فوزية العلوي - تونس
عادات سيئة
لي عادات سيئة كثيرة، تزعجني، لكنها مني كأظافري وأنفي وارتباكي المؤبد. الآخرون لهم عاداتهم السيئة أيضا، لكنهم في أغلب الأحيان يتنكرون لها ويدعون إذا ما انفضحوا أنها طارئة وليست متأصلة فيهم ويعتذرون ويجددون الاعتذار، ويمسحون الطاولة التي أمام الضيوف من ماء وهمي ويضعون القهوة، ويفتحون النوافذ لطرد الغبار الذي في رؤوسهم، ويعرضون آخر مشترياتهم من الكتب والقمصان وآخر زجاجات الشامبانيا المهداة إليهم.
أنا شخصيا لم تعد تزعجني عاداتي السيئة لأنني ألفتها، ولكنني أقلق من الذين يدعون أن عاداتهم طارئة. ربما كان ذلك بحكم كرهي للنفاق، فأنا منذ سنين لم أعد أكذب، لأنني ببساطة لم أعد أخاف شيئا، ولم أعد أنتظر شيئا، ولم أعد أستغرب حدوث شيء. كأنما تحصنت على نحو ما ضد كل الطوارئ، وصار وقع الأشياء من حولي مهما عظم رفيقا. من هنا، صرت أحتسي قهوتي على مهل وأرتدي ثيابي على مهل وأمضي إلى عملي على مهل حتى إذا زعق في وجهي مديري في المكتب لأنني تعودت على التأخير، ابتسمت على مهل وأنا أقول في سري: "هذه عادة سيئة أخرى." ثم أمضي على مهل لأحتسي شايا ساخنا.
ربما صار هذا البرود إزاء ما يحدث من عاداتي التي لا تسمى، ولربما انزعجت له في البداية. لكنني ألفته بعد ذلك ولازمني كظلي ونفي وتجشؤي الذي يعزى إلى انتفاخ في الأمعاء الغليظة.
وعموما فإن عاداتي هذه لم تكن كثيرة في البداية، لكنها تكاثرت بعد ذلك. الآخرون أيضا تتكاثر عاداتهم لكنهم يتحفظون في الإعلان عنها ويربطونها بالصدفة والحدث العارض.
أنا مثلا يحدث لي أن أنسى المفتاح في ثقب الباب. وأنسى أن أطفئ ضوء الحمام إذ خرجت. ونادرا ما أربط خيوط حذائي بإحكام. وقد أراها مفكوكة ولا أهتم لذلك. صرت أميل إلى اقتناء الأحذية المعدومة الخيوط.
يحدث أيضا أن أنسى أين وضعت القداحة وفاتورة الكهرباء وأقلب الدنيا رأسا على عقب أبحث عن شهادة ميلادي التي أكون استخرجتها بعد جهد جهيد، حتى إذا انقطع نفسي وأصبت بالإحباط وأرفض جسمي عرقا وامتلكني الخذلان وملكني النوم وجدتها في سلة البصل بالمطبخ.
أنسى كذلك أن أغلق الصنابير بعد أن أكون فتحتها جميعا إذا ما انقطع الماء، وأظل أرقب غرغرتها وشخيرها ويراودني الفرح طمعا في قدوم الماء. ثم أيأس وأخرج إلى الشارع أتلهى بعد السيارات وأشتري الماء المعدني. وقد يحدث في غيابي ما يحدث، ويعود الماء وتنبجس الصنابير دفعة واحدة ويغرق البيت والأحذية وزربية الصوف ويفسد البيض الذي أحفظه في علبة الكرتون على أرضية المطبخ.
من عاداتي السيئة ابتساماتي التي أوزعها ببلاهة على كل الناس، ويصادف أن يقلق منها ذوو المزاج السوداوي. وظنتها مرة إحدى النساء العابرات على الرصيف الذي قبالة بيتي نوعا من المشاكسة أو التحرش، فأمطرتني بوابل من الشتائم وشبهتني بالقرد، وعندما جهدت في إقناعها بأن ذلك من عاداتي السيئة واعتذرت لها هددتني إن لم أنصرف عن طريقها لتبلغن الشرطة. ومن ذلك اليوم تغيرت معاملة البقال لي وصار ينظر إليّ بكثير من الحذر.
عاداتي السيئة كثيرة وأخاف من الإطالة لئلا يصبح الإسهاب من هذه العادات. وعموما فأنا لم أعد أبالي كثيرا بما يتصوره الناس عني أو يتوهموه، فأنا تحصنت ضد الأوهام والأفكار والانطباعات. لكن ما حدث اليوم كان غريبا. أنا بنفسي استغربته رغم أني كففت من زمان بعيد عن الاستغراب والاندهاش والاستنكار بشدة، إنما تلامسني الأشياء برفق أو بلطف شديد كأنما تتكسر على جدار برودي ولا مبالاتي.
قل إن ما حدث كان على صلة بعاداتي السيئة، لكنني لم أستطع فهم وقوع ذلك لي أنا بالتحديد رغم أني حسمت أمري مع العالم من حولي، وانقطعت منذ فترة بعيدة عن تقليم أشجار الحديقة، قلت لتنم كما شاءت لها فصولها أن تنمو. وما يهمني أنا إن وصفني بعض من يزورني بالإهمال.
أنا أصلا لم أعد أهتم حتى بتقديم القهوة كما كنت أفعل في السابق وأتأنق في اقتناء الأطباق والفناجين. صرت أعلم زواري إن كانوا يرغبون في شرب القهوة أن يعدوها بأنفسهم في المطبخ. عادة سيئة أعرف ذلك، لكن لم أعد أجتهد في إرضاء أذواق الناس وابتسم وأنا أسأل: "قطعة واحدة من السكر أم قطعتان؟" وأظل أتخير ماء الزهر لأقطره في الفناجين. وما همي أنا إن أحب الناس قهوتي أم رفضوها.
يحدث لي أن أنسى الأواني على النار، وخصوصا آنية القهوة لأنني أحتسيها بشكل خرافي. وكثيرة هي الأوقات التي أنسى فيها الغلاية على الموقد، فلا أتفطن إلا ورائحة الاحتراق تعم البيت، والدخان يملأ المطبخ والغاز متسرب وخانق، فأعمد إذاك إلى فتح النوافذ وأنا ألعن السهو والنسيان. لكن من أين تأتي الساعة رائحة الاحتراق هذه والتي تكاد تخنقني؟
هرعت إلى المطبخ أتفقد الموقد الغازي فلم أجد فوقه آنية أصلا. نظرت فوق الطاولة أين تتوزع أوراقي ومجلاتي وكتبي، قلت لعلي نسيت أن أطفئ السيجارة، ولكنني فوجئت بالمنفضة ملأى بأعقاب السجائر الميتة.
ساورني شك بشأن الفانوس الكهربائي الوحيد المضاء في البهو، فصعدت على الكرسي وقربت رأسي منه عساي أشم شيئا فلم أحظ بطائل، جلت على سبيل التثبت في الغرف الموصدة فوجدتها سابحة في غطيطها، فهرعت إلى الحديقة أتنسم رائحة الاحتراق من نافذة أحد الجيران.
فكرت أن أحدا مثلي بعادات سيئة، لكنه يخفيها لكن ها هو ينفضح في هذه الساعة، ولا يستطيع أن ينكر أنه نسي القدر فوق الموقد فشاط الطعام وأجهض العشاء. لكن بيوت الجيران مغلقة على أسرارها وأنوارها خافتة توحي بالدعة، وهواء الحديقة لا يشي مطلقا برائحة الاحتراق مع أن الرائحة أجدها قريبة جدا مني وحادة ولا يمكن مطلقا أن تكون من قبيل الوهم.
بلعت حيرتي ودخلت ونسيت أن أغلق الباب. وفكرت في القهوة والانشغال بالكلمات المتقاطعة ريثما يتكفل الهواء بدفع هذه الرائحة بعيدا عني، لكنها مصرة على ملاحقتي وإزعاجي والتعشيش في حلقي ومنخري. تجاهلتها، جلست أحتسي القهوة لكنني شعرت بلذع وبوهج قريبين.
أوشكت على ملء المربعات:
أفقيا، مكان الجمر: موقد.
عموديا: ضروري للحياة: ماء.
بدأت أهدأ قليلا، قلت إن الكلمات التي أبحث عنها كفيلة بإبعاد هذه الأوهام عني، استعصى عليّ أن أجد اسم الشاعر الذي أحرق حبيبته ووضع رماد جسمها في كوز.
شعرت بالإعياء. قلت لم لا أضع ساقا على ساق فأنا أرتاح كثيرا في هذا الوضع؟ سحبت ساقي من تحت الطاولة لأضعها على أختها، بصرت بجواربي تدخن وبأطراف أصابعي تشتعل فيها النار، رميت بالجريدة فزعا، وتطايرت الأوراق في كل صوب. وعندما اندفعت إلى الحمام أستنجد بالماء وجدت الصنابير تغرغر ولا أثر لقطرة واحدة. عادة سيئة أخرى أضيفت إلى رصيدي: صرت أرمي أعقاب السجائر تحت الطاولة مع أن المنفضة فوقها.