عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » عود الند: العدد الفصلي 34: خريف 2024 » كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية

عدلي الهواري

كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية


د. عدلي الهواري ناشر مجلة عود الندالإنسان كائن اجتماعي. مهما علت درجة الفردانية في أي مجتمع، لا يمكن لفرد أن يحقق نمطا معيشيا لا يحتاج فيه لأحد، فأي إنسان بحاجة إلى التفاعل مع الناس في سياقات عديدة: شراء الطعام والشراب؛ الحصول على تعليم؛ العمل من أجل الحصول على دخل؛ الحصول على رعاية طبية في حال المرض؛ الأمثلة كثيرة على أن الفردانية لا تغني أحدا عن التفاعل مع الآخرين.

إذا حصل حريق في عمارة تسكن فيها، أو في بيت قريب منك، لا يمكنك أن تقول "الأمر لا يعنيني" فاحتمال انتقال الحريق إلى بيتك وارد. وإذا لم ينتقل، من المحتمل كثيرا أن يكون للحريق تأثير ما يضرك، مثل انبعاث غازات سامة يمكن أن تودي بحياتك.

في سياق الفن، قد تكون من محبي الأفلام السينمائية، أو المسلسلات التلفزيونية، ويكون لديك شخصية فنية مفضلة. عندما يذاع نبأ رحيلها عن عالمنا، يصاب كثير من المعجبين بالحزن مع أن هذه الشخصية ليست أخا أو أختا أو ذا صلة قرابة قوية أو بعيدة.

عندما يصاب أهالي بلد ما بنكبة طبيعية، زلزال مثلا، يسارع الناس إلى التبرع للجمعيات الخيرية، وتسارع الدول الأخرى إلى تقديم مساعدة عاجلة تشمل البحث عن الناجين وإخراجهم من تحت الأنقاض. لذا في حالة كهذه الأولوية هي لمساعدة محددة تركز على إزاحة الركام وإخراج من تحته من الناجين قبل فوات الأوان.

ما هو الخيط الذي يربط الأمثلة أعلاه؟ هو أن الأفراد والجماعات لا يمكن أن يتنصلوا تماما من الحافز الإنساني والواجب الأخلاقي تجاه ما يجري في مكان آخر، قريب أو بعيد.

الدول الاستعمارية هيمنت على أكبر مساحة ممكنة من العالم لنهب الثروات الطبيعية من معادن ونفط وخلافه، وفعلت ذلك باسم المصلحة. ومن يملك ثروة تريدها دول العالم القوية سيجد أن هذه الدول لن تتردد في التهديد باحتلال المنطقة ذات الثروة المطلوبة.

وإذا أخذنا "المصلحة" مقياسا للعلاقات بين الدول، سنجد أن تعريف المصلحة ليس خاضعا لحكم منطقي موضوعي. قد يستغرب المراقب لماذا العلاقة بين البلدين الفلاني والعلاني متينة، ومتوترة أو ضعيفة بين بلدين آخرين. سنجد عند التحليل أن أسس هذه المصلحة أو مبرراتها غير مقنعة في كل الحالات. ولكن "المصلحة" مبرر لا يكف السياسيون عن تكراره في حال وجود مصلحة حقيقية أو مزعومة.

بعد عذر المصلحة، نجد هذه الأيام كثرة في استخدام عذر الانعزال: "لا علاقة لنا بما يجري هناك". هكذا يلجأ إعلاميون وغيرهم ومسؤولون إلى تبرير التنصل من واجبات سياسية وأخلاقية.

ويحلو للبعض تصوير المصلحة والانعزالية كحنكة سياسية وقيادية، إلا أنهما في الحقيقة عذران أقبح من ذنب. بلد غربي ما قد يقرر أن النحاس معدن مهم، ومصلحته تكمن في الحصول عليه، فيحتل بلدا يتوفر فيه النحاس، وينقب عن هذا المعدن ويشحنه إلى بلده. هكذا يحقق الناهب مصلحته، ولكن على حساب مصلحة البلد صاحب الثروة الطبيعية. يتقدم البلد الناهب ويزيد ثراؤه، أما البلد صاحب الثروة فيزداد فقرا وتخلفا.

الولايات المتحدة على سبيل المثال تدخلت في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهي يفصلها عن أوروبا محيط واسع. بذلت بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية جهودا إضافية لإقناع الولايات المتحدة بالتدخل، لأن تيار العزلة في الولايات المتحدة كان قويا. ولكن تدريجيا، نجح الرئيس روزفلت بإقناع الشعب بوجاهة التدخل المباشر.

عندما فُرضت العقوبات الاقتصادية الصارمة على العراق بعد غزو الكويت عام 1990، كان لهذه العقوبات ثمن إنساني باهظ تحدثت عنه يونيسكو. لكن وزيرة الخارجية الأميركية، مادلين أولبرايت، اعتبرت هذا الثمن مبررا. نفس البلد الذي برر الآثار المدمرة للعقوبات سوّغ لنفسه بعد سنوات التدخل العسكري في دول أخرى بذريعة إنسانية. وهكذا تم التدخل في يوغوسلافيا والعراق.

مستخدمو عذريْ المصلحة والانعزال يمكن تصنيفهم في فئتين: إما أنهم يعيشون في وهم، أو أنهم يموّهون على الافتقار للشجاعة الأخلاقية والسياسية والإنسانية لعمل شيء لصالح مجموعة من البشر قد يكونون في منطقة مجاورة أو بعيدة.

أعود إلى نقطة المصلحة. لا يعقل أن تكون مبررات إقامة علاقات حسنة مع إسرائيل أقوى من مبررات علاقات حسنة بين الدول العربية. منطقيا، تحوّل العالم العربي إلى منطقة اقتصادية واحدة تتمتع بحرية حركة الأفراد والموارد، كما في حالة الاتحاد الأوروبي، مسألة تعود بالفائدة على عموم الدول العربية وشعوبها. لذا لا منطق ومصلحة حقيقية تتحقق عند التخلي عن تحقيق مصلحة أوسع لصالح إقامة علاقة حسنة مع دولة واحدة لمجرد أنها قوية عسكريا، ولديها بعض التقدم التكنولوجي الذي لا يتمتع بسمعة حسنة، فأغراضه تركز على أدوات القتل، والتجسس حتى على هواتف الأفراد.

البعض في بريطانيا روج لفكرة خروجها من الاتحاد الأوروبي، وكثرت المزاعم أن الخروج سيعود بالفائدة على الشعب والدولة. وبدل السوق المفتوحة لبريطانيا في عموم أوروبا، قيل إن البديل الأفضل سيكون فتح أسواق من خلال اتفاقيات ثنائية مع دول بعيدة مثل أستراليا وكندا والولايات المتحدة. وبعد أن وافقت أغلبية ضئيلة على فكرة الخروج في الاستفتاء على ذلك، سرعان ما فرض الواقع نفسه على الأوضاع في بريطانيا، وكان من تأثيراته الملموسة ارتفاع أسعار كل شيء، بما في ذلك المواد الغذائية الأساسية، وارتفاع أسعار الطاقة. وصارت كلفة الكهرباء والغاز خارج قدرات أصحاب الدخل المحدود.

وبعد أن كان دخول المواطن البريطاني إلى أي بلد عضو في الاتحاد الأوروبي يتم دون تأشيرة، وبالمرور من مسار خاص لمواطني الاتحاد الأوروبي، سيتعين على المواطن البريطاني قريبا الحصول على تأشيرة، وسيقف في طابور الأجانب لختم جواز سفره عند الدخول والخروج.

نستنج من المثال المتعلق ببريطانيا أن تحديد المصلحة ليس منزها عن الوقوع في الخطأ، وللعزلة ثمن ملموس يمكن أن ينقل المزيد من الناس إلى حالة الفقر.

الآن حان وقت تطبيق ما شرحت أعلاه على ما يجري في المنطقة العربية، وخاصة ما يتعلق بحرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل في غزة، بتلخيص استنتاجات.

أولا: ما يجري في غزة يعنيك كفرد وكشعب ودولة. عندما سارعت إلى تقديم تبرعات أو مساعدات لتركيا وقت ضربها الزلازل، لا يعقل أن تعتبر أن حرب الإبادة أمر لا يعنيك.

ثانيا: أن عذر "المصلحة" يستدعي أن ترى المصلحة الحقيقة بعيدة المدى، لا مصلحة موهومة تفرضها اعتبارات سياسية ضيقة متأثرة بتبعية في العلاقات مع الدول القوية في العالم.

ثالثا: إن عذر "الانعزال" أسوأ من عذر المصلحة، واللجوء إليه دافعه تبرير التقاعس عن اتخاذ موقف شجاع. لكل دولة عربية مبررات تعطيها حق القيام بأعمال بدل تصريحات الاستنكار والإدانة. أحقا أقصى ما يطمح إليه الإنسان هو أن يأكل ويشرب وينام وأن يقضي حياته في تحسين وضعه المعيشي أو يحافظ عليه؟

في بلدك لو ضايقك سائق آخر في الشارع، من المحتمل أن تنزل من سيارتك وتخوض معركة مع السائق الآخر. أيعقل ألا تضايقك حرب إبادة متلفزة؟

منحت الدول الغربية نفسها حق "التدخل الإنساني" في يوغوسلافيا والعراق. أما عندما نشأت حاجة ماسة لتدخل يوقف حرب الإبادة، اتسع هامش الحريات الضيق في الدول العربية لتعلو أصوات من يقولون "ما يجري هناك لا يعنينا"؟ المنطق يقول إن الأصوات التي يتوقع لها أن تعلو هي المطالبة بالتدخل لوقف الإبادة. التدخل لوقف الإبادة موقف مشرف، والتأخر فيه عار لحق الدول الغربية في مرحلة الحرب العالمية الثانية.

D 28 آب (أغسطس) 2024     A عدلي الهواري     C 0 تعليقات