عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عبد المجيد العابد - المغرب

الجمال بين الذاتي والموضوعي


"الجمال الطبيعي شيء جميل، بينما الجمال الفني تمثيل جميل لشيء ما"

إمانويل كانط

عبد المجيد العابد تأطيــر

يرتبط الفن بالإنسان منذ نشأته بالكهوف، وكان الفن إثرها مرتبطا بعلاقة الإنسان الحميمة بالطبيعة وجبروتها، يرسم ما يخافه ويهابه تَوَقيا من شره، لكن مع تقدم الحياة الإنسانية لم يعد الفن فقط محاكاة لعناصر الطبيعة واستنساخا ساذجا لمكوناتها، وأصبح بالتالي رؤية للعالم وتمثيلا لطبيعة النظر للوجود، ومنها أصبحنا نربط الفن بإنتاج الجمال، حيث عرفته الإنسانية منذ أن بدأت تضيف إلى الأشياء النفعية عناصر لا منفعة مادية من ورائها. وقد تعددت عمادات الفن في إنتاج الجمال كالنحت والرسم والصباغة وفن العمارة والديكور والسينما والرواية والشعر والموسيقا وغيرها. ولما كان الجمال ظاهرة إنسانية طبيعية مبهرة وباعثة على الدهشة، فقد تعددت التصورات الفلسفية بشأنها من حيث كونها كذلك، أي مثيرة للدهشة أساس التفكير الفلسفي، مثل إسهامات أفلاطون وأرسطو وكانط وهيجل، وغيرها من التصورات الفلسفية التي ساعدت في بلورة علم جديد يهتم بعلم الجمال منذ القرن الثامن عشر.

أولا: تصورات فلسفية في الجمال

لقد كان سؤال: ما الجمال؟ مثار نقاش الفلسفة عبر العصور، فقد رأى السفسطائيون أنه لا شيء جميل في ذاته، وبين سقراط الفرق بين الجميل والجمال، كما رأى الفيتاغوريون أن الجمال قائم على التماثل القياسي بين الأجزاء والعناصر وتجانسها. وقد ناقش أفلاطون الجمال في محاوراته الثلاث "هيبياس الأكبر" و"المأدبة" و"فيدروس" معتبرا الجميل صورة عقلية منتزعة من الشيء ولا علاقة له بالشيء في ذاته(أنظر مثال القدر الذي قدمه سقراط للتوضيح على نحو ساخر)، واعتبر أرسطو الجمال قائما في الكليات والتآلف والإشعاع المتعلق بالشيء.

إن الإدراك الحسي الجمالي سار وممتع، يمتد عبر معطى حسي لينتقل عبر الحس المشترك ثم إلى سائر الجسد، فتظهر على المرء أعراض جانبية تنبئ عن المتعة والسرور كالعرق(كالشعور بالانجذاب بين المحبين). وهذا ما فرض سؤالا ظلت الجماليات تطرحه إلى الآن: هل الخصائص الجمالية موجودة في الشيء بطريقة موضوعية أو ذاتية، أم أن الجمال هو ما تضفيه الذات الحاكمة على الأشياء؟

بدأ الحديث عن الجمال منذ اللحظة التي حاول فيها سقراط التمييز بين الجمال المعنوي والجمال المادي، حيث اعتبر الجمال الروحي (الجوهر) أسمى من الجمال المادي مادام غير مقدور عليه. لقد كان الجمال محورا في الدراسات الفلسفية الإغريقية، فمنهم من ربط الجمال بالخير والنافع (سقراط)، ومنهم من ربطه بالمثل[1](أفلاطون) ومنهم من ربطه بالطبيعة (أرسطو[2]) ومنهم من خضعه للحساب الرياضي القائم على التماثل (الفيتاغوريون)، ومنهم من ربطه بالأخلاق والقيم المعتدلة (ديموقريط)، واعتبر آخرون أن لا شيء جميل في ذاته، والجمال متعلق بالهوى (السفسطائيون). وعموما، فقد ارتبط الجمال في الفلسفة اليونانية بكل ما يبهج ويسر ويحس المتذوق بالتناسق والانسجام والتكامل.

ثانيا: في علم الجمال

لقد خرج علم الجمال من رحم الفلسفة منذ القرن الثامن عشر من قبل الفيلسوف بومغارتن، وقد حدد موضوعه آنذاك في وصف، وإن أمكن في تفسير، الخبرة الجمالية. ولم يقتصر علم الجمال على دراسة الخبرات الجمالية المألوفة، لكن تعداها إلى اعتبار كل ما يصدر ويرد من الإنسان والطبيعة منتجا جماليا، لذلك تلاقح علم الجمال مع علوم إنسانية بالغة التفرد كعلم الاجتماع وعلم النفس الأنتروبولوجيا.

تعلق الإبدال النظري لعلم الجمال في التصورات الكلاسية بدراسة التناسق والانسجام بين عناصر المنتجات الجمالية، واستثمر هذا المعطى في عصر النهضة خصوصا مع الفلسفة الألمانية والفلسفة الإنجليزية. وقد اهتم علم الجمال بعد ذلك بتطور ملكة الوجدان والتقليص من تدخل العقل في الأحكام الجمالية، مما دفع إلى اعتبار كل الأشياء الطبيعية والإنسانية منتجات جمالية خالصة ما دام الحَكم الأخير هو الشعور والوجدان، وليس العقل والمنطق والحساب. ومن تم، بحث علم الجمال في كنه الخبرة الجمالية أو معرفة خصائص الشيء الجميل. فهل يعود الجمال إلى الشيء في ذاته أم إلى الذات المدركة للشيء؟

ارتبط الجمال بالفن خصوصا في علم النفس وعلم الإدراك الحسي، ما دام الفن هو ذلك المضاف الثقافي للعمل الطبيعي المتعلق بقدرة الإنسان على تقديم منتجات جمالية تستثير المتلقين للعمل الفني عبر المدركات الخمس. إن الفن خاصة إنسانية، وهو بذلك مهارة وحذق ومقصدية تتعلق بكل مكونات العمل الجمالي، أي كل ما يجعلنا نبهر ونسر لسماعه أو رؤيته أو شمه أو لمسه، وليس بالجمال في حد ذاته، لأن هذا العنصر الأخير قد يقصي مجموعة من الأفعال الإنسانية في حياتنا المعاصرة على الخصوص من دائرة الخبرة الجمالية (فقد أستمع إلى معلق رياضي وأسر بما أسمع، في حين لا تبهرني تعليقات معلقين آخرين)، كما أن الفن يمكن أن يكون موضوعات جميلة (لوحة فنية مثالا) أو موضوعات غير جميلة (أفلام الرعب مثالا).

إذا كان الجمال موجودا في الطبيعة والإنسان فإن الفن منتج إنساني خالص، لأنه قائم على الوعي والحذق والمهارة والمقصدية، وهي خواص إنسانية متفردة، لذلك يرتبط التفضيل الجمالي بقدراتنا على الاختيار الجمالي بناء على طبيعة تنشئتنا الاجتماعية وطبيعة الخبرات الجمالية التي تلقيناها من هذه التنشئة. ويمكن أن يكون التفضيل الجمالي ممتدا (تفضيلنا مثالا لقصائد من الشعر الجاهلي مع أنها لا تصور طبيعة حياتنا العصرية)، وقد يكون تفضيلا جماليا مؤقتا (تفضيلنا لنسق مخصوص من اللباس والغناء في لحظة أو فترة معينة).

لقد أعاد كانط النظر في الفلسفات السابقة، محاولا بناء ميكانزمات جديدة في تحديد مناطات الحكم الجمالي على الخصوص، وخاض في طبيعة المعرفة الإنسانية عامة، حيث حدد الملكات المعرفية في ثلاث ينظر من خلالها الإنسان إلى العوالم التي تحيط به: وهي ملكة الفهم التي تتعلق أساسا بملكة المعرفة، وملكة العقل التي تتعلق بملكة الرغبة وملكة الحكم التي تتعلق بملكة اللذة والألم. إن هذه الملكة الأخيرة المتعلقة بملكة الحكم الجمالي، ومنها نستشف أن كانط ينفي ربط الحكم الجمالي بالموضوعية والعقلانية والأخلاق مادام مأسورا باللذة والألم. وقد حدد كانط غرضه، في البحث في ملكة الحكم، في إبراز طبيعة صدق أحكامنا عن الجليل والجميل (الجميل ما يبعث على الانشراح المقترن باللذة والألم، والجليل هو ما يبعث على الانشراح لكنه مرتبط بالمهابة والخوف وفيه مجاوزة للانهائي الذي لا يخضع للقوانين الإنسانية (البحر مثالا)).

إن الحكم الجمالي حكم ذاتي مادام مرتبطا بالانشراح الوجداني غير أنه ذاتي عام، من حيث كونه تأمل وجداني -وليس عقلانيا- نابعا من الذات، غير أنه بالرغم من ذاتيته فإنه عام أي يخضع لطبيعة التنشئة الاجتماعية، وهذا وما يفسر طبيعة بعض التفضيلات الجمالية عند جماعة من دون جماعات أخر (اللباس التقليدي عند المغاربة، واللباس الأفغاني، معيار جمال المرأة في ضخامتها عند أقاليمنا الصحراوية المغربية). ومن تم، فإن الحكم الجمالي ليس معرفيا قائما على الحساب والتآلف المنطقيين، وإنما حكم جمالي ذاتي يتم من خلال الخيال الخلاق والتأمل الوجداني المنتهي باللذة والألم.

لا يرتبط الحكم الجمالي لدى كانط بالمنفعة المادية، لأن الجميل في الأصل هو ما يجعلنا نحس بالرضا دون أن ترتبط به منفعة، فالجميل هو ما يرضينا بعيدا عن المنفعة والغرض، وهو ما يميز الجميل عن النافع واللذيذ. إن الجميل في حد ذاته غرضي بلا غرض، ومؤدى ذلك أن الشعور بالارتياح الذي نحس به تجاه الشيء الجميل يتم من خلال التمثيل الداخلي للموضوع، وليس بالموضوع نفسه(الغرض) غير المرتبط بمنفعة مادية عبر هذا الحكم(لاغرض)(عندما أقول إن هذه اللوحة جميلة، ليس معناه أنني أريد أن آخذها وأستخلصها لنفسي)، وعكسه النافع واللذيذ (عندما أقول إن هذا الطعام لذيذ، فذاك لرغبة مني في ازدراده).

إن الارتياح الجمالي منزه عن الهوى، مادام الفرد حرا في الحكم الجمالي ولا ينطلق من منفعة مادية. ومنه، فالحكم الجمالي إذا ضروري يستحيل عاما لا فرديا، حيث نسلم بأن أحكامنا الجمالية تسري على جميع الأفراد، غير أن هذه العمومية ليست من صبغة منطقية، بل تأملية وجدانية جمالية، وكأن الحاكم الجمالي ينصب نفسه ناطقا باسم الجميع (عندما أنشرح لمنظر جميل، فإني أعتقد أن كل من ينظر إلى هذا الشيء الجميل سيكون له الإحساس نفسه).

نخلص إلى أن الحكم الجمالي مادام منزها عن الهوى والمنفعة والغرض، فإنه يتخذ شكل التعميم الذاتي، إذ لا يمكنني القول مثلا إن هذا الشيء جميل بالنسبة لي، على أساس أن كلمة جميل تعني، فيما تعنيه، التعميم أصلا، لأن الجميل ليس مرتبطا بالشيء في ذاته، لكن متعلق بمقوماته الداخلية التي تجعله شيئا جميلا عند الكل، حيث إننا عندما نقول: إن هذا الشيء جميل معناه أننا نقصد أن هذا الجميل جميل بالنسبة للجميع، وكأننا نتحدث بلسانهم، وهذا ما يحيل إلى أن الجمال مرتبط بالأشياء وليس بإسقاطاتنا الجمالية عن الأشياء.

أما هيجل فقد انطلق من فلسفته الجدلية الدياليكتية في النظر إلى الجمال والفن، معتبرا ارتقاء الوعي عملية جدلية همت الإنسان منذ العصور الأولى، وقد حددت طبيعة العلاقة بين الإنسان والفن بحسب تطور الوعي لديه. وهكذا قسم مراحل الفن بهذا الاقتضاء إلى ثلاث مراحل رئيسة:

=1= المرحلة الكلاسية: التي تعد ذروة الفن، حيث تجسد فيها المنطق في نسق حسي، وقد أحدثت ترابطا بين الشكل والمضمون. يعبر عنها فن النحت؛

=2= المرحلة الرومانسية: ارتبطت بالوعي الذاتي ومحدودية المنجز الفني، ولم تلتفت إلى تناسق الشكل. تعبر عنها فنون التصوير والموسيقا والشعر؛

=3= المرحلة الرمزية: يعد فن العمارة تعبيرا عن هذه المرحلة؛

ويرجع تقسيم الفن عبر مراحل بالنسبة لهيجل إلى اعتبار العمل الفني تجسيدا لاتحاد الفكرة بمظهرها الحسي، فكلما تشكلت الفكرة بطريقة جيدة حسيا ارتفعت إلى مستوى المثال، لذلك عد النمط الرمزي بحثا عن المثال وعن اتحاد الفكرة بالشكل. بينما النمط الكلاسي تم فيه بلوغ المثال واتحدت الفكرة بالشكل. أما النمط الرومانسي فتخلصت فيه الفكرة من الشكل المحدود، وأدركت نفسها روحا متعالية. إن الجمال الفني هو وحده الذي يكفل التوحد بين الفكرة والشكل، لأنه ينبع من الروح الإنسانية، وليست الرغبة هي ما يربط الفرد بالعمل الفني، إن الحكم الجمالي موضوع للعقل والتأمل، غير أن التأمل الجمالي يختلف عن التأمل في العلم، لأن التأمل الفني حسي والتأمل في العلم جوهري.

وقد اعتبر هيجل الجمال الفني أسمى من الجمال الطبيعي مادام ينطلق من الروح وقصدي، إذ يتوجه بالضرورة إلى الإنسان لكي يخلق لديه انشراحا، أما الجمال الطبيعي فليس منبعثا من الروح وليس قصديا، فما فائدة وردة جميلة في صحراء لا تصلها عين إنسان متذوق؟

نخلص إلى إن الجمال هو ما يجعلنا نحس بالارتياح عند رؤية الشيء الجميل أو سماعه أو لمسه أو شمه، إذ لا شيء جميل في ذاته، لكن الجميل هو ما تضفيه الذات على الشيء، فمثلا تبعث فينا الأفعى الخوف في الأصل وليس الارتياح، لكنا عندما نراها مرسومة أو مصورة أو منحوتة، فإننا نحس من خلالها بارتياح جمالي. وإذا كان الجمال هو ما يجعلنا نحس بالارتياح وليس شيئا آخر، فإن الفن إنتاج للجمال، وليس شيئا آخر. وقد عرف الإنسان الفن منذ أن أضاف إلي الشيء المادي النفعي أشياء لا منفعة مادية من ورائها(أضاف للسيف زخارف لا تدخل في أداتيته، وأضاف للباس أشكال لا تدخل في أغراضها النفعية، والمسكن، وهلم جرا).

= = = = =

هوامش

[1] يعتبر أفلاطون فيلسوفا مثاليا اعتقد بوجود عالم حقيقي سماه "عالم المثل" واستنادا إلى ذلك اعتبر الفن محاكاة للطبيعة، وما دام الفنان يحاكي الطبيعة، فإنه يحاكي نسخة للواقع الحقيق وبالتالي تصبح نسخته وهما وكذبا ثانيا وتزييفا، وهذا ما عبر عنه أفلاطون بأوهام الكهف، إذ لا يمكن للفن أبدا أن يكون محاكاة لعالم حقيقي، بل لعالم واقعي "نسخة" يعيش في كنفه الفنان (العالم الحقيقي هو عالم المثل والعالم الواقعي هو عالم الطبيعة).

[2] خالف أرسطو أستاذه أفلاطون، وهو ذو توجه عقلاني اعتبر الفن محاكاة للطبيعة، ونظر إلى العمل الفني باعتباره أسمى من العمل الطبيعي مادام العمل الفني مرتبطا بالروح.

D 25 حزيران (يونيو) 2012     A عبد المجيد العابد     C 0 تعليقات