عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عمر الخواجا - الأردن

ليلٌ آخر


كانت تنتظره -كما توقع- على الباب وعلامات الاستفهام ترتسم على وجهها الحزين:
"أخبرني. قل لي، بربك، هل هو فارس؟ لماذا تصمت؟ أجبني بسرعة. لا تكن قاسياً. لقد قتلني الانتظار وصمتك سوف يميتني، لماذا لا تتحدث؟ قل شيئاً!"

وقف عاجزاً أمام سيل الأسئلة المنهمر من فم زوجته. يدور في خلده سؤال واحد فقط: ماذا يخبرها؟ بماذا يجيب عن سؤالها الملح: بنعم أم لا؟

عندما رن هاتفه شعر بانقباض مفاجئ في صدره. حدس غريب أشعره أنَّ للأمر علاقة بفارس. فتح هاتفه النقال وهو يرتجف من الخوف، حيث أتاه السؤال من الطرف الآخر:
"هل أنت والد فارس؟"

لم يستطع الوقوف بل تكوّم سريعاً على أقرب مقعد قائلاً بصوت مخنوق: "نعم أنا هو."

في الطريق إلى المستشفى الحكوميّ ردّد كثيراً من الأدعية راجياً الله ألا تكون جثة الميت لطفله الحبيب فارس. يحاول أنْ يتذكّر بالضبط منذ متى اختفى. هل هي تسعة أيام أم تسعة شهور يخالها تسع سنين فهو يرى فارساً أمامه وكأنّه لم يفارقه سوى بضع دقائق.

لقد توقف الزمن لديه منذ تلك الجمعة الحزينة حين كان يشاهد التلفاز في صبيحة يوم العطلة الأسبوعيّ ممدّداً وهو يشعر بخدر لذيذ يسري داخل أوصاله المتعبة، فهو يستحق بعد أسبوع شاق من العمل المتواصل أنْ يرتاح ليوم واحد دون أنْ يخرج من البيت. سمع صوت الباب يُغلق فاستفسر من زوجته:

"من الذي خرج من البيت؟"

أجابته زوجته من داخل المطبخ: "لقد أرسلت فارساً كي يشتري لي بعض الحاجيات فأنت لا تملّ متابعة الأخبار ولم أرد أن أزعجك."

حمد الله كثيراً أنّ لديه زوجة ذكية تحرص على راحته في يوم عطلته الوحيد وتابع مشاهدة البرنامج الإخباري بتركيز كبير.

مرت ساعة كاملة ولم يعد فارس. بدأ يشعر بالقلق لتأخر ابنه الوحيد عن العودة. سأل زوجته : "لقد بدأت أقلق. لماذا تأخر فارس؟"

ولكن زوجته حاولت تهدئة روعه بقولها:
"سوف يعود. لا بد أنّه التقى أحد أصدقائه وانشغلا قليلاً في اللعب."

حاول أن يبعد أفكار السوء عن مخيلته متابعاً نشرة الأخبار ولكنه لم يستطع التركيز كالسابق فانتفض قائلاً:

"سأذهب للبحث عنه."

خرج من منزله باحثاً في الشارع الفرعيّ الممتد لغاية البقالة الصغيرة حيث سأل صاحبها الذي يعرفه ويعرف ابنه، ولكنه أخبره أنه لم ير فارساً، فازداد توتره وغضبه.

سار في الشارع هائما جيئة وذهابا عشرات المرات دون جدوى، والمارّون ينظرون نحوه باستغراب. عاد للبيت كالمجنون متسائلاً وقد هدّه التعب: "هل عاد فارس؟"

لم تجبه سوى علامات الخوف والحزن المرتسمة على محيا زوجته.

سارع للاستفسار من جيرانه وأصدقائه ومعارفه دون نتيجة طالباً النصح والإرشاد، أبلغ مركز الشرطة القريب وأقاربه البعيدين منهم والقريبين متمنياً أن يكون لديهم ما يهدئ روعه ويعيد إليه رشده.

في تلك الليلة الأولى حيث حلّ الليل دونْ أن يكون فارس معه في البيت شعر أنّ روحه ما عادت بين أضلاعه، خراب وهياكل سوداء تتراءى أمام عينيه وزوجته التي لم تغلق جفونها بتاتا تبكي بصوت مرتفع.

لم يستطع أنْ يمنع نفسه من التطواف ليلاً مرات كثيرة، ليس في الشارع القريب من منزله بل في معظم شوارع المدينة التي لا تهدأ والمليئة بالأصوات العالية وخطوات المارة.

طفل مفقود مع صورة لفارس الصغير وأوصاف ملابسه نشرتها الصحف اليومية باهتمام بالغ ومتابعة كافة المسؤولين المعنيين.

يوم آخر مرّ عليه دون فارس، يوم مليء بالحزن والبكاء والترقب، ليل آخر حلّ دون ان يحتضن ابنه العزيز.

وهكذا تتابعت الأيام وهو يسرع وراء أي أمل مهما كان بسيطاً، شدّه كثيراً اهتمام كافة المسؤولين بالحدث ومتابعة وسائل الإعلام المختلفة لاختفاء ابنه مما أعطاه شيئاً من الأمل الذي بدأ يخبو مع مرور الوقت وانتقال مركز الحدث والاهتمام الشعبي لأمور أخرى.

وهكذا استمرت ليالي العذاب باختفاء نجله الوحيد الذي رزق به بعد أن استجاب الله لصلواته وأدعية زوجته بنجاح عملية التلقيح الصناعيّ التي لن يفكر أبداً أن يكررها مرة أخرى، فهو لن يُسلم بفقدان فارس ولن يترك اليأس يتسرب لقلبه المريض، فأهون عليه أن يجاهر بعجزه من أنْ يقرّ بأنه لن يرى فارساً مرة أخرى، فهو بالنسبة له ليس مجرد ابن يمنحه عاطفة الأبوة بل فارس الذي ما شعر يوماً أنّ أحداً يمكن أن يحلّ مكانه أو يأخذ جزءاَ من محبته له.

يقف على باب ردهة واسعة في المستشفى الحكوميّ محدقاً في وجوه الآباء والأمهات الذين فقدوا أبناءهم والذين ينتظرون دورهم في الدخول لإلقاء نظرة الحزن على جثة يتمنى كل واحدٍ منهم ألا تكون لابنه، وكلما خرج أحدهم تعلقت أبصارهم به على أمل أن يتعرّف على الجثة ويريحهم من عذاب الحزن والألم والانتظار.

لم يعرف كيف قادته خطواته الثقيلة نحو الجثة المسجاة وسط القاعة المستطيلة. حدّق بذهول وفزع محاولاً أنْ يشد قدميه المرتجفتين.

شاهد جثة مختلطة الملامح. أبعد نظره عن الوجه المهشم وقد غابت ملامحه ولكن صورة السن الأماميّة المكسورة في فم الجثة الممزقة لم تفارق مخيلته.

خرج غائباَ عن الوعي غير قادر على إدراك ما حوله ونظرات الآباء مسمرة عليه عله ينقذهم ويريحهم من مأساتهم.

أفاق من تأملاته على صوت زوجته وهي تعيد سؤالها المفزع: "هل هو فارس؟"
ألقى بجسده خائر القوى ناظرا باتجاه صورة لطفله الحبيب وفمه الصغير يفتر عن ابتسامة رائعة.

وقبل ان ينفجر في نوبة بكاء شديد، لملم شجاعته كي يجيب عن سؤال زوجته، محدقاً في صورة فارس، مدققا في ابتسامته الجميلة وهي تظهر سنا أماميّة صغيرة مكسورة.

D 25 تموز (يوليو) 2011     A عمر الخواجا     C 3 تعليقات

3 مشاركة منتدى

  • ليل آخر
    ذهب حيث ذهبوا ، راح زمن الفرسان و رحل الليل ليحل محله النيون ، لاليل آخر كليل دافيء على ضوء شمعة و لافارس آخر ، بسيف ذهبي او بس مكسورة . كلهم غضبوا منا و رحلوا عنا .


  • إبداع يتجدد للدكتور عمر الخواجا ... قصة واقعية حزينة تحدث في غير مكان. وأظن أن اختفاء الطفل الأردني ورد قبل أكثر من ثلاث سنوات هي مصدر إلهام الخواجا لإبداع هذه القصة.

    الأمل بأن يعود الطفل المختفي إلى أهله وحضن أمه يبقى مشوباً بالانتظار والترقب والقلق الذي يحز في القلب كلما تطاول الوقت ... وعندما يأتي الخبر الصدمة بموت الأمل والتأكد من أن لا عودة للغائب يغوص النصل غائراً في القلب، ولكنها طعنة معجونة بالراحة لأن اليأس في معظم الأحيان راحة.


  • فظيعه تلك الحوادث التي تحصل لأطفال صغار لاذنب لهم، والأفظع مايختلج في صدور ذويهم من أمل مؤلم، ورغبة باللقاء...
    أشكرك أخي المبدع


في العدد نفسه

فريدة بن موسى: ماجستير

تأنيث السرد: حوار ناقدين

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 62: أدوار الصحافة: الحاجة إلى اليقظة

كهنة الشعر : عبد القادر الجنابي