عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

داليا الحاج - فلسطين

حبيبتي من تكون


يبدو غريبا بين أصحابه بميوله تلك التي طالما أثارت من حوله سخرية الأولاد وتهكّم البنات، لكنه لم يكترث لهم يوما فهذه هي ميوله ولا يعنيه سواها. وما بيده إن كان يفضل الدمى على لعب الكرة.

حياته بين الدمى مثالية. كان يفضل رفقتها على رفقة الأولاد، فهم يلعبون بشكل همجي، ومن الذي يطيق إضاعة وقته بشيء مخفي المعالم يتدحرج بين الأقدام؟ إن اللعب أمر من الأمور الروحية، عليهم أن يفكروا به برقي أكبر من هذا.

بدأ شغفه بتلك الدمى منذ صغره. كان يقضي ساعات بينها، لا يشاركه عزلته سواها، حتى أثار قلق والديه، وأكثر ما قلقا بشأنه هو تأثير ميوله على مستقبله. وكم حاولا نزع تلك الدمى من حياته، لكنه كان ينجح باستردادها، أو بإيجاد البديل إن ساءت الظروف، فقد كان ببعض الأحيان يسرق الشمع ويضعه بغليون والده، ويدفعه لممارسة هواية التزلج على سجادة الحمام البيضاء.

كان ينجح دوما في تهيئة الجو المناسب لمزاجه المختلف، إلى أن دخل حياته اهتمامٌ من نوع آخر بعدما كبر سنّه وتغيرت ميوله. وبدأ اهتمامه الجديد يشغل تفكيره طيلة الوقت، جعله يعتزل عالم الدمى، وينخرط بعزلته أكثر وأكثر. لم يكن اهتماما، بل كان عشقا كما زعمت والدته. عشقا يداريه عن الأنظار ويحرص أشد الحرص على كتمانه. عشقا يُدخله عالما آخر، ويدفعه للبعد عن الأنظار، ويُربكه إذا ما وُجهت له نظرات التساؤل التي تدخله قفص الاتهام، فيتهرب منها قدر المستطاع، وهو لا يعرف لم يتهرب، أحرصا على نفسه أم على معشوقته، معشوقته التي حيرت الجميع، وأثارت بلبلة أولئك الفضوليين من حوله واستياء الشابات اللاتي كان منذ الطفولة محطا لأنظارهن وتطلعهن.

وبقي سؤال يطرح نفسه على الجميع: ترى من التي استطاعت دفعه لهجر هوسه بالدمى وأخذت مكانها في قلبه؟ حتى أنه بينه وبين نفسه كان يعاني ذهولا لا يقل عن ذهول الآخرين. لم يخطر له يوما أن من كان يراها منذ طفولته ويشيح بوجهه عنها ستدخل حياته بهذه البساطة. لم يكن يعتقد أن من كانت تنتظره هناك دوما بنفس المكان، وتدعوه بصمت للاقتراب منها ستنجح بجعله يسعى لها دون توقف.

بالمقابل كانت تعلم أنه فريسة سهله، وأن فضول المراهق غريب الأطوار بداخله سيدفعه لاكتشاف المزيد عنها، وكان فضوله كفيلا ليبادر هو بالاقتراب منها رغم إدراكه لعواقب الإقدام عليها. لكنه كغيره، ظن أنه لن يفلت زمام الأمور، فلم يكن ينوي حينها غير التعرف بها. لكنه فوجئ بنفسه متورطا بشيء لا يستطيع الإقلاع عنه، بل ربما لا يرد الإقلاع عنه.

كان يوما صاخبا: إحدى المناسبات الاجتماعية المملة التي فرضت عليه. الجميع هناك، وهو يقف بجوار الباب مترددا من الدخول، ينظر للجميع وهم ينقلون أعينهم باحثين عنه بعدما كثرت الأقاويل حوله. حاول أن يبدو طبيعيا أثناء دخوله قاعة الاحتفال وهو يكتم ابتسامة ساخرة. كان يعلم أنهم يتوقعون منه أن يدخل وهي معه، ممسكة بيده. كان كعادته يشمت بهم حينما يرى خيبة الظن على وجههم. فمن انتظروا قدومها وتبرموا لعدم مجيئها كانت معه فعلا، وإن لم يتمكن أحد من رؤيتها. كان دائما يخبئها بدفء بجوار قلبه.

كأي عاشق متيّم، وجد نفسه يتأثر بإحدى أغاني العندليب الأسمر فور سماع أنغامها الأولى ليهيم بها عشقا. وينزوي بعيدا عن الأنظار. مد يده لعلبة السجائر وهو ينصت لأنغام الموسيقى. تناول إحداها وهم بإشعالها، مرددا وهو يفكر بها:

الرفاق حائرون

يتهامسون

يتساءلون في جنون

حبيبتي من تكون

ابتسم غرورا بعشقه الجديد، أرخى جفنيه وهو ينظر إليها، كان ينتشي لرؤية معشوقته تذوب ولها به وتنتهي لأجله. كان يراقب روحها تتصاعد للسماء بزهو رجل شرقي لم ينجح بتمييزه عن غيره حتى تلك الدمى التي لا تزال متراصة بإحدى زوايا حجرته.

تمتم وهو يبدد دخان سيجارته حرصا على ألا يُكتشف أمرها وابتسامة ساخرة تضفي لكلمات الأغنية معنى من نوعٍ آخر:

لا تخافي واهدئي

إنني يا صغيرتي أخفي هواكِ عن العيون

فكيف مني يعرفون حبيبتي من تكون.

D 1 شباط (فبراير) 2008     A داليا الحاج     C 0 تعليقات