ياسين الزكري - اليمن
على مقربة من الوردة المتوحشة
قراءة في مجموعة خالد الرويشان القصصية
المجموعة القصصية: نظرة عامة سريعة
نحتفظ دوما في وعينا أن الوردة دلالة باتساع الجمال وتنوعاته وشفافية تعبيره، لكن القاص هنا يبدأ في إفقادنا هذا التوازن المعتاد والمألوف بصدمة العنوان (الوردة المتوحشة)، وهي صدمة وفقا لنظرية أوزبل لازمة لإكسابك دلالات وأبعاد ورؤى جديدة.
عليك إذا أن تتخلى عن جمود المعتاد ومسلماته إن شئت الدخول إلى حديقة الفن فالفن في حقيقته (نقد الحياة) أو المحاولة المستمرة لكسر قيد ما من قيودها في كل مرة، والتمرد على كل ما من شأن جموده أن يدعك في ذات المكان. الفن لا يعترف بالثبات بل ربما أن المنهجية التي يحاول النقد جر الفن إليها كثيرا ما تمثل حائلا بين ما يود الفن إيصاله وبين ما يقوى هذا المنهج أو ذاك على إيصاله فعلا، وربما أن ما يلتقي فيه الفن والعلم هو أن الثابت الوحيد في هذا الكون هو التغير فقط.
* الزمان/المكان
ربما تجد نفسك قد التقطت مأخذا ما وأنت تمر عبر الصفحات من حيث أنك لا تجد تاريخ توقيع النصوص المحتواة، لكنك ما أن تبدأ القراءة حتى تجد الكاتب يسحب منك المأخذ هذا رويدا رويدا من خلال أزمنة النصوص ذاتها حيث تجد نفسك إما أمام أزمنة في المدى ممكن القياس كعمر الانتخابات في اليمن كما نجد في "الوردة المتوحشة" (النص) أو زمن ممكن الإحاطة أيضا بالنسبة لبدء التعليم المدرسي في اليمن كما نجد في قصة "لا شيء يومض في هذه الحياة".
أو أنك تجد نفسك أمام زمن متجدد كما هو زمن المقيل، ما يجعل الذي كنت تظنه عيبا يتحول إلى ميزة بشكل ما، فكأن الكاتب لا يود صرفك عن زمن القصة بتوقيعه تاريخ الكتابة إضافة إلى أن التنوع في الأزمنة الداخلية لمحتوى المجموعة يبعدك عن الملل فلا تجد نفسك في زمن مكرر وهذا ينطبق أيضا على الأمكنة.
الصورة
للصورة في المجموعة حضور شعري كثيف فأنت تتحرك أنى اتجهت في مفاوز من الصور المتنوعة بل والجديدة.
* الأجواء والاعتمالات
تحوي المجموعة نفسا تنويريا، مدنيا تحديثيا كما نجد في تكويناتها من مثل الانتخابات، الطاولة وهي إشارة قوية للحوار مع الآخر الذي قد يكون فينا كذلك. وكما نجد في كسر خرافة التفسير الميتافيزيقي لخسوف القمر في "لا شيء يومض في هذه الحياة."
وببساطة شديدة تجد نفسك عبر صفحات معدودة تعيش الحياة بتنوعات آلامها، أفراحها، صدماتها، مفاجآتها المدهشة والقاتلة.
* ممارسة النقد أثناء الكتابة
وهذا هو المحور الذي استهدفه في هذه القراءة متخذا قصة "النقطة الهائلة" موضوعا لهذه القراءة.
يقول إدوارد سعيد: النقد الجيد يختار مادته.
وعندما لا يجد الناقد نفسه أمام مهمة أو أكثر من المهام التالية:
الحذف والإضافة - التصحيح – التنقيح – الحاجة إلى إعادة الكتابة الجذرية للعمل الأدبي . يعلم أن الكاتب قد مارس النقد أثناء الكتابة إلى حد يشرحه ما تبقى أمام الناقد فإن وجدت نفسك كناقد أمام عمل يجعل من النقد –وجوبا- حالة إبداعية مواكبة للعمل الإبداعي، أي تلك اللحظة التي يكون فيها العملان الإبداعي والنقدي كلاهما أولا، لا أن يكون هذا أولا والآخر ثانيا، كما يرى مري كريغر (Murray Krieger)، الذي يعتبر أن العمل النقدي وموضوعه المفترض هما –إبداعيا– من المستوى نفسه، أي أنه ينبغي للنقد وموضوعه (المنقود) أن يمثلا ذات الأولوية بحيث لا يجوز التساؤل حول أي منهما يأتي أولا.
وهذا أمر لا يتأتى إلا إذا كان الكاتب قد مارس ملكة النقد بشكل فاعل رفقة كتابة العمل الإبداعي ذاته.
ويقول ت. س. اليوت (T. S. Elliott): الجزء الأكبر من جهد المؤلف في إنشاء عمله هو في حقيقة الأمر جهد نقدي. ويحدد اليوت أبعاد هذا الجهد بــ: الغربلة، الجمع، الإنشاء، الشطب، التصحيح، الاختبار.
في قصة خالد الرويشان الموسومة "النقطة الهائلة"، التي اتخذها موضوعا هنا، نجد أن القصة تحوي أكثر من اثني عشر حدثا أو مشهدا في اثني عشر سطرا فقط، وتحديدا في اثنتين وسبعين كلمة فقط، فماذا يعني هذا؟ يعتبر اليوت أن هذا الجهد هو أكثر أنواع النقد حيوية. ويستخلص اليوت أن سر تفوق مبدع على آخر هو في تميز ممارسته ملكته النقدية أكثر من الآخر.
يقول اليوت: هذا الكد المخيف نقدي بمقدار ما هو إبداعي، بل إني –والكلام لاليوت – أزعم أن النقد الذي يوظفه الكاتب الماهر والمدرب في عمله من أكثر أنواع النقد حيوية.
قراءة أولى في قصة "النقطة الهائلة"
كل مساء، وعلى طاولة أحزانه، يجلس إلى قلبه، يفك أزرار كآبته، وخيوط ذاكرته، وتلافيف أوهامه.
ينز القلب بالتعب، تتهلل أوردته بالذكريات، وتنداح شرايينه بالأسئلة.
يتفطر القلب على قلبه، على أصدقاء يموتون للتو، وبهجات لا تدوم. على الوعد الذي صار عدوا. على العدو الذي صار وعدا! (وعد بالعين وليس بالغين. يا للنقطة الهائلة!)
على طاولة أحزانه يشفق على قلبه، فيغسله من آلامه بماء التسامح، ويطهره من أدران يومه بعطر الحب، ثم يداوي جراحه ببلسم النسيان. ينام.
تأخذ القصة زمنها من تلك اللحظة المسائية التي تحين عندها لحظة المبيت وهي لحظة يمكن قراءتها وفق الأشهر على واحد أو أكثر من احتمالات أربعة:
أن يكون يومك السابق تلك اللحظة عاديا.
أن يكون يومك ذاك أهداك فرحة أو حدثا ما يضفي على مشاعرك الكثير من السعادة.
أن يثقل يومك ذاك كاهلك بالألم، الحزن ، البؤس أو ما شابه.
أن يحمل يومك كل ذلك المزيج فأين يمكن أن تكون القصة يا ترى ضمن هذه الاحتمالات.
لنتأمل معا المقطع الأول من القصة. تقول القصة:
كل مساء، وعلى طاولة أحزانه، يجلس إلى قلبه، يفك أزرار كآبته، وخيوط ذاكرته، وتلافيف أوهامه.
لننظر الآن فيما يمر أمامنا من مشاهد: إنها كل تلك المشاهد التي تمر علينا ساعات النهار وشيئا من الليل حتى ساعة التوجه للخلود إلى النوم، كل ذلك بمحتواه المتنوع من الألم والجراح والآمال والفرح والحزن، ولأنه يمكن أن يستدعى بطريقة ما مكثفة فلم ترد تلك التفاصيل في مقدمة القصة. ألا يعني ذلك أن الكاتب قد مارس كمّا من النقد أوصلنا إلى هذا الإيجاز الجميل؟ ثم أنظر كم كانت البداية ستبدو مملة لو أن الكاتب بدأ شرح الأحداث منذ بدء النهار، وكم هو جميل تجنبه ذلك.
نحن الآن أمام لحظة صوفية من نوع عميق، فأنت قد تحررت من كآبتك، وذاكرتك المسبقة، وأوهامك. وبالتالي فأنت أمام لحظة مجردة من الأحكام والتعبئة المسبقة، لحظة طهر حقيقي، ولحظة تأمل مجردة من كل ما يمكن أن يجرها وجهة التوجيه المسبق. أنت الآن تلك الروح التي تحلق خفيفة من أعباء اليوم الفائت بكل مزيجه الجميل وغير الجميل. تنظر الآن من أعلى نظرة حياد: إنها اللحظة الإنسانية المحضة والمعقدة إجراءات الوصول إليها، فليس سهلا أن تحاكم الأحداث بروح تجردها تماما من عوالق ما يسبق لحظة المحاكمة أو التقييم أو القراءة تلك. تنظر الآن من أعلى إلى طاولة. على الطاولة تجد ما يشبه شاشة تلفاز، أو مسرحا من نوع ما. على الطاولة المسرح: أصدقاء يموتون للتو. بهجات عابرة لا تدوم. وعد يصير عدوا. عدو يصير وعدا. أمامك إذا شريط أحداث كل حدث بقصة. كم قصة حوتها هذه الكلمات المعدودة الكثيرة في ذات الآن؟
على الطاولة قلب يحوي هذا المزيج غير المتجانس من المشاعر الإنسانية التي تكون معا لوحة عنوانها: (فرح عابر وحزن مقيم).
ما الذي يمكنك الشعور به حينها؟ ألا يتفطر قلبك الرائي على قلبك المرمي على الطاولة؟ تأمل معي المقطع الثالث من القصة:
يتفطر القلب على قلبه، على أصدقاء يموتون للتو، وبهجات لا تدوم. على الوعد الذي صار عدوا. على العدو الذي صار وعدا! (وعد بالعين وليس بالغين. يا للنقطة الهائلة!)
أي تعبير يمكن أن يستخدم هنا أكثر قوة من القول: يتفطر القلب على قلبه؟ ثم كيف يمكنك وأنت تنظر إلى قلب أحدهم يتلوى تحت ثقل كل تلك الشحنة المهولة من الأحزان. أصدقاء يموتون الآن، حزن طري، حديث طازج، إنها اللحظة الصادمة بكل مباغتتها وثقلها. ليس ذلك فحسب، بل ووعود تنقلب أعداء، وأعداء يتخذون وضعية الوعود.
ثمة رسالة قوية تبثها القصة هنا فحواها: أنت الآن لست أنت بعد قليل. فالوعد يمكن أن ينقلب عدوا وكذا العدو أيضا.
ماذا عساك أن تفعل أمام مشهد قياماتي كهذا يعتمل في أعماق أحدهم بجوارك؟ وماذا لو كان هذا القلب هو قلبك أنت؟ أي تعبير يمكنك به وصف تلك اللحظة؟ فكر قليلا فيما يمكن قوله ثم قارنه بالجملة التالية:
على طاولة أحزانه يشفق على قلبه.
يا الله! يشفق على قلبه. لكأن الصدمة الأولى لا تكفي، فيتبعها الكاتب بصدمة أخرى قبل تمام الإفاقة من الأولى. هل ثمة ألم أكبر من ألم يجعلك تشفق على قلبك؟ ما المخرج الآن إذا؟
في أجواء كهذه، وحين تود الذهاب إلى النوم تجد نفسك خارج إرادة ذاتك تفرز الأحداث. الفرحة خفيفة الوزن ولذلك فهي سرعان ما تتبخر حال حضور الحزن، الألم. وحينما يحضر الجرح، الألم، تحضر هواجس نفسية إجبارية، تلتحف البطانية أو تتخذ من سطح الغرفة المقابل ميدانا لتصفية الحساب. توسع هذا الخصم الذي أرقك جرحه ضربا وتقتيلا. تعيد ترتيب الحزن فرحا. تحاول بشتى الطرق غير المنطقية أن تخرج منتصرا ولذلك يظل نصرا في عالم أحلام اليقظة. يظل نصرا وهميا. هنا ندخل في مرحلة اختبار كما قال اليوت وكما ورد لدينا فيما سبق، فالكاتب قد خلع أوهامه قبلا كما ورد في مدخل القصة، فهل يتناقض هنا؟ إنها مرحلة من أعقد المراحل لتمييز البشري عن الإنساني، لحظة ألم ما قبل المبيت إلى الفراش. فكيف تتصرف الشخصية هنا. تقول القصة:
على طاولة أحزانه يشفق على قلبه، فيغسله من آلامه بماء التسامح، ويطهره من أدران يومه بعطر الحب، ثم يداوي جراحه ببلسم النسيان. ينام.
سرعان ما نتذكر هنا قوله تعالى: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا. وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما. (سورة الفرقان).
إنها الرسالة التي ترسلها القصة للقارئ: الفضيلة. أن تكون إنسانا لا يعني أن تتصرف كبشر بل كإنسان. وأن تختار الطريق الأصعب يعني أنك تتجه صوب توصيف الإنسان الأجمل.
في الحديث عن التجربة الإبداعية، الكتابة، العمل الإبداعي ينزح الحديث كثيرا صوب أن لحظة الكتابة هي لحظة لا وعي، فهل هي حقا كذلك؟ لنرى.
يصف أرباب العلوم الفسيولوجية أن الأوردة تنقل الدم غير المؤكسج إلى القلب، وتنقل الشرايين الدم المؤكسج إلى الجسم، ويمكن هنا الحديث عن مقاربة ما مع النص، فالدم الذي تنقله الأوردة سبق وأن كان مؤكسجا، أي أنه صاحب ماضٍ، وهو يصلح للحديث عن ذكريات جميلة مرت، وتحمل الشرايين بشارة حياة مستقبلية لخلايا الجسم من حيث كونها تنقل الغذاء، وكذلك تفعل الأسئلة. وفي المقطع الثاني من القصة نجد:
ينز القلب بالتعب، تتهلل أوردته بالذكريات، وتنداح شرايينه بالأسئلة.
والسؤال هل يمكن للحظة غير واعية إدراك مقاربة بهذه الدقة أم أن ذلك شاهد أن اللحظة الإبداعية هي لحظة العيش في أعلى مستويات الوعي؟ أنا أميل إلى الحالة الثانية ولا مانع أن نختلف في ذلك. قد يقول قائل إن الكاتب في لحظة الكتابة يمكنه استعادة المخزون وقد يكون ذلك في المخزون. نعم ولكن أن تفترض وجود المعلومة في الذاكرة الحاضرة، هذا يساوي احتمال عدم وجودها كذلك، كما أن وجودها المفترض يطرح سؤالا أيضا حول مقدرة غير الواعي التذكر بهذا العمق.
انظر الآن كم من النقد الممارس من قبل الكاتب.
* عنوان القصة
معلوم أن العنوان عادة يرتبط بعلاقة ما مع النص سواء من حيث كونه تركيز للموضوع، أو الموضوع شرح له، أو ما شابه ذلك من علاقات. لكن ثمة عنونات تنزع صوب الدهشة أيضا.
بين مفهومي (التفكير) و (النظر) مسافة ما بين العلم والفلسفة. وأنت حين تبني علاقات مترابطة للحصول على ملامح مكتملة فأنت تفكر. حين تفكك الحقائق المكتملة إلى جزئيات مكونة فأنت تنظر في ذلك التكوين ومن خلاله إلى علائقه.
نحن نعرف النقطة المهملة
عنون الكاتب قصته بـ: النقطة الهائلة. ترى هل تكون النقطة هائلة. يعتبر علماء الفيزياء النظرية أن المجموعة الشمسية نقطة يمكن إهمالها عند دراسة أبعاد المجرة، وكذلك المجرة بالنسبة لحجم الكون. وباستخدام الطقوس الشرقية يمكن للنقطة أن تكون هائلة لدى لاعب اليوغا المتمرس، حيث يمكنه التركيز على نقطة ما صغيرة لكنه بطريقة تظهر فيها النقطة بمساحة المشهد، فأي نقطة يدفع بنا الكاتب كي نراها هائلة؟ ووفق أي قانون؟ في المبدأ الصوفي وحين تعتاد التأمل، فإنك ترى الأمور بطريقة أكثر تمكينا في مسألة اصطياد الدهشة. ترى هل فكر أحدنا يوما فيما تعنيه النقطة التي نضعها على الحرف الأبجدي مع استخدامنا الكثير لمقولة "نضع النقاط على الحروف"؟
أليست النقطة هذه التي نصفها باللا شيء، ولا نحدد متى؟ أليست هي من ينقلك من حرف لآخر؟ من دلالة لأخرى؟ أليس موقعها من يحيل الجمر خمرا مثلا. لنتأمل الآن.
يتفطر القلب على قلبه، على أصدقاء يموتون للتو، وبهجات لا تدوم. على الوعد الذي صار عدوا. على العدو الذي صار وعدا! (وعد بالعين وليس بالغين. يا للنقطة الهائلة!)
ولنتأمل كثيرا في (وعد بالعين وليس بالغين. يا للنقطة الهائلة!)
أخيرا، جميعنا نشاهد. قليلون منا ينظرون. لكن قلة قلية هم من يجيدون النظر.
= = =
خالد الرويشان: قاص يمني. تولى مناصب ثقافية منها وزير الثقافة. الوردة المتوحشة مجموعته القصصية الأولى. الناشر: المكتب المصري للمطبوعات، القاهرة (2005). تضم المجموعة أربع عشرة قصة.