عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فتحي العكرمي – تونس

قطار الفرح ونصوص أخرى


فتحي العكرميقطار الفرح

بأسمال بالية تلحّف جسمه الغضّ وعلى وجهه جَمال زادته البراءة حسنا. عيناه الخضراوان تنامان تحت رموش ناعمة. غارق في الفقر وموغل في الصّمت. ترجّه رغبة جارحة في أن يمتلك لعبة. يتخيّل قطارا صغيرا يتحرّك آليّا على السكّة. يرى أقرانه وهم يلعبون فتتملّكه رغبة جارحة في البكاء فتخونه دموعه. استيقظ يوم العيد باكرا، لم يجد الفَرَح الذي حلم به في اللّيل، رأى أمّه قابعة على تخوم الحزن. حين كبر عرف أنّ أباه دهسه قطار فمات وتركه دون لعبة.


الانتظار

جلست الأمّ تراقب الطّريق الذي يوصل إلى الجبل مُنتظرة وحيدها الذي سيحلّ من سفر طويل. أعدّت له شوقا وقِصصا عن الخيالات التي زارتها في وحدتها. ستروي له تفاصيل الأحلام التي رأتها في غيابه. حلّ الغَسَق ولم يظهر، انقضى اللّيل وهي تصيخ السّمع، طلع النّهار وقلق الانتظار يرجّها لوحيدها الذي أخذته الغُربة وتفاصيل الحياة.

فاجأتها إغفاءة فزارتها الأحلام المتداخلة: تلمح طيفه مقبلا تسبقه ابتسامة الحنين لحضن افتقده طويلا، ترى جسدها موغلا في الرّحيل بحثا عن القوت تحمل معها ابنها بقدمين حافيتين وبثياب مُرقّعة، كانت تنتقل في مواسم الحصاد من بيدر الفقر إلى قبيلة التشرّد، تركها زوجها مع صغيرها مجهولة في كوخ على حافّة الجبل.

تدرّبت على الصّبر وعرفت صنوف الفاقة. كانت لا تستقرّ على فرح فهي دائمة التّرحال تحمل معها وحيدها وتجرّ وراءها انتظارا موحشا لفضاء تكون فيه الحياة ممكنة. استيقظت وقد بدأ الغسق في رسم ألوانه، التفتت قربها فلم تجد سوى الفراغ يحيط بها. وضعت وجهها بين يديها وعادت إلى سفر الانتظار.


حبّ يموت على الشاطئ

التقيا ذات صدفة على مشارف مدينة مُسرعة. جسدان مُقبلان على الحياة، روحَان يطلُبان الفَرَح، فاضت مشاعر الحبّ على قلبيهما، غرِقا في وحل العشق، يلتقيان كلّ يوم بمزيد من اللّهفة ليتأمّل وجهها المرسوم بجمال طفوليّ. أضحى قلبه مُصوّبا إلى باحَة عشقها، ينتظرها كلّ صباح على أحرّ من الفَقد، كان يرى فيها الغيمة التي ستُمطِر لتبلّل صحراء روحه بسعادة تخيّلها طويلا. أوغل قلبه في الفرح وأضحت روحُه مُشرّعة على ربيع سيُزهر حين تلتقي الرّوحان في إغماءة الحواس. يأتيه الحلم بصورتها وهي ترفل في فستان بألوان متناسقة، حين يستيقظ يُلملم فرحه مُنشدا

"وانّي لأهوى النّوم في غير محلّه ---لعلّ لقاء في المنام يكون"

كان الوقت صيفا، وقفا قرب الشاطئ يتأمّلان طيور النورس ويستمعان إلى الموج وهو يردّد معزوفته. جسد مصقول وعينان بلون البحر وقامتها فارعة، تنحدر من عائلة ثريّة. قطعت الصّمت قائلة: لقد علِمت عائلتي بقصة عشقنا ورفضت زواجنا. اقترب منها بقامته القصيرة ترجّه الصّدمة، يتأمّل عينيها طويلا ثمّ يخاطبها هامسا: "لي الحُلم، سأرسمك وشما على قلبي، وسيظلّ البحر حبيبي ".


أغنية للموت

لك كلّ الألق أيّتها الحياة التي أرضعتنا حليب الانتظار وأطعمتنا كلّ ألوان الفَقد، دُمتَ شامخا أيّها الوجود الذي ألقانا إلى يُتْم يتسلّل إلى القلب فيرسم عليه وشم التّشرّد في عالم موحش. تقبّل منّا بعض الزّهور التي جمعناها في غفلة منك لنَهْدِيها إليك لتفرح حين تُجرّعنا كؤوس الألم فمن شِيَمك أن تكون مسرورا حين ترانا نلملم جراحنا ونجمّع تشتّتا هو من صنيعك. من أين تسلّلت إليك طقوس القسوة لنلقاك تعجن أرواحنا بحِنّاء الوجع؟ ألم تتعب بعد من سفرك في أجسادنا تخطّ عليها عجزا غائرا في الرّوح وترسم عليها وشم الفجائع؟

سنهديك عطرا عجنّاه من ورود الرّوح لتلتهمنا وأنت مُقبل على الفرح، فلْتأخذ كل ذاكرتنا لتعرف كم كنت قادرا على حرث صحراء الرّوح بمعاول صدئة لتكون بُوارا. سنعطيك هشاشتنا التي صنعتنا بها ليكون سبك أجسادنا مستحيلا. ماذا ستفعل حين يُفاجئك العيد وأنت تسخر من ضعفنا ؟

نُعطيك كل الحبّ الذي يرفرف على قلوبنا لتبني به على مقابرنا مسكنا تراقب منه عجزنا الكامل. نهب إليك فرحنا الطّفولي المُطارد من جحافل العسس لِتتدرّب به على خيالات سعادة لا تعرفها ولا تريدها لنا.

لك كلّ الودّ أيّها الموت الذي ينتظرنا على قارعة الظّلام، لا تكن مستعجلا ولا تخف من هروبنا فنحن مِن صنيعك لم تترك لنا مجالا للتمرّد على عرشك. فلْتُنقص قليلا من الضّوضاء والجلبة التي تحيطنا بها لتلتهم ضحيّتك وهي في أفضل حالها. تصل سعادتك إلى قمّة انتصابها وأنت ترانا نُساق إلى بيت طاعتك ونُزفّ إليك عراة بلا أحبّة وفي قلب الوحدة. أبارك لك تواضعك فمَهرك بسيط فيكفي أن نأتيك صاغرين بلا أمل ودون ألوان حتّى تستقبلنا منشرح الفؤاد.

لا تكفيك ورود العالم بألوانها ولا يمكن للرّبيع أن يرسم لك فرحك ونعجز عن مدحك فقدرتك تفيض فوق طاقتنا، لتعذر لنا عبوديّة صنعتها لنا وكنت سيّدنا لذا ترفض هدايانا.


الوفاء

تزوّجا بعد معاناة طويلة مع الفقر، صنعا بيتا مُتواضعا، يعيشان على القَناعة في قرية معزولة، يقضيان النّهار يجمعان الحَطب لبيعه، وفي اللّيل يتقاسمان حُلم الإنجاب. مرّت عليهما سنوات عِجاف رجّت روحَيهما. كانت زوجته عاقرا، أصابها مرض مُزمن فأخذها الموت. في عيد ميلادها يشتري وردتين واحدة لها والأخرى لصغيره الذي لم يُولد.

D 25 حزيران (يونيو) 2012     A فتحي العكرمي     C 11 تعليقات

6 مشاركة منتدى

  • سرد ابداعي شيق ، يحمل نفسا نادرا يحول القصة العادية الى كاريزما سردية فيها بعد انساني وومضة عاطفية !


    • العزيز مهنّد جزيل الشّكر على ملاحظاتك وتشجيعك . حاولتُ في هذه القصص أن أترك لمخيّلة القارئ مساحة للاشتغال ، وأبقيتُ مجالا للتأويل يبدعه القرّاء الذين يصنعون النّصّ بينما الكاتب يُشير الى قضية ما ويفتح مسلكا ممكنا ويستدعي فكرة وخيالا وواقعا ومُفترضا تتساوق كلّها داخل الذاكرة والفكر لتصنعها اللّغة قولا ممكنا يتمّمه القارئ ويعيد تشكيله كما يريد . تقبّل عميق محبّتي

  • ألأخ الكريم فتحي العكرمي – تونس

    في قطار الفرح..؟ "صارتِ اللعبة أكبر ألفَ مرَّة"، وفي الانتظار ..؟ هي مشاركة في العلاقة القائمة بين الشراع والريح. إذا أردنا ألاّ نخسر كثيراً..؟ فينبغي أن نراهن على التعاطي مع الشراع لا مع الريح.. وفي الوفاء..؟ ومن وجهة نظري، أرى بعض الإغراق في تحريك العواطف..؟ فلن يعيش عمره الباقي على الذكريات المؤلمة فحسب. ألفرح حاجة لا تستمر الحياة بدونها.

    لكنك لو نشرتَ نصاً يا صديقي وأغفلتَ توقيعه..؟ لعرفتك فيه على الفور من خلال اللغة المتقنة، والعبارة الطليقة الواضحة التي أحسنت التعامل معها كما العجينة، تصوغها بالحيلة والمهارة والفطنة، لتتخذ الشكل الذي تريد.


    • الأخ ابراهيم . لك منّي جزيل الشّكر على تفاعلك وعلى ملاحظاتك المُشجّعة . فعلا أحاول تملّك منهج ما في الكتابة وأسعى الى استدعاء مواضيع متعددة وأساسا تلك التي تتعلّق بجوانب منسية أو لا تُقال كثيرا أو مُهمّشة ، فوجودنا قائم في جزء منه على السعادة والعشق والاقبال على الحياة والمشاعر الفيّاضة وكذلك على الشّجن واليُتم والانتظار والظُّلم ..... لذا أريد لهذه الابعاد أن تحضر كما الأخرى .
      تقبّل عميق محبّتي

  • قطار الفرح ..دوما ...ماننتظره هو اساس حزننا ..لايكفي انه اخذ الفرحة ..وانما حطم ايامنا تحت سكته الحديدية ونحن ننتظره
    الانتظار ..هو السفر الوحيد بلا محطات..محطاته نهرب منها..تذكرنا اننا ننتظر
    حب على الشاطيء ..مادام حبا على الشاطيء فهو مات قبل ان يولد ..غسلته الامواج ..بحجة انها تريد انعاشه
    اغنية للموت..كعبدة الشياطين ..يعبدونه لاكفراً بمن يجب ان يعبدوا.بقدر خوفهم من الشيطان فيقيمون له الطقوس وكذا الموت
    الوفاء...كلنا نأبن من لم يعد بقربنا بطريقة او باخرى..احيانا اكثر ايلاماً من وردة ..


    • المبدعة هدى الدهان : تعجبني حقا تعليقاتك المقتضبة على المواد المنشورة ، فأنا أعتقد أنها بمعظمها فريدة وتضفي قيمة مضافة لمضمون القصص والمقالات والخواطر ، وهذه باعتقادي تعد موهبة نادرة تنبع من رؤيا بالغة الحكمة ورجاحة الرأي ، ناهيك عن النفاذ لأعماق النصوص واستخراج اهم ما فيها ! أتمنى ان يحظى مقالي المنشور عن السينما (عن السينما التركية )بتحليل مقتضب قد يفيديني كثيرا في مجال كتاباتي السينمائية النقدية المستقبلية ، لنك بالتاكيد ستكتشفين فيه أشياء خفية وبعد انساني كعادتك ! ودمت مع خالص الود والاحترام

    • الأخت هدى شكرا جزيلا على هذا التّكثيف والاختزال في ملاحظاتك التي أسعدتني كثيرا لأنّها تكتب نصوصا تفيض على النصّ الأصلي تحتمل تأويلا وتفتح أفقا لمعاني متجددة . قراءة عميقة تستحقّ تحيّة تضاهيها في العمق . دمت مبدعة

  • قطار الفرح:..حتى تمنيت ان اضم تلك البراءة واشترى له ثيابا و لعبة.

    الانتظار: "تدربت على الصبر..." لو كان الصبر انسانا لضجر من مصاحبتها و ابتعد.

    حب يموت على الشاطئ: يا فرحة ما تمت تقاسمتها طيور النورس و طارت.

    اغنية للموت: هل الحياة فعلا بهذه القسوة؟ بلا امل؟

    الوفاء: الوردة وردة لكنها كشوكة بؤس في القلب.


  • محًاولات شيقة و ذات نفس إبداعي مميز جمع الكاتب في الكثير من ردهاتها بين المجرد و الحسي مما جعلها تغدي الروح و الذوق معا. هناك مسحة من الحزن تجمع بين القصص و ربما ذلك ما جعلها مميزة في نهجها و كما قال المسعدي "الأدب مأساة أو لا يكون". شكرا على الإطلالة و إلى مزيد.


  • الأخ مختار تحية المودّة شكرا على مرورك الكريم ولك عميق الشكر على ملاحظاتك المضيئة .


في العدد نفسه

ياسمينة صالح: تعزية

تهنئة رمضانية

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 73: الليبرالية: ما لها وما عليها

الجمال بين الذاتي والموضوعي