عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فتحي العكرمي - تونس

الرّحيل إلى تخوم الجنون


فتحي العكرميبعينين تجمّعان الحزن وبوجنتين خطّ عليهما الزّمان وشم الصّبر كانت تخفي تفاصيل فجيعتها، تتدثّر بألم حفر جروحا في روحها وتلفّ جسدها بثياب قديمة مرقّعة، قدماها حافيتان وعلى كتفيها ينساب شَعر رماديّ مجعّد.

تقضّي وقتها على تخوم الحياة غارقة في الصّمت ترجّها الوحدة. هي الحزينة وسط اليتامى والشّريدة على حافّة كل القبائل، تسير مسرعة كأنّها مُطاردة تمتدّ خطواتها تبحث عن مكان يقيها من غربة تلاحقها.

نشأت في عائلة فقيرة وزوّجوها من شيخ قبل أن تُكمل فرحها الطفوليّ، يوقظها باكرا فتقضّي يومها تلبّي طلباته المتناقضة، لم تعرف كيف حوّلوها من مرح بريء إلى خادمة لسيّد قتل فيها ما تبقّى لها من سعادة.

ذات تمرّد، جفّ ماء صبرها فصوّبت تبحث عن مكان يقيها من عبوديّة جعلت جسدها إناء رغبة، وحوّلت روحها إلى هشيم، سارت إلى جبل على تخوم القرية ونامت لترتاح من أيّام لم تعرف فيها طعم الحياة، تسامر رفضها لواقع لم تلمح فيه سوى فُتات بقاء كان ينثرها زوجها ليبقيها صالحة لنزواته.

كرهت تسلّطه ورأت كيف تحيا القبيلة دون معنى. يغرق أهلها في ثرثرة يوميّة جاهلين لوجودهم وعاجزين عن تغيير الرّتابة التي يغوصون فيها.

حين تشتدّ عزلتها يأتي نواحها مفاجئا مثل مطر على حافّة غيمة شريدة، فتذهب إلى القرية تحمل معها عصا ترافقها أينما حلّت. وجدت رجالا جالسين تحت حائط، تفرّسوا في هيئتها ضاحكين. دنت منهم ورفعت عصاها قائلة:

"سيروا في الأرض وباشروا فعلا تتركون به أثرا، وتحرّروا من حياة القطيع".

لم يفهموا منطوق كلامها، علّق أحدهم: "خذوا الحِكم من المجانين، وتعلّموا من المشرّدين".

تبعها الأطفال مصفّقين. وجدت نسوة يغزلن الصّوف أمام كوخ، نظرن إليها مندهشات، خطّت على التّراب دائرة بالعصا قائلة: "أنتنّ سجينات من المهد إلى اللّحد، يحملوكنّ إلى أزواجكنّ صاغرات، وتعشن حقيرات وتمتن غريبات".

تعالى صياح النّسوة وهنّ يرمُقنها بنظرات التعجّب، قالت عجوز: "هذه المجنونة تريد أن تصبح رجلا بعد أن عجزت عن تحمّل أنوثتها".

نظرت إليهنّ ضاحكة: قدَركنّ أن تعشن كآلات للإنجاب ووسائل للرّغبة وسجينات الجسد والرّوح.

أعادت رسم دائرة في الهواء، ثمّ دفعت جسدها نحو الجبل، تتّكئ على رفضها لواقع غارق في الخضوع.

D 25 شباط (فبراير) 2013     A فتحي العكرمي     C 14 تعليقات

12 مشاركة منتدى

  • سيدي؛ من رحم المعاناة تولد الحكمة التي غالبا ما يكون ثمنُها باهظ التكاليف، ومأساتنا أننا نداوم على اجترار الأحزان وإرضاء الشهوات وممارسة التنكيل بالغير لإثبات الذات في صورتها المشوهة، وأي جور وتشوه أنكى من أن نمارس تعذيب نصفنا الذي لا يكون لنا وجود أو اكتمال أو هوية دونه... تلك هي الصورة التي يجسدها النص الذي أبدعت في الوقوف عند منعطفاته، منعطفات العبودية والاستعباد والتسلط التي أدت ثمنها صبية حرمت طفولتَهَا فتمردت، ووضعت أصبعها على الجرح فقالت مخاطبة الرجال ((سيروا في الأرض وباشروا فعلا تتركون به أثرا، وتحرّروا من حياة القطيع))، وخاطبت النساء الخانعات لواقع يستعبدهن قائلة ((أنتنّ سجينات من المهد إلى اللّحد، يحملوكنّ إلى أزواجكنّ صاغرات، وتعشن حقيرات وتمتن غريبات ... قدَركنّ أن تعشن كآلات للإنجاب ووسائل للرّغبة وسجينات الجسد والرّوح))، وليبقى كلامها أجراسا تدق بقوة في أذن القارئ تدعوه إلى مساءلة واقع هو جزء منه، وسؤال نفسه: ماذا صنعت لتغيير هذا الواقع؟ وتلك من الرسائل السامية التي يحملها المبدع على عاتقه.


  • نتحرّر عندما نتخلّى عن ذهنيّة القطيع وننبذ التّبعيّة، ونحترم الإنسان كقيمة بحد ذاته.

    جميل وعميق ما قرأت أستاذ فتحي

    محبتي واحترامي


  • لقد اختزلت كل مظاهر الهم والبؤس و الحرمان والاحزان في هذه المرأة، حتى صارت نموذجا للمرأة المضطهدة عبر مراحل العمر، ثم نموذجا للمرأة المتمردة على واقعها الرافضة للذل والإستغلال. هربت من سجنها إلى سجن أوسع ألا وهو المجتمع. اصبحت خريجة جامعة الحياة بجدارة لذا تتكلم الحكم و تسدي المواعظ..
    هل الهروب هو الحل؟
    ايهما ارحم لمثل هذه المرأة، سجن البيت أم سجن المجتمع؟
    هل تسلم المرأة الهاربة من الكلاب البشرية الضالة؟
    هل كل امرأة بقوة هذه المرأة؟
    وماذا غير تصرفها هذا من الواقع؟
    المعالجة لاوضاع مثل هؤلاء النسوة في بعض البيآت تبدأ من إصلاح وتوعية الطرف الآخر الا وهو الرجل الذي يتبع معها سلوكا قهريا، ويعود سبب ذلك إلى الجهل والمثول إلى العادات والتقاليد الموروثة، المترسبة والراكدة. وهذا الرجل هو الاب والاخ ثم الزوج وحتى الأبناء العاقين.

    أبدعت استاذ العكرمي كما عهدناك دائما في مواضيع البؤس والحرمان القاسية جدا جدا


  • الأخت زهرة شكرا على مرورك الكريم : نعم نحتاج لمراجعة كبيرة وعميقة وطويلة للكثير من العلاقات والتصورات لعديد القضايا خاصة الظلم الاجتماعي واللاعدالة وقهر المرأة واعتبارها مجرد شيء بينما هي عَالم من الفكر والمشاعر والفعل والابداع كما الرجل غير أنّ بعض المجتمعات لاتؤمن بذلك فهي تواصل مخزونا من العادات السيّئة والأدب من جهة ما هو كشف عن المواطن السلبية في المجتمع على الأقل لتشخيصها بدرجة أولى ثم البحث عن حلول لها . بالنّسبة للمواضيع التي أكتب فيها مثل :البؤس،الفقر،اليتم،الجنون...فأنا اخترت ذلك وأريد أن أواصل فيه للأسباب التالية: الأغنياء والمتسلّطون والسعداء يملكون كل الوسائل للتعبير عن فرحهم وعن اقبالهم على الحياة بينما المشرّدون والمظلومون يحتاجون لمن يضيئ الطريق لتظهر معاناتهم . دمت مبدعة وناقدة مع محبتي


  • الأخت مادونا شكرا على ملاحظاتك العميقة ،نحتاج فعلا للفكر وللكتابة بأنواعها مثل الأدب رغبة في التحرر والبحث عن مجتمع عادل ، للمرأة حقوق وواجبات كما الرّجل غير أنّ عقليّة الفكر الجمعي المفرطة في الجهل وفي اللافكر هي العائق امام التحرر والابداع والرغبة في الحياة لذلك فنحن نكتب أملا في حياة أفضل للجميع دون استثناء . مع محبّتي


  • أجل ماذا فعلنا لنغير هذا الواقع يا صديقي.. أرأيت كيف غزانا (حريم السالطان)، وكيف تقمّصَنا عبد الحميد..؟ "مفخرة" مسلسلات القرن..! إن لم تشاهد المسلسل أو تسمع به..؟ فتعال معي إلى "أوعية الصديد" ففيها من الوصف ما يليق:

    "ماذا أريدْ.. يا وارثاً عبدَ الحميدْ
    وخليفة الإسلام، والمَلِكُ السعيدْ
    يرمي ويأخذُ ما يريدْ
    لا.. لم يمُتْ عبدُ الحميدْ
    فلقد تَقَمَّصَ فيكمُ عبدُ الحميدْ"

    ماذا فعلنا لنسعف فتاة لم تبلغ سن المراهقة.. تئن تحت رجل عجوز، يستجدي نشوته على حافة قبره..؟ أم يكونُ خطأُ المعادلةِ جزءٌ من التوازنِ في نظامِ الكون..؟ ولِمَ لا يحدثُ في البلاد الأخرى ما يحدث عندنا..؟ ماذا فعلنا لنقنع بعض بني البشر أنهم نالوا نصيبهم من الدنيا وكفى.

    أرجو يا صديقي ألاّ تتخطى الأحزان في قلوبنا منسوب الفرح، لكي تتوازن فينا الأمور، فالفرح والإحساس بالسعادة غاية نبيلة، تنعكس سلاماً علينا وعلى من حولنا.

    تراءى لي يا صديقي أنك لجأت إلى تقليد جبران في المقاطع الأخيرة، وليس ما أقوله من باب العيب والتشهير، مادام جبران من العباقرة الخالدين في دنيا الفكر والأدب.


  • الأخ ابراهيم شكرا على مرورك الكريم وعلى ملاحظاتك وتحيّاتي العميقة للبنان البلد الجميل .هذه القصة تجسد وضعية الكثيرات وما الأدب سوى القدرة على السّكن في الواقع وفي المُتخيّل والاعمق هو ما بينهما ،نحاول إضاءة بعض الجوانب المعتّمة والقبيحة واللاانسانية والمتوحشة في ذواتنا وفي لاوعينا الجمعي وفي بعض العادات الضّاربة في اللافكر أو في المنسيّ واللاّمفكّر فيه - بعبارة فوكو وهيدغير- مثل الجنون واللاعدالة والتسلّط وتحويل المرأة الى بضاعة واليتم وقسوة الظروف المادية والاجتماعية ...لذلك أهتمّ بها كثيرا مع العلم أنّ بعض الأصدقاء والصديقات يشتركون في الحُكم بأنّني أكتب في قضايا تتميز بالحزن والمأساة واليتم ... ،بالنّسبة لتأثّري بجبران هو شرف يفوق قدراتي المتواضعة ربّما لأنّ لغته تقبع في قاع ذاكرتي لانّي قرأت له منذ مدّة طويلة حين كان الشّغف بالقراءة وبالتدرّب على الكتابة متساوقا مع البحث عن عالم جميل مازلنا نطارده كخيط دخان قارئة الفنجان لنزار قبّاني . مع عميق محبتي


  • ربمآ لأن واقعنا يحاصرنا ولأنه أيضآ واقع مرير علينا أن نخلق شيء لنغوص فيه أكثر وننسى ذاكَ الواقع ،،

    كَلماتكَ رآئعة أستاذ فتحي،،

    كل الإحترام لكْ ،،


  • حين خرجت من بيته بمساعدة ضرتها العجوز؛ لم تعد مرةأخرى كما كان يظن، فقد سئمت من دهن قدميه بالزيت المعطر بينما ينهال عليها بالتقريع والشتائم..
    لن ينتهي هذا السيناريو مالم ينتهي الجشع المستوطن في نفوسهم سواء من استلم المبلغ أومن استلم الدمية الجميلة.

    شكرا على النص الجميل
    تحيتي


  • الأخت أشواق شكرا على مرورك الكريم . نحتاج منذ زمن طويل لعقليّة مغايرة جذريّا لما هو سائد فوعينا الفردي والجمعي تربّى على الاستعباد والنظرة الدّونيّة للمرأة فهي المغتربة من المهد الى اللّحد لذلك على الادب ان يقول شيئا بحثا عن راهن افضل يكون فيه الانسان ذاتا وفكرا وجسدا ومشاعر وابداعا وتاويلا وتجديدا وليس شيئا .مع محبّتي


  • الأخت ليلى شكرا على الاختزال ،لنا الادب والفن والرغبة في التحرّر لكي لايقتلنا واقع يغوص في الفجائع وفي الاغتراب ، والأدب هومن جهة ما فضح الأبعاد المشوّهة في وجودنا الفردي والجماعي بحثا عن افق أجمل حيث يصبح الانسان غاية الغايات وليس وسيلة للاستعباد وللخضوع . مع محبتي


  • فتحي العكرمي

    المرأة في بلادنا لم تنل حريتها بعد، وقد لا تنالها في وقت قريب..مادامت قابعة تستجدي ظل الرجل، وتتزلف له لتحظى برضاه
    فلا المدنية ولا الحضارة التي بلغها العصر، تمكنت أن تستأصل من نفنسه العنجهية والاستبداد. ولا زال يرى نفسه" سي السيد". أراهن أن أي رجل شرقي، ولو وصل إلى أعلى المراتب، سيسمح لزوجته أو أخته أن تقيم علاقة صداقة مجردة مع الرجل،


    • الأخت مريم شكرا على ملاحظاتك الحرّية لاتوهب بل تُفتكّ وذلك يتطلب قدرة عالية من التفكير ومن الشجاعة والرّغبة في التفرّد خارج نمطية القطيع،أتصوّر أن كل علاقة انسانية تشترط جملة من القِيم كالاحترام والنظر إلى الآخر المغاير على أنّه شريكنا في الانسانية وفي المشاعر وحرية التفكير والحق في الوجود فليس ثمّة مايشرّع لشخص ما ان يكون هو المرجعية والحقيقة المطلقة والفكر الثاقب فوجودنا الانساني يتميّز بالتفاعل والتجدّد والتمايز . مشكلتنا انّنا نرى الحياة وفق متناقضين لايلتقيان :ذكر/أنثى،المتسلّط/الخاضع،الحقيقة الثابتة،ماسواها جهل ...فالذات الفاعلة هي التي تستوعب هذا الاختلاف فتجعله منتجا بعيدا عن العنصرية والفهم السطحي والنظر السحطي للوجود . مع جزيل الشكر

في العدد نفسه

عن مبدع الغلاف

كلمة العدد 81: الفيلم الصامت والنشر الورقي

تأثر العبرية بالعربية

تعليم الشعر الجاهلي للناشئة

تأثير الشخصيات الكرتونية على الأطفال