عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

سليم الموسى - الأردن

دعوة للحياة: ح 2


سليم الموسىيتعرض الناس لتحولات هامة في دورة الحياة، من الطفولة إلى المراهقة والشباب والرشد والكهولة والهرم. والمفروض أن تكون العلاقات بين الناس من المرونة بحيث تستجيب للتحولات وتتكيف مع الأوضاع والظروف المتغيرة.

والشباب المرحلة الأخطر في دورة الحياة لاتساع التحولات التي تحدث فيها، وعمق تأثيرها في الذات وعلاقتها بالآخرين والواقع. ولذلك فهي المرحلة التي تتطلب إعادة تنظيم العلاقات بين الفرد والآخرين المهمين في حياته وأهمهم الوالدان، والأخوة، والأصدقاء، والمربون. إلا أن ما يحدث عكس ذلك إلى حد بعيد، فلم تعد الأسرة تدرب الشباب على تحمل مسؤولياتهم في الحياة، والتعليم الذي يحصلون عليه لا يقدم لهم غير القليل من المعارف العصرية، ويعطل اكتساب خبرات حية تؤهلهم لتكيف مجد مع الواقع، بل إنه يقتل فيهم روح الابتكار والإيجابية ويربيهم على السلبية والمسايرة والانصياع.

إن الأزمة التي تكاد تعصف بجيل الشباب هي في الحق ثورة ميلاد. أجل هي عيب الأبوة والأمومة فينا، فنحن إما نحاول أن نتلاشى ما وقع علينا من قسوة ونحن صغار فنترك للابن الحبل على الغارب، وإما أن نفعل العكس تماما، وبقسوة صارمة نحاول أن نفرض عليه نموذجا للذي رسمناه، أو إحياء النموذج الذي نشأنا عليه، أو تصورا متزمتا لما نعتقد أنه الصواب في التربية. وعليه فإن الهوة بين جيل الشباب والكبار تتسع بدل أن تضيق، والدفء والرعاية والتوجيه والحفز وكل مثل هذه الأشياء التي كانت توفرها علاقات الكبار بالشباب أصبحت من الذكريات، فمشاغل الحياة لم تترك الفرصة لمثل هذه الأشياء.

وكان من الطبيعي ألا يظل الشباب أسرى الامتنان العميق لمن سبقوهم، فما نقلوه لهم من القيم والمعتقدات والمعارف والأفكار أصبحوا هم غير قانعين بها أو بقيمتها. وهكذا تطلع الكثير من الشباب إلى الاستقلال، وإلى دور نشط في الحياة، يحققون به ذواتهم من جهة، وينفذون من خلاله المشروعات التي حلموا بها طويلا من جهة أخرى، ولكنهم يواجهون مجتمعا ينكر الاعتراف بهذا الحق، ويفرض المسارات والقوالب التي يحددها الكبار، وهذا يدفع الشباب إلى اليأس القاتل بسبب الشعور بالعجز وإلى التمرد الرافض بسبب فقدان الثقة في جيل الكبار الذي يعتبرونه مسؤولا عن آلامهم ومتاعبهم ن ويصل اليأس وفقدان الثقة إلى حدود بعيدة.

هناك محاولات للتحديث والتطوير في بلادنا العربية، ولكنها محاولات مخنوقة وعاجزة. يقول أحد الشباب:

"ما زلنا مجتمعات فقيرة، عاجزة عن مواجهة المجتمعات المتقدمة التي تمد ذراعا فولاذية تطول بها القمر، وتمد ذراعا استعمارية تغرس كفها في أرضنا، وتدفع أصابعها لتدخل في أعناقنا وتأخذ برقابنا. وهذا التخلف بالنسبة لنا يعني الموت بكل ما في الكلمة من معنى."

ومصدر الألم واليأس هو أن الصفوة المسؤولة عن تحديث العالم العربي، تكسب كثيرا دون تعب يذكر، وتتجه إلى الاستهلاك والاستمتاع دون أن تأبه بمسؤولياتها التاريخية والاجتماعية، وما زالت صورة المجتمع الذي تصبح فيه المصلحة الاجتماعية هي مصلحة الناس حلما بعيد المنال. وهذا ما ينعكس بوجدان الشباب تمزقا وانفصالا عن الأحلام، وخوفا وقلقا قد يقضي على الشباب في أي لحظة طيش.

ويصور شاب هذا الشعور باليأس بقوله:

"إن الإنسان قد يقر بعجزه، لكنه مع ذلك لا يتنازل عن طموحه، وإني أتساءل: هل بقي لنا نحن الشباب شيء نحققه؟ لدينا الطموح، لكنهم نزعوا من أمامنا الفرصة وامتصوا القدرة، وأنا حائر: هل أنشد القيم والمثل غير عابئ بما تجره عليّ من متاعب، أم هل أسير في تيار التكالب على المنفعة المادية الذاتية، مضحيا بجوهر إنسانيتي، وهابطا إلى مستوى الحيوان الذي ينحصر همه في الطعام والشراب؟"

إن هذا العصر الذي نعيشه عجيب، مليء بالمفارقات الأعجب، فهو عصر زودته علومه بوسائل اتصال حالمة، والمنطق أن يؤدي هذا الاتصال إلى تقارب بين الشعوب، لكن الناس لا زالوا "رجلين" كما كانوا في عصر الكهوف: آكل ومأكول. وهو عصر ازدادت فيه الدنيا بثراء إنتاجها، ولكن زادت وسائلها سوء في توزيع هذا الثراء، مما زاد الهوة اتساعا بين الفقر والغنى. إنه عصر وضع فيه الإنسان قدميه على سطح القمر، لكنه ترك الأمراض تنهش الناس، فهو عصر يحتاج إلى مزيد من العقلانية التي تكبح النزوات في صدور أصحابها.

إن جيل الشباب ضيقو الصدر، ينفعلون بحدة لأبسط تأثير، ويندفعون بسرعة نحو الرفض والتمرد والتدمير، وقد توجه هذه الطاقة نحو هدف بريء حين يعجزون عن تدمير ما يستعصي على التدمير، وقد لا يتردد بعضهم في تدمير نفسه، فكثيرون من الشباب يتعجلون النجاح في الحياة فيهدرون فرصا كثيرة تتاح لهم للنضج، وهؤلاء يريدون أن يحققوا طموحاتهم في الحياة بدون كفاح أو معاناة.

وليس ثمة شك في أن كثيرين من الشباب يهدرون الفرص التي تتاح لهم وينتهون إلى حالة مخيفة من السطحية أو ضيق الأفق. شكاواهم موضوعية في كثير من الأحيان، لكنهم يبددون طاقاتهم في الشكوى ويصدرون أحكام الإدانة والرفض الشامل بدلا من الاستفادة من الشيء القليل المتاح. وبعض تمرد الشباب صحي ورفضه مفيد ويجب ألا يقمع، وبعض منه يؤشر على أزمة قد تكون حادة، ويستدعي البحث عن أسباب الأزمة وحلها بدلا من التركيز على التمرد وقمعه.

وأحيانا حين يجد الشباب أن المجتمع قد سد طريقهم في الحياة، ولا يوفر لهم الفرص لتحقيق التطلعات التي يحلمون بها، فإنهم ينسحبون من مجال النشاط العام، ويفقدون حماسهم للقضايا العامة، إلى مجال خاص محدود بشؤونهم الخاصة.

وهكذا يتبين لنا أن أزمة الشباب تضرب بجذورها بعيدا في أعماق بنية المجتمع، النظام الاقتصادي، نسق القيم، العلاقات الاجتماعية، نظم الأسرة والتعليم، والسياسة وما إليها، ومن ثم فإن حل الأزمة يتطلب التعامل معها في كل هذه الأنظمة والمجالات. والمطلوب إذن هو التغيير، وليس من الضرورة أن يتم بسرعة وبصورة شاملة أو ببطء وعلى شكل إصلاحات جزئية، فالأهم هو مضمون التغيير واتجاهه، فهذا التغيير هو الذي يجعل الحياة بالنسبة للشباب أغنى وأجدر أن تعاش.

إن هناك فراغا في نفوس الشباب يريد الامتلاء، ولا يجيء هذا الامتلاء إلا عن طريق العقيدة والإيمان المطلق بالله عز وجل. والمطلوب إذن هو استراتيجية شاملة للتغير الحضاري، والتنمية الاقتصادية، والتطور الاجتماعي، بهدف تصحيح العلاقات الاجتماعية، وتحقيق الاتزان في الحياة، وهذا يثير سؤالا هاما، من أين نبدأ؟ هل نبدأ بتغيير الإنسان وقيمه وأساليب تفكيره بصورة خاصة؟ أم ننطلق من تعديل وضعه المادي والاجتماعي؟

كلا الاتجاهين يعجز عن تقديم إجابة شافية، فالحقيقة هي أن ظروف الحياة الإنسانية بكل عناصرها المادية والاجتماعية والحضارية هي من صنع الإنسان، ولذلك فهي قابلة للتغيير بفعل إنساني، فالإنسان يملك القدرة على حرية الفعل والمقدرة على التعديل. وبعبارة أخرى مطلوب منا أن نعمل في جبهتين: الواقع والإنسان. وجهدنا في تعديل أي منهما يؤثر في الآخر.

= = =

مراجع السلسلة منشورة في الحلقة الأولى.

D 1 كانون الثاني (يناير) 2009     A سليم الموسى     C 0 تعليقات