عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

محمد يوب - المغرب

ق ق ج: بين الانغلاق والانفتاح


القصة القصيرة جدا: بين الانغلاق والانفتاح

محمد يوبإن القصة القصيرة جدا عمل أدبي مختزل ومكثف، يعتمد تقنية الإقلال اللغوي المفضي إلى تشظي المعاني، عندما تقرأ نماذج منها تشعر بأنها قصيرة جدا لكنها غنية جدا، تشعر المتلقي بومضة ليست مضيئة وإنما خاطفة، تستفزه أكثر مما تضئ له المحيط الخارجي، تثير فضوله بطريقتها الملغزة، وما تنتجه القصة القصيرة جدا في ذهن المتلقي يعتمد على حساسية وقتية معينة لا نستطيع القول إن كانت قد تملكتنا أو أثارتنا.

وهي بذلك تكون مثيرة للاختلاف تحيل إلى مرجعيات كثيرة هي "المكتوب من قبل" أي أنها نص مفتوح على كثير من القراءات وتشجع على إنتاج المعاني وتوليد الدلالات. فعندما تكون القصة القصيرة جدا نصا مفتوحا scriptible يكتب لكي يعيد القارئ كتابته أو إنتاجه، لأنها تحول المتلقي إلى منتج إيجابي عوض أن يكون مستهلكا سلبيا.

وهناك عوامل متعددة تساعد على توليد المعاني في القصة القصيرة جدا من بينها عملية التناص وما يولده في ذهن المتلقي من تداعيات، فالنص القصصي القصير جدا ليس بنية مغلقة وإنما هو بنية مفتوحة دوما على نصوص أخرى تتقاطع معها شكلا ومضمونا، مما يساعد على قراءتها قراءات متعددة لأنها تحتمل نهايات يقترحها المتلقي.

فالقصة القصيرة جدا بشكلها المختزل والمضمر تسترجع الزمن المستعاد المفقود الذي يملك قوة استعادة الأحداث المشتركة والمضمرة بين الملقي والمتلقين، الأحداث الماضية التي اختزنت في اللاشعور وتراكمت فأصبحت مصدرا وموردا للملقي في إنتاج القصة القصيرة جدا.

وفي الشعور الباطني أو اللاشعور يتجاور الملقي والمتلقي وتتداخل الأزمنة والأمكنة حيث يدخل المكان خلسة في الزمن من أجل توحيد حالاتنا الشعورية مما يساعد على صراع الشخصيات المؤدية للأدوار.

وفي فضاء القصة القصيرة جدا يبرز المعنى ويختفي مع حالات المتلقي الشعورية واللاشعورية، تثير فيه ما مضى من الزمن وما عرفه من أحداث متجانسة وأخرى غير متجانسة تمكنه من الاقتراب من حالة العالم الخارجي، فلا توجد معرفة بدون مسبقات تثري ذهن المتلقي، فأنواع الفهم تفترض سلفا إدراكا قبليا، لأن المفاهيم المسبقة تتحكم في معارفنا وتساعد على تحريكها وتجديدها أثناء عملية القراءة.

فالأعوام في القصة القصيرة جدا تختزل وتصبح يوما واحدا، بل لحظة حاسمة في حياة الشخصيات التي تحرك الأحداث بالرغم من تكثيفها، وهذه اللحظة تعطي للعمل القصصي صفة الديمومة عندما تحرك متخيل المتلقي وتستدرجه لاستعادة كل الأعوام السابقة. واللحظة في القصة القصيرة جدا هي التي تجعلنا نشعر بحقيقة الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، وهي التي يمكن تسميتها باللحظة الأبدية التي تفجر مضمرات ومخزونات كل من الملقي والمتلقي.

وهكذا تكون القصة القصيرة جدا نصا مفتوحا قابلا للتلقي والتأويل بل أحيانا يصل إلى مرحلة الإنتاج وتوليد المعاني والدلالات. وانفتاح القصة القصيرة جدا راجع إلى تواجد عناصر القص وهي الملقي-المتلقي- القصة، ففكرة موت المؤلف في الدراسات البنيوية لا نقصد بها الموت الجسدي وإنما نقصد بها الموت الفاعلي، الموت النحوي ، فالقاص يبقى حيا يحرك شخصياته يعيش فيها وينمو ويتحرك بها ومعها يتحرك من الشخصية الفاعلة إلى الشخصية العاملة التي تقدم أدوارها في فضاء القصة القصيرة جدا، فعندما نسقط عنصرا من هذه العناصر الثلاثة يقع النص القصصي القصير جدا في فخ الانغلاق.

والقصة القصيرة جدا لا تمنح نفسها للمتلقي دفعة واحدة وإنما تنفتح أمامه بالتدريج وفي كل مرة يشعر المتلقي وكأنه يقرأها للمرة الأولى. كما أن القراءة تتعدد بتعدد القراءات وتتحول من القراءة الفردية إلى القراءة الجماعية، ونقصد بالقراءة الجماعية قراءات متعددة لقارئ واحد أو قراءة لجماعة من القراء. فالقارئ الواحد الذي يقرأ النص عدة قراءات يتوصل إلى معاني ودلالات مختلفة، كما أن جماعة من القراء تصل إلى قناعات ودلالات متعددة ومختلفة.

غير أن القصة القصيرة جدا تصبح مغلقة إذا لم تجد المتلقي المناسب والمؤهل لفتح مغاليقه، وتقع في فخ الانغلاق عندما تقرأ في جانبها السانكروني أي عندما يفهم النص من الداخل دون ربطه بعالمه الخارجي الذي يساعد على تعدد المعنى.

تصبح نصا مغلقا تكتب من أجل القراءة فقط lisible، نصا لا يساعد على إنتاج المعنى، نص قصصي محنط يعتمد فيه صاحبه على البهرجة اللغوية أكثر من الاعتماد على اللغة الدلالية والتداولية. مثلا، ثمة رفيف أسئلة أخرى نلمسها في قصة "بحث" للقاص جمعة الفاخري:

كَم هُوَ رَائِعٌ هَذَا الْقَمَرُ! إَنَّهُ مُسْتَدِيْرٌ وَلامِعٌ مِثْلُ دِرْهَمٍ.

لَمْ يَعْجِبْهُ تَشْبِيْهُهَا. نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ رَائِعٌ، مُسْتَدِيْرٌ وَمُغْرٍ كَرَغِيْفِ خُبْزٍ.

لَمْ يُعْجِبْهَا تَشْبِيْهُهُ.

افْتَرَقَا. مَضَى كُلُّ يَبْحَثُ عَمَّا يَشْغَلُهُ .

يشعر المتلقي بانغلاق القصة وعتمتها، لكن في عتمة الظلام تشتغل الأذن الثالثة التي هي حاسة الإصغاء لنبضات الكلمات التي تفهم النص القصصي في سياقه وفي محيطه النفسي والاجتماعي.

فالقصة هنا تحتاج إلى متلق حذق يفهم ما وراء الكلمات يخضع النص لعملية التأويل التي تفتح مغاليق النص وتكشف غموضه، وعند كشف الغموض تظهر متعة النص، فالقارئ إما أن ينزل بحر القصة القصيرة جدا ويكشف الحياة من جديد أو يكتفي بالفرجة عليها من بعيد ويصف الحدود والأبعاد.

فهي لا تملك الفرصة للثرثرة والإفصاح وتقديم إجابات، لأنها لو ثرثرت وقدمت إجابات لما أصبحت قصة قصيرة جدا، إنها تشبه الشعر الذي يصنع بالمجاز والاستعارة صورا فنية خاصة تحتوي العالم وتختزله، كما تشبه المسرحية التي تعتمد التركيز والتكثيف والتوتر والصراع لعزل لقطة واحدة مغلقة من الواقع.

D 25 حزيران (يونيو) 2012     A محمد يوب     C 4 تعليقات

4 مشاركة منتدى

  • دراسة قيّمة بحق للأستاذ محمد يوب..ولكن تبقى أشكالية الهوّة الفاصلة بين الملقي (القاص) والمتلقي (القارئ)..فنحن قد نطلب من المتلقي الكثير الذي قد لا يتمكن منه وبالتالي لا تفهم القصة القصيرة جدا أو يضيع معناها ومقصدها.. وعليه أدعو لا لتسهيل الأمر على القارئ وهو مطلوب فنيا أحيانا ولكن لتثقيف قارئ القصة القصيرة جدا كذلك...ولعمري فهذا موضوع يستحق دراسة لوحده..


  • اضاءة معرفية رائعة تزيل الغموض واللبس ، فقد أصبحنا نقرأ نصوصا قصيرة متنوعة تحت مسمى "قصص قصيرة جدا " وبعضها متواضع يحيرنا بسطحيته ، وآخر ممتع يستثير مخيلتنا مثل هذا النص المحير :
    حلم بأنه يسافر لبلاد بعيدة جميلة
    فيها شطآن وجزر خلابة
    ويركب طائرة صغيرة
    لوحده مع مضيفة صغيرة رائعة
    عذبة وشهية كالفراولة الطازجة
    أطلت عليه من الكابينة
    طلب قهوة باردة ونظرة باردة
    ردت بابتسامة ساحرة
    ثم قدمت له قهوة ساخنة برائحة فواحة
    ومدته بنظرة طويلة ساخنة
    ومعبرة
    استفاق من حلمه القصير سعيدا
    وتساءل ان كان يعرف حقا
    هذه "الحورالعين" الدنيوية
    ولماذا ما زالت تسحره بتاثير تخاطري
    ولم يلقها الا مرة واحدة منذ ست سنوات
    حيث تحدث معها بخجل لمدة ست دقائق فقط !


  • موضوع مهم وجميل من الأخ محمد يوب... فالقصة القصيرة جداًَ ما زالت ضبابية عند كثير ممن يكتبها، ناهيك عمن يقرأها.
    وفي رأيي المتواضع فإن أية قصة قصيرة جداً لا تكون خاطفة مدهشة مفتوحة وتثير عاصفة من التساؤلات فهي ليست قصة قصيرة جداً، وإن ارتدت ثوبها وادعت نسبها.
    ومن هنا فكتابة القصة القصيرة جداً هي مرحلة ما بعد كتابة القصة القصيرة لأنها الأصعب وتتطلب نضجاً فنياً لا يتأتى لكل من يكتب القصة القصيرة.
    وبعد، فإن القصة القصيرة جداً لون ممتع ومدهش من فن القص يتناسب والعصر المتسارع بشكل مذهل مجنون!


  • وجدت في المقالة دقة التعبير والاقتراب من الموضوع من غير شطط ومن غير استعراض للتنظير الذي أرهق الموضوع في معظم الدراسات. يبدو أن قصر القصص القصيرة جدا دفع المنظرين ليكونوا أوصياء ورجال درك وعسس. ليتهم اكتفوا بذلك لكنهم جلدونا بتنظيرات وشبكات عنكبوتية وفيروسية ما أنزل الله بها من سلطان.
    ق-ق-ج- من متفرعات السرد العربي وليس رافدا من الخارج، ولكنّه لم يرتد ثوبا ورداء خاصّا به إلا متأخرا.

    أنا من أعضاء التأسيس لملتقيات القصة القصيرة جدا في حلب. وشاركت في الملتقى الأول في دمشق
    وأحبذ هذا الأدب بحذر لأنّني أخشى عليه من الاستهتار والاستسهال وجرى الكثير من هذا.


في العدد نفسه

ياسمينة صالح: تعزية

تهنئة رمضانية

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 73: الليبرالية: ما لها وما عليها

الجمال بين الذاتي والموضوعي