عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

جميل حمادة - فلسطين

المتلقي والثقافة البصرية

المتلقي بين الانبهار والتشجيع


جميل حمادةالتكعيبية بين البدائية العفوية والمعاصرة:

ثمة رأي فني معروف ملخصه أن الفن التشكيلي فن نسبي. ترى إلى أي مدى تصدق هذه المقولة؟ وهل يبرر وجود هذه المقولة الناموس الكوني في أن كل شيء في العالم هو نسبي، وأن الكمال مطلق غير مدرك. قد يكون ذلك مبررا مقنعا، ولكن قد تلغي هذه المقولة البحث عن أسس صميمية في الفن التشكيلي وأشكال الإبداع بشكل عام، أي بمعنى أننا سوف لا نضطر للبحث عن الأصول والغوص في الأعماق، واستكشاف البدايات ونكتفي بفن ثابت غير متطور يحفظ للفنان لقبه فحسب ويسجنه داخل إطار أحادي اللوحة ذات الشكل واللون والأبعاد المعتادة، على نحو يعزلها عن حتمية التطور في الأشياء. كما أنه يضع الجمالية التشكيلية اللونية ضمن مفاهيم محددة بعيدا عن أشكالها المتباينة ومدارسها المتعددة واختلاف الذائقة البصرية من مكان لآخر ومن عصر لآخر.

لا أشك في نسبية الفن التشكيلي وغيره. ولا أبني هذا الجزم على الممارسة الفنية البصرية، بقدر ما أحيله إلى إحساس المتلقي ذي الذائقة البصرية الناضجة، بأن اللوحة التشكيلية تؤلف مجموعة مشاعر متداخلة ومتشابكة من إحساس الفنان وأحلامه بقدر ما تشكل، من وجهة نظر شخصية، مجموعة مشاعر المتلقي وإحساسه بالمتعة الباهرة ومواطن الجمالية السامية في متون الأثر الإبداعي التشكيلي. أردت من ذلك التوصل إلى ضرورة العودة قليلا إلى المشاعر البدائية، أي بمعنى ما، إلى عفوية الإحساس بجماليات الموجودات والأشياء.

يقول الناقد الفرنسي أندريه سالمون عن بيكاسو، فنان التكعيبية الشهير الذي قال "إنه تأمل كثيرا في الهندسة" إنه عندما اختار الفنانين البدائيين مرشدين له، لم يكن غافلا عن همجيتهم. لقد قاده منطقه فقط إلى الاعتقاد بأن هدف هؤلاء كان تمثيل الكائن البشري تمثيلا أصيلا وليس تجسيد فكرة غالبا ما تكون عاطفية".

ويقول سالمون أيضا مؤكدا على "حقيقة" قد تبدو غريبة لنا، وهي "أن أولئك الذين يرون في أعمال بيكاسو علامات السحر والرمزية والتصوف معرضون لخطر كبير يتمثل في عدم فهمهم لتلك الأعمال على الإطلاق. إنه يحاول أن يعطينا مثالا كاملا للإنسان والأشياء".

وهنا نحيل المتلقي إلى أهمية فنوننا البدائية الأولى وبساطتها وجماليتها، ويدعونا ذلك، انطلاقا من الكثير من النظريات التي رأت أهمية تلك الفنون وعظمة حضارتها، أن نطالب فنانينا بضرورة التعويل ولو جزئيا على أهمية الأسس البدائية للفن في صدقه وجماليته، انطلاقا من حضاراتنا العريقة التي رسم فيها إنساننا الأول أحلامه وفنونه وحفر نقوشه وأيائله وحكاياته على جدران الكهوف، مستخدما إحساسه الفطري وذائقته العفوية السامية في تلبية أحلامه وإثبات قدرته الحسية والفكرية العميقة.

لقد ساهم هذا الفنان البدائي في خلود وتميز العديد من مظاهر الحضارة العربية مما حملها لنا عبر الأزمان لكي تصبح في وقت ما مراجع وأحاديث وحكايات العالم المعاصر.

ثنائية الفن والتطور:

يقول الفرنسي روجيه آلار في معرض حديثه عن "ثنائية" الفن والتطور، ضمن طرح مجموعة من مشاهير الفنانين مثل سيزان وغويا وبيكاسو ولوفوكونيه إنه "ليس هناك من مراقب مهتم ومحايد يمكن أن يشك في أن من بين الفنون كلها يحتل الرسم النقطة الأكثر تقدما على الانعطافة المثالية للتطور. وفي الحقيقة، فإن عددا من كبار الفنانين في كل مكان، والذين لا تدوم قوانينهم الفنية طويلا، قد تجاوزوا تأملات الفلاسفة وكلمات الشعراء من خلال سحر بضع بقع لونية".

وأريد هنا أن أطرح سؤالا ليس على النحو الذي طرحه جان متزنغر حين قال: "هل توجد هناك أي أعمال فنية حديثة سواء في الرسم أو النحت لا تخضع سرا إلى الإيقاع اليوناني". لماذا؟ لأننا لا نعرف أن الغرب قد أحال كل أسسه حضارته إلى الهيلنستية الإغريقية.

ونحن لسنا مضطرين إلى مثل تلك الإحالة لأننا لم ننتم لها بمعنى ما. ولكن سؤالنا محال إلى حضاراتنا البدائية، لذلك يكون السؤال كما يلي: هل توجد لدينا أعمال رسم أو نحت فنية تنتمي إلى أصول حضارتنا العربية التي ورثناها من الكهوف والجبال وحضارات ضفاف الأنهار وشواطئ المدن العربية العريقة؟ وهل استمر ولاؤنا لهذه الأصالة أم اختلط أم تشوه أم انسلخ كثيرا عنها؟

من هنا ينبغي أن نبدأ، ومن منظومة تفكيك هذا السؤال الذي أزعم بأنه شمولي، ينبغي أن نطرح إشكالية وطموح وآفاق الحركة التشكيلية الليبية.

هذا دفعني للتصور الشخصي في لحظة ما، بل والاعتقاد الراسخ بأن اللوحة المبدعة هي أقصر طريق لتهذيب الذائقة البصرية وارتقاء الرؤية الإبداعية.

اللوحة التشكيلية وتهذيب الذائقة:

كان بيكاسو يستجوب الكون بحدة، ويطرح أسئلته الصعبة: "لقد عود نفسه على إضاءة الأعماق، وأحيانا لم يتوان عن استخدام أشياء حقيقية، قصيدة تافهة أو طابع بريدي حقيقي أو قطعة قماش زيتي جعدت بزخرف محزز من كرسي، من غير أن يحاول إضافة أي عنصر ذي جمال خلاب إلى حقيقة هذه الأشياء".

وقبل أن تزدهر عبقريته على النحو الذي عرفت به، كان يحيا حياة رائعة، ولكنه لم يركن إلى تلك الروعة والهدوء، "بل طرح سؤاله على القادرين على امتلاك زمام الأرواح القلقة المتوهجة من ال غريكو إلى تولوز ـ لو تريك"، ثم رضي أن يقوده خياله المرتعش بالإثارة، ذلك الخيال الذي كان مزيجا من الشكسبيرية والأفلاطونية المحدثة". لقد كانت روحه وحدها هي دليل بيكاسو نحو إبداعه الكبير.

هذا هو ما نبحث عنه، فنانا يطرح أسئلة الإبداع والضوء والألوان. نريد للأسئلة أن تصعد على السطح، وأن تكون هي مجس الحركة الفنية التشكيلية والثقافية بعامة. نريد للفنان أن يكون حقيقيا يقوده خياله الثري وبساطته المدهشة نحو أسئلته وإجاباته في آن.

إن الحركة التشكيلية الليبية تزخر بعشرات الفنانين التشكيليين المبدعين، وأعني بقدر الفهم المتواضع لي كذواقة بأنهم مبدعون، وأشير خاصة إلى المعروفين منهم على الساحة الليبية، بمعنى أنهم ليسوا براعم في بداية الطريق، بل إنهم متمرسون ومنتجون على نحو ملفت للنظر.

وهذا التنوع الذي تزخر به الساحة الثقافية التشكيلية في ليبيا، يقودنا إلى استشراف وجود العديد من المدارس التشكيلية المهمة مثل الواقعية والرمزية والانطباعية والتعبيرية والتجريدية والبورتريه والاكواريل، الذي ازدهر على يد علي الزويك في فترة قريبة، والحفر على الخشب والتصوير الضوئي والرسم الساخر الذي يقود مدرسته الآن الفنان الكبير محمد الزواوي.

صحيح لم تتأصل بعض المدارس الحديثة الأخرى في الفن التشكيلي على الساحة الليبية مثل التكعيبية والسوريالية على النحو الذي ظهرت فيه في بعض العواصم العربية والأوروبية، ولكن يعود ذلك في اعتقادي إلى هيمنة الشعر والأدب العربي على غيرهما من الفنون الأخرى في معظم العصور الماضية. ولدينا في ليبيا فنانون آخرون كبار مثل علي قانة وعلي العباني وبشير حمودة والزويك والقذافي الفاخري وعمر الغرياني والتيجاني أحمد ومرعي التليسي ومحمد الغرياني والتميمي والطاهر المغربي وعلي المنتصر ويوسف افطيس وغيرهم كثير، والذين تحدثنا عنهم غير مرة في دراسات شاملة.

كما أن هنالك جيلا ناضجا ومبدع من الفنانين الشباب الذين استطاعوا إقناعنا بقدرتهم الفنية، على أننا قد حظيانا بالمتعة البصرية والذهنية من خلال لوحاتهم، وأنهم يبشرون بجيل مثقف واع، يدرك أهمية الفن في تحقيق شقه الآخر في التطور ونمو العقل والذائقة.

لقد دخلنا للعديد من المعارض في معظم المدن، في غريان والزاوية ومصراتة وبنغازي وترهونة والخمس وهون أيضا إضافة إلى طرابلس التي أعتبرها محطة تشكيلية عالمية مهمة جدا، لولا بعض التعتيم الإعلامي العالمي والإهمال المحلي أحيانا، ونعلل ذلك برؤيتنا للجمهور الذي تعج به المعارض التشكيلية وصالات الفنون ودورها في تنمية هذا الاتجاه. نرى اهتمامه وشغفه وحبه ومواظبته على متابعة فعاليات هذا الفن وأصحابه، وتشجيعه لهم أيضا.

وزرت معارض ثابتة في مدارس ثانوية ومعاهد عليا وكليات، ورأيت لوحات في محال تجارية وفي عيادات وفنادق ومستشفيات، لدرجة تدفع المتلقي إلى إمعان النظر في المشاهد المعلقة في مثل هذه الأماكن واكتشاف قدرتها على اجتذابه وشد انتباهه. وصرت معتادا على النظر أسفل اللوحة لأتعرف على صاحبها الذي عادة ما كنت أسجله في مفكرتي. ورأيت لوحات مشتركة لفنانين معا مثل القذافي الفاخري والإسكندراني، في مؤسسة تعليمية ما جعلني أقدر عاليا المسؤولين عن تكريس هذا المنحى.

الحواس وقابلية الانبهار:

لعلنا متأكدون من أن البصر أكثر قدرة على إثارة الانتباه من السمع، وما بيت بشار بن برد الذي يقول في عجزه "الأذن تعشق قبل العين أحيانا" إلا استثناء يبرره فقدان البصر. ولذلك فإن البصر أكثر قابلية للانبهار وإحالة التلقي. ولأننا، وفق هذه القاعدة نفتن بالجمال، فاللوحة هي رسول لعيوننا ولرؤيتنا، لذلك تصير اللوحة الآن ندا صارخا للكلمة في عصر البصريات والألوان، فلذلك كنت انجذب للون كما تنجذب الفراشة نحو مصباح موتها.

وهذا التلقي كان في الحقيقة نوعا من الانبهار الذي يشبه العجز. هو أداء العاجز الذي يحب، دون أن يكون قادرا على العطاء أو ممارسة هذا اللون، أي أنه يحب اللوحة ولكنه خط لا يدعي القدرة على إبداعها على تلك الدرجة من تقنية اللون وتداخله وتركيبه، ووضع كل خط في مكانه أو نسبة في فراغها أو كل ضربة في مهجعها، وإعطاء كل موضوع مدرسته التشكيلية، غامضة كانت أو رمزية أو واضحة.

قد يصل بنا السؤال هنا إلى لب الموضوع، ماذا نريد من تفعيل الحركة التشكيلية الليبية؟ وكيف نرقى بالذائقة التشكيلية كاختيار لتأسيس ثقافي يسهم في تنمية كافة مناحي الحياة الثقافية؟ إنني أعتقد بأن المسؤولية هنا تنقسم على طرفين، طرفها الأول ليس الفنان، كما قد يعتقد البعض، ولكنه المتلقي بشقيه، الأول المؤسسات الثقافية والفنية في الدولة التي من شأنها إنشاء معاهد تأصيل فنية تتبع أرقى المناهج الإبداعية في هذا الفن الرائع البديع الذي برع فيه الإنسان الليبي في لبدة وشحات وصبراتة وجبال أكاكوس والهروج وفي كهوف الصحراء وجبال الساحل. والثاني المتلقي المثقف الواعي الذي يدرك الأهمية الفنية للفنون البصرية في التأثير حتى على سلوك الفرد وتهذيب روحه وتكريس القيم الجمالية السامية.

وهنا ستكون المسؤولية على الفنان مسؤولية جزئية في أنه سيواصل فعله الثقافي الإبداعي الذي يكمله طرفي المعادلة الآخرين. وهنا لن يكون الفنان مضطرا للتعامل مع اللوحة باعتبارها مكسبا ماديا ومصدرا للرزق، وتبعا لذائقة السواد الأعظم من الناس. إنه يقع على عاتقنا جميعا الارتقاء بذائقة المتلقي العادي بحيث تصبح اللوحة لديه مثل الكتاب، وتقرأ مثل الكتاب حتى في غموضها ورموزها وتنوعاتها. نريد أن نقول له: نحن من سبق إلى هذا الفن الشرقي العريق. ترى هل نستطيع ذلك معا؟ وكيف؟

= = =

هامش: المرجع هنا كتاب "التكعيبية" لمؤلفه إدوارد فراي، ترجمة: هادي الطائي، بغداد.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2008     A جميل حمادة     C 0 تعليقات