عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

هاني الفحَّام - اليمن

فيروز : نكهة الصباح والمساء


هاني الفحَّام=1=

قد تحتاج في صباح كهذا الصباح إلى كاس من الشاي، ولكنك ستحتاج أيضا إلى صوت ملائكي يضيء قلبك ويفتح عينيك، صوت ينقلك إلى عالم آخر، عالم حياة تبتسم فيها الكائنات، عالم فيروز الذي يرسم صباحاتنا بحيوية ودفء أكثر. وقد تصحو هذا الصباح على أصوات كثيرة، أصوات لا فائدة فيها، ولكنك لن تبتسم إلاّ على صوت فيروز.

إن فيروز التي غنت لبيروت هي نفسها التي غنت لشمس هذا الصباح: "طلعت يا محلى نورها شمس الشموسة"[1]. ما أحلاك يا فيروز الإنسانة/الصوت! ما أحلاك "يا مايلة عالغصون عيني سمرا يا حورية"!

لم أكن أتخيل الصباحات والمساءات بدونك فيروز، لذلك فأنا "بكتب اسمك ... عا رمل الطريق". ولأّن "معرفتي فيك أجت عا زعل ... ما كانت طبيعية"، سأظل أحبك في "الصيف" و"الشتاء" وإن "أطفأت مدينتي قنديلها وأصبحت في المساء وحدها".

فيروز لغة الصباح والمساء، لغة الأشياء الجميلة، الأشياء التي تسعى إلى رسم ملامح النور والضياء في قلوبنا المعتمة، قلوبنا المخمورة بحب فيروز. اعذريني يا "بنت الشلبية" لاّن "قلب الحلو ما أرتوى وطابت مواعيده".

قد أستمع لفيروز هذا الصباح في المنزل أو من مذياع الجيران أو في الشارع ولكن لا يهم ذلك، المهم هو أنني أستمع إليها وهي تغني بصوتها الملائكي "مشوار جينا عالدني"، أو

أعطني الناي وغنّ = = فالغناء سرّ الوجود

وأنين الناي يبقى = =بعد أن يفنى الوجود

=2=

"لو تعلمين" يا فيروز عن "زهرة الجنوب" التي أصبحت بروائحها وجمالها تشبه "زهرة المدائن". كم هي جميلة تلك الزهرة الأنيقة التي أصبحت نموذجا لزهرات "آخر أيام الصيفية" التي ما زالت تقف بكبرياء النصر.

"فيكن تنسوا" أيها الأحبة كلّ ما "قالوا العدا" عن "ليالي الشمال الحزينة" وأجواء الشمال التي تحثنا دائما على الصمود. ولكن لا يمكنكم أن تنسوا "هدير البوسطة".

أحيانا كثيرة يكون هناك "شي عم بيصير" من حوالينا يا فيروز ابتداء من "معرفتي فيك" التي كانت بظروف غير طبيعية، مرورا بـ "أسامينا" الغريبة، وانتهاء بـ "أغنية الوداع" الحزينة. لذلك لم أعد أتذكر في أي مساء "جاءت معذبتي" فكلّ ما أذكره أنها "دقت على صدري" وهي تقول "وقّف يا أسمر" و"بعدك على بالي". وأعرف أن "زعلي طول أنا وياك". لكن هذا لا يهم، فأنا "راجعة" مهما "سألوني الناس عنك ياحبيبي".

حتى وإن اختلقوا الكثير من الأكاذيب وقالوا عنّا "كنا نتلاقى" "عدروب الهوى" أو "على جسر اللوزية" أو "فوق هاتيك الربى" لم يعد للفراق مجال في قلوبنا، ولا للحظات الحزن، ولا حتى لدموع اليأس طريقا في المآقي. ولم يتبق إلا صورة مختزلة من ذكريات صوت ملائكي يرسم لوحات باهرة في الجمال لوحات تشبه "شال" "يارا."

يا قمر أنا وياك" في هذا المساء الفيروزي "رح نبقى سوى" مثل اثنين "حبوا بعضن" المهم "بحبك ما بعرف" ليش و"قدّيش".

=3=

اعذروني أيها القراء إنّ "بروفا" المشهد المضيء لـ "البنت الشلبية" يأخذني إلى أبعد مما أنا فيه. يأخذني إلى ما وراء ذلك "الجبل اللي بعيد" الجبل الذي يختفي خلفه الأحبة.

كل شيء يدعونا إلى العودة للطفولة الجميلة، الطفولة البريئة وكل شيء يجبرنا على الوقوع في دائرة الحب مع هذه الفيروزة. كم هو الصباح واضح وجلي، وكم هي زقزقات العصافير شجية لكنها لا تشبه صوتك فيروز. وكم هي المسافة طويلة إلى حلب مدينة الحب "يا رايحين عا حلب حبي معاكم راح". وكم أشعر أنكم تحزمون أمتعتكم الآن للسفر صوب حلب، صوب فيروز المعنى، فيروز الصوت.

"يا طير" أنت وحدك من يستطيع الوصول إلى بيروت وتلالها البعيدة، وتستطيع حمل رسائلنا إلى هناك: "يا طير احْكيلنْ عاللي وليفه مو معه؛ موجوع ما بيقول عاللي بيوجعه".

ابتسمي يا فيروز. نحن نرتشف رنات صوتك العذب. ننام على همسات أغانيك الرقيقة، ونصحو على إيقاع صوتك الذي ينساب في أذهاننا كالماء، والذي يروينا بنبراته الندية والهادئة، يزرع فينا قيم الحب والحياة الجميلة.

هكذا نكبر دائما مع صوت فيروز، شربنا صوتها في مرحلة الطفولة وكذلك نشربه الآن، نشربه كل صباح مع فناجين الشاي، ونشربه كل مساء قبل النوم، فلا يمكن أن نعيش دون أن نسمع فيروز.

"تك تك تك يامّ "زياد". عرشك ثابت لا يتحرك. صوتك موزع في أرجاء لبنان، لقد توحّد صوتك بكل حبة رمل في لبنان، توحد بكل جسد حي فيها. انغرس في طرقات بيروت.

صوتك ينمو كل يوم، يحتل قلوبنا، يكتسح زوايا أحاسيسنا ويفيض فيها حنانا.

صوتك يرضع أطفال "القدس العتيقة". يحدّثهم كل يوم عن حال "شادي" الضائع، وعن قصة لبنان الشمال ولبنان الجنوب.

"تناثري" أيتها الفيروزة، انغرسي في قلوبنا وقلوب أبنائنا، انغرسي في تلالنا وودياننا.

بوحي بأسرارك للقمر والطير والنحل، نريد أن يتكدس الليلك في الدروب، وينكشف أمر "عاقد الحاجبين". حدثي الغروب عن أحزانك ومآسيك، وحدثيه عن "شجرة الأرز" "وقمح" بيروت "وحكاية الإسوارة"، وحدثيه عن "بياع الخواتم" و"البواب".

"مساء الخير يا صبية". يبدو أن فيروز الصباح هي فيروز المساء، فيروز التي تهبط على الأرض من "بين النجوم" وكأنها السكينة التي تذيب أحزاننا، تغذينا بمساء مزدهر بالحب تأخذنا "من عزّ النوم" إلى تلك الأيام التي "تنذكر ما تنعاد" تجعلنا نصرخ بصوت واحد "إرجعي يا ألف ليلة".

"لـ "فيروز" من قلبي سلام لـ "فيروز" وقبل ..."

= = =

[1] "طلعت يا محلى نورها" أغنية لسيد درويش، أعادت فيروز غناءها.

D 1 آذار (مارس) 2024     A هاني الفحّام     C 0 تعليقات