عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. شميسة غربي - الجزائر

الأدب الجزائري القديم ج2


تطرق الجزء الأول من هذا البحث إلى تحديد المقصود بالأدب الجزائري القديم، وبدأ بأدب الدولة الرستمية (160-299هـ؛ 676-911م)، وما بعدها.

شميسة غربيعصر الدّايات: لعلّ أوْسَع حركة أدبية شهدها عصر الدّايات بالجزائر؛ هو عصر الدّاي التاسع المدعو: محمد بكداش الذي تولى السلطة عام 1707م، ثمّ أزيح عنها عام 1710م (قتلا). وقد رفع الأدباء إليه قصائدهم مادحين.

كان هذا الدايُ عالِماً فقيها، مُشارِكا في عدة فنون، ماهِراً في علم اللسان، وعَنْهُ ألف محمد بن ميمون الجزائري كتابا بِعُنوان: التحفة المرْضية في الدّولة البَكداشية في بلاد الجزائر المحمية". احتوى هذا الكتاب على ست عشرة مقامة، تشهد على نبوغ الجزائريين في فن المقامات، وتُسجّلُ تأثرهم بالطريقة الأندلسية في التحبير والتدبيج (حسن السبك) وهذا مقتطف من إحدى المقامات في كتاب التحفة:

"صعد المنبر، ووعظ الناس فيه وحذر، يقذف لسانه لؤلؤه المكنون، ويصرف من بدائعه الأنواع والفنون، فلا يُجارَى في مِضمار إحْسان، ولا يُبارى في بلاغة وبرَاعة لسان"[1].

ويظهر أن هذا الأديب كان يُعاني من حسد العلماء، فنجدُه في المُقدّمة يقول:

"على أنّ أبْناء العصر، اُبْتلوا بالحسد، ويطلقون ألسنتهم بالفحشاء في كل مرصد، ومن كانت له ملكة فليُصَنِّفْ وإلا فلْيُنْصِفْ، ولكن كما قال المجنون:

وكلٌّ يدّعي وصْلاً بليْلى = = وليْلىَ لا تُقرُّ لهم بذلك

والله ولي التوفيق فيما قصدتُ، والكافي من الخطل فيما سردتُ فعليه كان معولي، وبه حسُنَ تأويلي، لا إله إلا هو، وهو حسْبي ونِعْمَ الوكيل"[2].

بقي أن أشير إلى أن مُحقق كتاب التحفة المرضية لابن ميمون الجزائري هو العالم الجليل الدكتور محمد بن عبد الكريم الجزائري، رحمه الله، وهو أيضاً صاحب ديوان: "كشف الستار".

إلى جانب محمد بن ميمون الجزائري، تميزت كوكبة من الشعراء، نذكر من بينهم الشاعر الكبير أحمد بن عمار الجزائري وهو من أجلاء علماء القرن 12هـ/18م في الجزائر، وكان يستمد من أصوله الأندلسية الأدب والفن، وحب الطبيعة والجمال. ومن حلو شعره:

نشدتك الرحمن يا هاجري = = عذِّبْ فؤادي بِسِوَى الهجْر

كمْ ليلة قطعْتُها حســــــرة = = وأنتَ في تيهك لا تدْرِي[3]

وله في النثر رحلة حجية بعنوان: "نِحْلة اللبيب".

كان أحمد بن عمار صديقا لشاعر آخر، جمع بين وظيفة الفتوى وقول الشعر، ذاك هو أبو عبد الله محمد بن محمد المشهور بابن علي، ومن شعره:

إنْ أنْكروا فضْلي لِخُبْثِ طِباعِهم = = فالدُّرُّ ليس يُعَزُّ في أوْطانه

وكذلك الياقوت ما بعُدوا بــه = = إلا وزاد البُعْدُ في أثمانه[4]

كان ابن عليّ أو سيدي بن علي، كما يُنادونه، يُعاني بين مكانته الاجتماعية والدينية، وبين طموحاته الشعرية، وكان مُحْتارا من ثورة هواه:

لولا، وحقك؛ خُطــــة قُلّدتُهـــــا = = زهرتْ بها في الخافقين شُموعي

ومنابر فيها رُقّيتُ إلــى العُلـــى = = وقد استدار بها كثيــفُ جمــــوع

لَنحوْتُ منْحى العامرِي صبابـــة = = ولكان من حرق الجوى مشفوعي[5]

وتشمل هذه الفترة أسماء أخرى كيحيى بن أبي راشد، الذي قال مادحا محمد بكداش، داي الجزائر التاسع، والذي ألف فيه محمد بن ميمون مؤلفه التحفة المرضية، يقول يحيى:

ملك تفرد بالكمال ولم يكن = = لكماله في السالفين مثال[6]

ثم الشاعر أبو عبد الله محمد البونصي، مادحا محمد بكداش أيضا:

بشارة خير قد أتت عقب المسا = = بفرقد سعد في السعادة قد رسا[7]

ويظل محمد القوجيلي أبرز شعراء الجزائر خلال القرن الحادي عشر الهجري (17م)، وله وقفات نقدية كقوله:

أهلَ الفصاحة غِبْتم لا فصيح يُرى = = يُجيد نظم الكلام يُذهل الفِكَـــرا

بكتْ لهم ولنظم الشعـــر باكيـــــة = = وحُقَّ أن يندب الأطلال والأثرا

مصيبة الجهل أدهى محنة نزلـت = = بالمرء لما غدا قد أشبه البقــرا[8]

وعرفت الفترة العثمانية بالجزائر فن الموشحات، وممن أجادوها محمد بـن رأس العين الذي اشتهر بالمجون والهزل، وكان يُلقب بالرئيس، ويُلقب بالبليغ، ومن مطالع موشحاته:

غزى فؤادي بمقلتيْه = = وصاد قلبي بقده[9]

قصارى القول إن الأدب في ظلال الجزائر العثمانية قد تأرجح بين السطوع مرة، وبين الانتكاسة مرات، وذلك بسبب عدم التشجيع من الحكام العثمانيين، وبسبب عدم استقرار الأدباء في الجزائر، فأغلبهم إما هاجر، وإما انغمس في التصوف الخرافي الذي شكل أحد مظاهر التدهور الثقافي بالجزائر العثمانية (الدروشة وما في حقلها).

يقول أبو القاسم سعد الله بعد حديثه عن آراء" الفكون" في البدع الصوفية: "حتى أصبح كل شيخ مجذوب يُعتبر بركة وصالحا، وكل درويش مغفل يُعتبر وليا وصاحب كرامات، وكلّ مُستغل للعامة بِاسم الدّين ومتقرب للسلطة باسم الطريقة؛ يُعتبرُ قطبا تأتيه الجبايات ويقصده الناس ... بالقرابين"[10].

كانت هذه جولة خفيفة لرصد بعض العينات من الموروث الأدبي في الجزائر، وقد حاولت من خلال عرضها تحريك جزء من الذاكرة الجزائرية المنسية، واستدعاء أنماط تفاوتت قدراتها الإبداعية، بتفاوت بُناها المكونة وتمحورت رؤاها حول قضايا معينة تسلك مسلك الارتباط بالذات والواقع، وتشتغل على فعاليات السلطة التقليدية في الكتابة، والامتثال للأبنية النصية السلفية.

ويبقى الجزء الآخر من هذه الذاكرة المنسية مشعا بإعلام وعناوين غنية عن كل تعريف أمثال الغبريني صاحب مؤلف عنوان الدراية، وابن مريم صاحب البستان وابن هطال التلمساني صاحب رحلة محمد الكبير، وابن حمدوش مؤلف لسان المقال في النبأ عن النسب والحسب والحال وغير هؤلاء كثير.

وليس يصح في الأفهام شيء = = إذا احتاج النهار إلى دليل

آثرت أن أعود في هذه القراءة إلى العهد الموحدي، مع شخصية الوهراني في عجائب أدبياته. ففي التفافة إلى الأدب العربي القديم في الجزائر، تُصادف الباحث عيّناتٌ تستوْجب التأمل، وتلقى هوى في النفس فينشد التقرب منها، ويحاول استنطاق مداليلها بصورة أو بأخرى، يحفزه فضول المعرفة، والتوْق إلى إحياء عوالم ماضوية، غائبة برحيل أصحابها، حاضرة بمناوشة الإبداع في زمانها وفي غير زمانها؛ حافلة بتراكمات البنية الذهنية السائدة في أوَانِها.

من هذه العيّنات أدبيات رُكن الدّين أبو عبد الله محمد بن محرز بن محمد الوهراني. زار مصر أيام السلطان صلاح الدين، وتوفي سنة 575هـ بقرية على باب دمشق تدعى (داريا) بعد أن تولى الخطابة بها لمدة غير يسيرة، وسلك طريق الهزل في كتاباته خاصة في منامه الكبير[11]. وهو صاحب المنامات الغريبة، والمقامات العجيبة والرسائل اللطيفة.

جُمعت هذه الأدبيات في مُجلد بعنوان: "منامات الوهراني ومقاماته ورسائله" تحقيق ابراهيم شعلان ومحمد نغش، مع مراجعة عبد العزيز الاهواني.

ومما وقع عليه الاختيار في هذه البسطة، وصفه لبغداد حين نزوله بها واستئناسه بالمقام فيها، يقول الوهراني في البدء:

"لما تعذرت مآربي واضطربت مغاربي، ألقيت حبلي على غاربي وجعلت مذهبات الشعر بضاعتي، ومن أخلاف الأدب رضاعتي، فما مررت بأمير إلا حللت ساحته واستمطرت راحته، ولا وزيرا إلا قرعت بابه، وطلبت ثوابه، ولا بقاض إلا أخذت سيبه، وأفرغت جيبه، فتقلبت بي الأعصار، وتقاذفت بي الأمصار، حتى قربت من العراق، وسئمت من الفراق، فقصدت مدينة السلام، لأقضي حجة الإسلام. فدخلتها بعد مقاساة الضر ومكابدة العيش المر، فلما قر بها قراري، وانجلى فيها سراري، طفتها طواف المفتقد، وتأملتها تأمل المنتقد، فرأيت بحرا لا يعبر زاخره، ولا يبصر آخره، وجنة أبدع جنانها، وفاز باللذة سكانها، لا يميل عنها المتقون، ولا يرتقي إلى صفتها المرتقون، (كمثل الجنة التي وعد المتقون)، فأرحت نفسي من سلوك الغور والفج، وجلست انتظر أيام الحج، وتاقت نفسي إلى محادثة العقلاء، واشتاقت إلى معاشرة الفضلاء، فدلني بعض السادة الموالي إلى دكان الشيخ أبي المعالي"[12].

في ملاحظة أولية، يمكن رصد مقولات الخطاب عند الوهراني على هذا النحو:

رسم بياني

تتجاذب هذه التوزيعة الثلاثية سلطة الانتقاء لآليات الكتابة السلفية، حيث يلمس القارئ توظيف الناص لأدوات الأداء التقليدي كاعتماد نظام الفواصل، وتقصي محسنات القول، وتعزيز المعنى بالاقتباس القرآني، مع اصطناع السرد كبنية شمولية تتساوق ضمنها المكونات المؤسسة لهذا الخطاب، وعلى رأسها الكلمات الآخذة بتلابيب التشكيل الأدبي الذي يهيمن على كتابات محمد بن محرز الوهراني، باعتبار أن "العمل الأدبي تصنعه الكلمات"[13] وذلك حين ينزاح بها منشئها عن مسارها المعجمي، إلى مسار دلالي تأويلي، تستقيم معه كل الرهانات المعنوية الممكنة، وربما المستبعدة، يختار الوهراني سلسلة كلمات مثل:

رسم بياني

فتتضح تلك المزاوجة بين الحمولة المعنوية، والمقصدية الفنية، وتسير الدلالة نحو الإشعار بنفاذ صبر الكاتب تجاه وضع معين، والإعلان عن النية الجادة في الانفلات من قبضة جو معتم، قد تكون العتمة فيه وليدة تشابك علائقي، أساسه القهر الإنساني الذي، غالبا، ما يكون وراء نفاد الصبر، وبالتالي نشدان الانطلاق إلى فضاءات مغايرة، من شأنها توفير حياة جديدة، لا أقول مثالية، ولكن حياة أضأل قهرا، وأقل غبْنا. وتلك، لعمري، طموحات مشروعة، يشرئب إليها الفرد حتى وإن لم تسلم في بعض الأحيان من تسلل تدخلات المجموع، وما تنطوي عليه من كدر ونغص.

وإذا كانت هذه السلسلة من الكلمات التي بُني عليها المقتطف، مشحونة بغُصّة القهر، موسومة بالتدبير العقلاني للمغادرة، فإنها وفي نفس الوقت مَدْعاةٌ إلى الفحْص الفنّي، إن صحّ القول، إذْ لم يغفل صاحبها تلك المسحة الجمالية المطلوبة، بل حرص على تلوينها بنغمة إيقاعية إن على مستوى الحروف أو على مستوى الصيغ، وكلاهما يَصُبُّ في وعاء التفاعل اللغوي المُؤسّسِ على التنضيدية المهيمنة لِحَرْفيْ: الباء (مآربي، مغاربي، غاربي) ثم الرّاء (الضر، المر) فمن دلالات حرف الباء: الاتساع والامتلاء، ومن دلالات حرف الراء: الفزع والخوف، فيكون الربط بينهما وبين الحالة النفسية للكتاب واضحا، مناسبا: امتلأت نفسه قهرا، واتسع عنده الشعور بالاضطراب، فتولد عن ذلك الإحساس بالخوف والفزع، وراح يضرب في الأرض قاصدا بغداد بعد أن أعياه طرق الأبواب، واستجداء ذوي المناصب، ألمْ يُصرِّحْ فيما بعد:

"فما مررتُ بأمير إلا حللت ساحته أتمطر راحته، ولا وزيرا إلا قرعت بابه، وطلبت ثوابه، ولا بقاض إلا أخذت سيبه، وأفرغت جيبه"[14].

إنها نفثة صدر مكلوم، وخاطر مهموم، يُغَلفُها قناع اليقين بجدارة الذات الحاكية، (ذات الكاتب) وبِحتْمية الاستجابة لها وتلبية احتياجاتها وفي هذا ما فيه من الإحساس، ربما، بالتعويض عن تلك العلة التي استدعت مغادرة الديار، والجنوح إلى الأسفار.

يحُط الوهراني الرحال ببغداد، فيجري قلمه في وصفها، وينقلها عبر الحرف مشهدا رائقا، تهفو إليه القلوب، وتتوق إلى رؤيته الأبصار، كيف لا؟ وبغداد جنة على الأرض بشهادة جامع الشبه بينها وبين الجنة السماوية.

إنها الاحتفالية المختزلة بطبيعة بغداد وساكنيها، الذين سيختار الوهراني واحدا منهم ويخوض معه الكلام في جلسة، يثريها الحوار وتتنوع فيها الأخبار. وسأقتصر على خبر بداية الجلسة. يروي الوهراني خبر جلسته مع الشيخ أبي المعالي في الدكان، فيقول:

"... حتى جلست عنده. فحين نظر إلي، ورأى أثر السفر علي، بدأني بالسلام، وبسطني بالكلام، وقال: من أي البلاد خرجت؟ وعن أيها درجت؟ فقلت من المغرب الأقصى، والأمد الذي لا يحصى، ومن البلد الذي لا تصل إليه الشمس حتى تكل أفلاكها، وتضج أملاكها، ولا القمر حتى يتمزق سرجه، ويتداعى برجه، ولا الرياح حتى يحجم إقدامها، وتحفى أقدامها، قال: كيف معرفتك بدهرك، ومن تركته وراء ظهرك؟ فقلت: أما البلاد فقد دستها وجستها، وأما الملوك فقد لقيت كبارها وحفظت أخبارها، وقد كتبت في ذلك مجلدا وتركت ذكرهم فيه مخلدا. فأي الدول تجهل؟ وعن أيها تسأل؟ فقال: أول ما أسألك عن دولة الملثمين وأبناء أمير المسلمين، فقلت هيهات، يا بُعْدَ من مات خمدت نارهم، وبادت آثارهم، واسْوَدّ نادِيهم، ومَلكَتْهُمْ أعادِيهِم:

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم = = بعد الممات جمال الكتب والسير

أفِلتْ بُدورُها، فتعطلـــــت صدورهـــــا = = وطلعت نحوسها، فغابت شموسها

أمست خلاءً، وأمسى أهلها احتمــــــــوا = = أخْنَى عليْها الذي أخْنَى على لُبَدِ[15]

يتموقع هذا المقتطف بين بِنْيتيْ: الوصف والإخبار، ويمتطي صاحبه صهوة لغة عصره، فيُحَلّقُ في أجواء من الكثافة التعبيرية في شكل مساءلة موزعة على محورين: محور الاستبدال؛ ومحور التوازنات الصوتية. والمحوران يُطَعِّمان النص بتشكيلٍ مُتميز، لا يمكن تجاهل انتظامه، ولا التغاضي عن مُؤهِّلاتِ أدبيته.

من محور الاستبدال مثلا، أنتقي عبارة: "ولا الرياح حتى يحجم إقدامها، وتحْفى أقدامها" إذ يظهر التشكيل الاستعاري المعتمد في بنية الألفاظ المستعملة والدالة على طبيعة العلاقة بين المستعار، والمستعار له في قالب تصويري، يساهم الخيال في بنْينَته، لقد نسب الكاتب أفعالا إلى الرياح باعتبارها صدارة الشّخْصَنة والتّجسيم، فإذا بها وهي العنصر الطبيعي المشاكس، إن صح القول، لا تصل المغرب الأقصى حتى تستكين، واستكانتها وليدة تقهقر عُتوّها، وكأنها تفقد بين المحطة والمحطة قوتها بالتدريج، حتى إذا وصلت، حدث عندها ما يعمق معنى الشّخْصَنة والتّجْسيم: يحجم إقدامها/تحفى أقدامها.

إن صورة الإحجام عن الإقدام، كصورة أولى، تنتقل بالدلالة من المعنى العادي إلى المعنى المتخيل، يمنح الرياح خصائص كائن حي، أنهكته الانطلاقة، لأنه استثمر فيها كل جهده، ولم يحسن توزيع هذا الجهد على المراحل المتبقية للوصول إلى نقطة الهدف المنشود، فتسلل إليه الضعف، وانقلب حماسه إلى إحجام، وإقباله إلى نكوص.

وقد تكون هذه الصورة إنما أنشئت للدلالة المؤكدة على بعد المسافة بين المشرق والمغرب الأقصى وعلى تحمل الكاتب مشاق التنقل إلى بغداد وكأني به ينقل معاناته، واشتداد الأمر عليه، ويسبغهما على الرياح، وهو ما يسمح بخلق نوع من التوحد بيْنه وبيْن أحد العناصر الطبيعية المعروفة بقلب الأجواء، وتسليط الاضطراب، وخلخلة الاستقرار. إنه الوجه الجامع بين ما يتولد عن التنقل وبين ما يتولد عن حركة الرياح، وتلك هي الصورة الثانية التي ستأخذ برقاب صورة مكملة حين يقول الكاتب عن الرياح: "وتحفى أقدامها"، إذ بهذه الصورة، تتعزز دلالة الإنهاك واشتداد الأمر على طالب الوصول إلى هدف معين حين يشمر عن ساعد الجد، ويخوض غمار الكدح، وتتقاذفه الصعاب، وتدحرجه الهزات إلى أن يصل وقد نفد ما عنده، وحفيت قدماه، وخارت قواه، بعدما كانت عاتية مجلجلة تمتلك مؤهلات الإقدام قبل بأن تحفى الأقدام.

أخلص إلى أن الوهراني أجرى نشاطا استعاريا، وظف من خلاله عنصر الاستبدال كطريقة صوغ جمالية تنبئ عن ارتباط العلاقة بفعالية السياق، حيث يبرز نوع من التناسب المنطقي بين فعل تنقل المسافر من مكان إلى مكان بعيد داخل زمن معين، وبين ما ينجر عن ذلك من تذبذبات وانزلاقات، تقلب وضع الاستقرار، وتحيله إلى وضع من الاضطراب والمناوشة، إن صح القول، خاصة إذا كان هذا التنقل خاضعا لشروط تنقلات القرن السادس هجري (استعمال الدابة كوسيلة مواصلات معتمدة) وتلك، لعمري، إحدى مواصفات الاستعارة المقبولة في نقدنا العربي القديم، ألم يقول ابن رشيق: "وخير الاستعارة ما بعد وعلم في أول وهلة أنه مستعار، فلم يدخله لبس"[16].

فعلا من أين يأتي اللبس إذا جمعنا بين صورة اضطراب المتنقل وبين صورة اضطراب الطبيعة في شكل رياح؟ كلاهما يغادر من محطة إلى أخرى، كلاهما يجعل (الحركة) ديْدنه، كلاهما انطلاقته قوية، وتوقفه دلالة تعب وفقدان لقابلية المضي. إنه السكون الذي يعقب الحركة، والاستقرار الذي يعقب الاضطراب، وبعبارة مختزلة، إنها تجليات الدورة الحتمية لثنائية البدء والختم لمختلف المجسمات الكونية.

ومن التوازنات الصوتية، الضاربة في أعماق النغمية، أنتقي قول الكاتب في الحديث عن دولة المرابطين (الملثمين): "خمدت نارهم، وبادت آثارهم، واسود ناديهم، ملكتهم أعاديهم" ولإبراز النغمية في هذه الفواصل، قد يجدر توضيحها في الترسيمة الآتية:

رسم بياني

هذا التوزيع المُبنْينُ على التوَازُنيْن الصوتي والكمّي، ساهم في تشكيل إيقاعي داخلي منتظم، ينبئ عن نية جمالية مشرئبة إلى عرضٍ موسيقي باعتبار أن "الموسيقى في العمل الأدبي، شعرا كان أم نثرا، ليست عنصرا ثانويا، بل هي من عناصره الجوهرية التي لا تكتمل أدبيته من دونها"[17].

ولعله يمكن القول وبعد محاولة القراءة لهذا النموذج من كتابات (الوهراني) أن الرجل حافظ على ذوق عصره، وبنى طقوسه التعبيرية على نسيج لغوي منسجم؛ يجمع بين تصوير المتخيل وعرضه في قالب فني، مُؤسَّس على المُعاودة الإيقاعية والتي يُمَظهرُها نظام الفواصل، وتكرار الحروف كالراء (نارهم/آثارهم) وكإبدال (نايهم/أعاديهم) عِلْماً بأن "جبروت الحرف يذهب بعيدا، وبسبب طغيانه (...) فإنه يؤثر في اللغة ويبدلها، وهذا لا يحدث إلا في اللغة الأدبية المتألقة"[18]، التي تعتمد أسلوبا منمقا مختلفا عن الأسلوب العادي، منفلتا من المعيار إلى فضاء الوظيفة الجمالية الخاضعة لقانون انتهاك المألوف وإسقاط خصائص المحسوس على خصائص المجرد في تلوينات أدائية دالة على دربة ومران عند منشئها.

= = = = =

الإحالات

[1] محمد بن ميمون الجزائري، التحفة المرضية تقديم وتحقيق الدكتور محمد بن عبد الكريم الجزائري، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الجزائر، 1972، ص 121 (المقامة الثانية).

[2] المصدر السابق، ص 114.

[3] أبو القاسم سعد الله، أشعار جزائرية، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1988، ص 65.

[4] المرجع السابق، ص 40.

[5] المرجع السابق، ص 20 -21.

[6] محمد الطمار، تاريخ الأدب الجزائري، ص 312، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981.

[7] المرجع السابق، الصفحة نفسها.

[8] أبو القاسم سعد الله، أشعار جزائرية، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1988، ص 139.

[9] المرجع السابق، ص 132.

[10] أبو القاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي من القرن 10 إلى القرن 14 ج1/482، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1988، ص 139.

[11] أبو القاسم محمد الحفناوي، تعريف الخلف برجال السلف، 2/343 موفم للنشر، 1991.

[12] الوهراني، مناماته ومقاماته ورسائله، ص 1-2، تحقيق إبراهيم شعلان، محمد نغش مراجعة عبد العزيز الأهواني، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1968.

[13] تودورف، الشعرية، ص 38، ترجمة شكري المبخوت ورجاء سلامة، الدار البيضاء، المغرب 1987.

[14] الوهراني، مناماته ومقاماته ورسائله، ص 1.

[15] المصدر السابق، ص 2.

[16] ابن رشيق المسيلي القيرواني، العمدة في صناعة الشعر ونقده، 1/270 تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية، القاهرة، 1955.

[17] عبد القادر هني، نظرية الإبداع في النقد العربي القديم، ص 220-222، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1999.

[18] فرديناند دي سوسير، محاضرات في الألسنية العامة، ترجمة يوسف غازي ومجيد النصر، ص 47، المؤسسة الجزائرية للطباعة، 1986.

D 25 آب (أغسطس) 2015     A شميسة غربي     C 0 تعليقات