عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ياسين الزكري - اليمن

صنعاء ملهمة ومكان


ياسين الزكريصنعاء مدينة الطين وغابة الإسمنت. ملتقى السلتة والزربيان. ممشى السافرات من الوافدات سياحة، تمثيلا دبلوماسيا، أو عابرات مكان وحديقة تجمع زاهرات الوجوه والنساء الخيام. من أي الوجهات أتيت تجد رفقتك عبق التاريخ بنكهة وجهته المائزة، فاليمن كلها لا تعبق بشيء كعبقها بالتاريخ. لكن التاريخ في صنعاء له نكهة أخرى هي خليط من كل ما تنثره جهات البلاد الأربع.

صنعاء التسمية والجذور

تعتبر مدينة صنعاء القديمة من أقدم مدن العالم حيث يعود أصلها الأسطوري إلى سام بن نوح الذي أشير إلى اسمه القديم (آزال) في سفر التكوين. وتُسمى صنعاء أيضاً بمدينة آزال نسبة إلى سام بن نوح. كما يقول علماء اللغة أن اسم صنعاء يعني في الأصل "المكان المحصن جيداً." ويقال أيضاً إنها سميت صنعاء لكثرة الصناعة فيها إبان العهد القديم.

ويعود تاريخ عمارة مدينة صنعاء القديمة إلى ما قبل الميلاد في العهدين السبأي والحميري، لكن النقوش الأثرية تبين أن معالمها التراثية ظهرت في عام 70م باسم "سهجران صنعوا،" أي مدينة صنعاء. ويقال إن الملك الذي أنشأها هو "هلك أمر بن كرب ملك سبأ وذو ريدان،" والكلام لـمحمد القاضي.

صنعاء الزمان

تأتي من أي وجهة صوب صنعاء المكان تحط رحالك في باب اليمن. تجدك واقفا في نقطة بين زمنين. تدلف إلى باب اليمن فتضيع ساعتك الحساب، وتعود مسافة زمن في الزمان. الأرض أحجار ذات ذاكرة متنوعة كطقس صنعاء. تدخل سمسرة النحاس تشرب الشاي المفور بالحليب. هنا متحف الأزمنة. هذا شمر يهرعش. ذاك سبأي وذاك شاهد من معين. حمير. زاوسان قتبان. هذي فواصل ذاكرة مرت هنا ذات يوم وتسللت خلسة من كتب التاريخ فضلت طريق العودة. وهنا تلتقي يمنات. من هنا مرت الأقدام حافية. هنا مرت قوافل الجمال. هناك مرت عربات الولاة تجرها الخيول. هنا استراح المحاربون إبان الغزو التركي. هناك انتصبت مدافع الثورة. هنالك في تلك الأزقة سقطت حكومة مغشية ذات يوم. وذاك سجن القلعة. هناك عسكر المشاة. هنا تناحر الرفاق. هناك تحاصر الناس. ومن هنا تسوق الناس بعد مرور العاصفة (س)، العاصفة (ص)، العاصفة (ع)، إلى آخره. أزمنة كصفحات التاريخ متغبرة النكهة. اللحن. ولون الخطاب.

المكان

تدلف باب اليمن. الأرض صخرية كقسوة التاريخ في الوطن، الحرمان. الأرض أحجار مرت بها السيول فينة. نثرت على وجوهها الدماء فينات معارك حتى انكسار الحصار. لكنها ما رقت سوى أنها تنعمت وجها، وازدادت قسوة وشراسة. الجدار في صنعاء القديمة ممتد في وجه الريح، طيني كشبام حضرموت، وكتريم تحوي ذاكرته قلم وكتاب. وكأي مكان تعتمل خلفه الكير من القلوب الفرحة والمشاعر البائسة. للطيرمانة ذاكرة المدائن حديث عن الصفقات. وحديث المقيل متعدد المحطات من أول النكتة "الزبجة" مرورا بأخبار الرياضة، الأدب، السياسة، حتى هيام الساعة السليمانية وسهو السلام حال الانصراف. بيوت تلتقي خلف جدرانها الهاشمية بالقبيلة بالسائحين.

تتجول في باب اليمن. نهار كحشر الزحام. سماء ساخنة. أرض تستعر. جدران تلطف نسيمات الرياح العابرة، أفياء يهدهدها لطيف الهواء. من هنا مرت أقدام نحو القلعة. أخرى صوب حدة "صنعاء الجديدة" قلة باقية. تنعطف نحو سوق الملح. الحبوب تضاريس البلاد: ذرة بيضاء، حمراء، صفراء. رومية. هنا دخن تهامة. هناك العنب الصعدي، الصنعائي. الحبحب الماربي. تمر حضرموت. وحلوى الراهدة. سوق الزبيب. هنا المعصر البلدي وزاوية البيرة عدن. وأخرى لزوم السياحة.

القات هو القات، عنوان التلاقي بين همدان وخولان وحراز. رداع. بخاري اب وذحلة ذمار. الناس بين الثياب الطويلة، المعوز والبنطلون. سوق الجنابي هنا نفسه. هناك جنابي تلتمع صعودا وهبوطا على إيقاع البرع. هناك جنبية قتلت واحدا لم يدفع ثمن السنبوسة الواحدة ذات عصر يوم حار من رمضان. ذات الشهر الذي تجد فيه صوتا أجش هنا.

"فطورك يا صايم كيلو تمر بثلاث مية."

آخر طفولي.

"فطورك يا صايم خمسة أمواس بعشرة."

صوت هناك استهلك نصف وضوحه:

"وعلى خمسين يا رعوي."

وهناك فرزة للحمير الناقلة عبر الأزقة. هنا "اتليه" ملتقى الأحلام الجديدة. هنا تأتلف الكريمات بالتبغ بالأحذية.

تخرج من باب اليمن تتجاوز سور الطين العظيم. تحط قدمك على الإسفلت. تتغير الثروة بين الحبوب الملونة ورائحة النفط. وبارد في الليل، مستعر في النهار، اسمنت الجدار. تغادر عصراً ويأتيك عصر. في الجوار مقبرة الشهداء. مبنى المدفعية. مكتب الدفاع. ومؤسسة تبيع اللحم بسعر قليل وتبيع بالتقسيط الأثاث.

تقف على جسر السائلة. تحتك تمر أكياس القات. الزبالة. بعض أسرار البيوت. كثيرا من الماء والرمل والعلب الفارغة القادمة من غير مكان في جوار الجوار.

بستان السلطان. هنا ولد الزبيري. هناك مات متأثراً بالجراح. وهناك كاد بسحب عبد الرقيب. باب السباح شول تستعر لتحضير السلتة خلف رؤوس بائعات الملوج اللحوح. بعض من أثر التركي هنا. في هاتيك الحديقة فر مارد الثورة، وثمة جندي مجهول. وفي المسافة بين مدرستين وناد رياضي يبيع المحضار بالجملة الأدوية. في القاع تدرك كيف تحكي السراديب "صدق حوار اليهود."

تمر بالسبعين ذاكرة من دم وخطاب نثرتها الألسن والرصاص لكيما تظل صنعاء وجهة للجميع. وملتقى للجميع. ثمة نقطة تفرق بين زمنين هناك. حيث تلتقي وجهة حدة من شارع اللافتاة الغريبة وعمارات البسكويت بالجهات الثلاث"النامية."

الليل

الليل في صنعاء آمن: عسس كثيرون، وأمان كثير. بقاع مضيئة بين مقهى للشاي، آخر للإنترنت. زقلة من بائعي القات. زحام من الكلاب الضالة. قليل من دخان السيارات. حياة هادرة في "شارع الشاحنات." أقواس مضيئة في صنعاء القديمة، وذاكرة بعض خراسانات البيوت.

الناس

الناس في صنعاء أطياف كألوان زي العساكر. وفي سوق القات يلتقي المعوز الحضرمي بالعسيب الحميري، بالتوزة، بالبنطلون والثوب الطويل، والفوطة العدنية.

النساء بين فتيات البوالط. جينز الضيوف العابرات. شيادر الأمهات. والطرحة الشائخة.

في ذات الشارع تسمع أغنية المحضار، الفضول، القمندان، الكاف، والقاضيين، العطاس، الصريمي، والشاعر الحاكم في كوكبان.

الطقس

الطقس في صنعاء بين غيم الصباحات. دخان في الضحى. سعير الهجير. معفر بالعواصف عصر المقيل. وفي ندرة من الليل ماطر. فصول العام في دورة الساعة الواحدة.

نموذج

في صنعاء القديمة حيث مباني الآجر تعانق الغيم، كم يحلو شرب القهوة على أريكة من سحاب! يقول الشاعر عبد العزيز المقالح في رائعته "الشمس تتناول القهوة في صنعاء القديمة":

لك أن تشرب قهوتك الليلة

في أي مكان

في روما أو باريس

وأن تشربها بالقرفة

أو بالهال

وباللبن الطازج

أو بالعسل الجبلي

لك أن تختار مكانك

في مقهى مغمور بالضوء الباذخ

أو مطلي بالعتمة

لكنك لن تذوق فنجانا

أشهى من فنجان صنعاني

يأخذ شكل بخار الغيمة

وهي تبلل جفن صباح

يفتح عينيه الخضراوين

على جبل تكسو عري حجارته

أشجار البن

D 1 تموز (يوليو) 2007     A ياسين الزكري     C 0 تعليقات