطع، ويقيم هذا الفعل علاقات الأشياء، فيحول الأشياء، ويتحول بها ، ويقوم على الحركة، وحركة التحول الدائم الذي لا يتوقف ولا يعرف الاستقرار.

الصورة لدى شاعرتنا قائمة على الجمال والبساطة، قد تعتمد على التشبيه والرمز واللفظ الموحي والتوزيع الوتري والصدمات الإيقاعية، أما المناخ الموسيقي للقصيدة فهو يزيد قدرة اللغة على تحريك الخيال والإقناع النفسي.

تثير القصيدة الشعور والإحساس لدى القارئ بالقضية الشعرية التي تطرحها الشاعرة ، لهذا جاءت العاطفة صاخبة ومدوية، وذلك لتدفق شحناتها الملتهبة في قالب فني جميل.
إن الإلهام عند شاعرتنا ليس ضرباً من ضروب الخيال، وإنما هو معاناة وتجربة مع الكتابة.

لقد ارتفعت بنا الشاعرة من المستوى الإفهامي العادي إلى المستوى التأثيري، فالشاعرة أبدعت في تحويل اللفظة من أداة إيضاحية في اللغة الشائعة إلى أداة إيجابية في اللغة الشعرية، وبلغت ببراعة درجة التوازن الضروري بين الأصالة والمعاصرة باستعمالها اللغة الواقعية البسيطة مع احتفاظها بعناصر الأصالة فيها، وحققت بذلك شيئين هما: الابتعاد عن الغموض الذي سقط فيه أغلب شعراء القصيدة الحديثة ، والتعبير عن قضية معاصرة.

= = = = =

"لا تسل" قصيدة من ديوان بعنوان "عاشقة في هيكل الأرز" للشاعرة اللبنانية أنجل (ابنة الأرز).

الناشر : دار الرحاب الحديثة ، لبنان (2012)

D 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012     A أيمن دراوشة     C 0 تعليقات