عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » عود الند: العدد الفصلي 36: ربيع 2025 » الصلاة الأخيرة

إيناس ثابت - اليمن

الصلاة الأخيرة


وقف أمامي كاللص هزيلا شاحبا مخيفا كمسخ رهيب ينتظر الفريسة. شعره مجعد، عيناه جاحظتان وفمه الأبخر شديد الاتساع. أما شفته السفلى فتتدلى حتى تكاد تبلغ منتصف الذقن. لبشرته سُمرة داكنة وعلى خده الأيسر أثر جرح قديم. مسافة قصيرة تفصل بيني وبينه، وستائر الغرفة القاتمة المسدلة عند الغروب أشاعت العتمة، وأضفتْ على المكان خوفاً وخشية.

كان يقف وحيدا في منزلي ينتظر عودتي من العاصمة، حيث أعمل صحافية وناشطة اجتماعية معروفة في الوسط المحيط. سمعتُ فيما مضى عنه وعن دمامته الشديدة، من خلال قصة قديمة روتها لي جدتي. لكنني لم أكن قد قابلته أبدا والقصة التي روتها جدتي عنه كانت أقرب ما تكون إلى الخيال منها إلى الحقيقة. وتقول القصة إن امرأة ساحرة من "المهمشين الفقراء"، فاتنة وسمراء ورقيقة كزهرة اللوتس، قدمت إلى البلدة مع زوجها وفي أحشائها جنين. كان زوجها عاملا فقيرا يخدم في البيوت، كغيره من أبناء طبقته مقابل أجر هزيل، ومسكن حقير من صفيح معدني، بعيدا عن مجمعات باقي بيوت أبناء البلدة، ممن يثيرهم ويغضبهم سكنى هؤلاء الفقراء بالقرب من مناطقهم.

كانت السيدة الفاتنة السمراء تجلس غالبا على صخرة مرتفعة تحت عين الشمس، لتصنع بأناملها الرقيقة الناعمة سلالاً ذهبية من خيوط الشمس. خاف الناس منها رغم جمالها الساحر وحذروا الاقتراب منها، فكيف لامرأة مخلوقة من طين البشر مثلنا أن تلامس خيوط الشمس وتطوِّعها حسبما تشتهي وتريد؟ أنجبت المرأة للدنيا مسخاً صغيراً دميما أسمته رفيق. رفيق هو بعينه الماثل أمامي هذه اللحظة.

حينما مات زوجها لم يرَ أحد جثته أو يحضر جنازته، فشاعت عنها أخبار تقول إنها أكلت جثته. ومن حينها لم يرها أحد تجلس على الصخرة، لتلمس خيوط الشمس وتصنع منها سلالها الذهبية. وحينما ماتت هي الأخرى بعد سنوات قليلة، لم يتعهد أو يتطوع أحد لتربية طفلها الذي أمسى بلا أب ولا أم، فعاش وحيدا يأكل بما يتصدق عليه الآخرون سراً.

ما روته جدتي يشبه خرافة يصعب تصديقها حتى وهي تقسم أغلظ الإيمان، فكيف يصدِّق أهل البلدة أن امرأة جميلة يحاكي وجهها جمال القمر أن تنجب طفلا بهذه الدمامة؟ لم يخطر في بالي على الإطلاق أن يكون هذا الإنسان على هذا القدر من القبح والدمامة، فشكله وحده كان كفيلا أن يخلع قلب أشجع الرجال، والأدهى أنه دخل منزلي ينتظر عودتي دون إرادة أو رغبة مني.

قال لي بصوت مخنوق لم أكد أسمعه: "أنا شديد الأسف لاقتحامي منزلكِ بلا استئذان، فلم أجد حلاً بديلا غير اللجوء إليكِ بعد يأسي من الحصول على وظيفة ترحم حالي وقد نبذني من في البلدة جميعا. فلم يبق أمامي إلاّ أن أراهن على صوتكِ المسموع العالي، في الدفاع عن الحق والمساواة في الإنسانية دون النظر إلى وجهي أو أصلي وفصلي".

لم أعاتبه أو ألمه على اقتحامه بيتي، وشعرت في لهجته عزة نفس لم أكن أتوقعها منه. أما وأنني قد نذرت نفسي لأعمال الخير ومساعفة الآخرين، وكل ما من شأنه أن يليق بكرامة الإنسان، فقد عملت مع مجموعة من الشباب الناشطين على إنشاء جمعية، تتولى الإشراف والعناية بمن كانت أوضاعهم مشابهة لوضع هذا الرجل الدّميم، وسط طبيعة ريفية مؤاتية تساعد على إنشاء مثل هذه الجمعية.

لم أتعجب من حديث رفيق، فجنون المدينة وطبقيتها وعنصريتها اجتاحت البلدة أيضا وشوّهت بساطتها، فاستفهمتُ منه أكثر عن أمره وحاله، وعرفتُ أنه منبوذ مطرود ومهان بلا أي قيمة أو حقوق، يراه الجميع في صورة شيطان لسوء خِلقته وأصل أسرته، فانكمش على نفسه حتى بلغ الذروة في ألمه ووحدته وصمته.

دهمني كثير من الحزن لسوء أحواله وعزمتُ على مساعدته، فباشرت في تعليمه القراءة والكتابة في الجمعية ووظفته عاملا في هذه المؤسسة الصغيرة التي أنشأتها بمساعدة الناشطين الآخرين، فصان الأمانة وعمل بإخلاص وإتقان، وكان وديعا ذكيا قليل الكلام وصاحب قلب كريم. لكأن الحياة القاسية لم تنل من روحه فتركته ولداً على سجيته وفي كامل الطفولة. كانت طيبته وسماحة روحه تتجلى في أقواله وأفعاله، حتى غدت نفسه هي الجمال بعينه. حاولت ما أمكنني أن أمسح غمامة الحزن والوحدة عنه في انتشاله من غربته ووحدته القاتلة، ومن ظلمات تلك الأرواح العنصرية المستبدة، فكنتُ له خير معينة على سوء حاله. ورأيت أمل الحياة يشرق من جديد في عينيه وقلبه.

اقتربتُ منه كثيرًا وأيقنتُ أن خيبته بالآخرين هي التي شكلت القبح على وجهه. وبعض هؤلاء أقبح من القبح نفسه، والله حينما خلقنا إنما فعل لا لكي نتميز عن الآخرين، أو يكره بعضنا البعض الآخر. هم كرهوا صورته واختلافه في الأصل عنهم. وكادوا أن يسدوا عليه أبواب الرحمة السماوية. ولكن الجمال الحقيقي لم يكن إلا في قرارة نفسه.

صدق قلبه وكذبت وجوهكم وألسنتكم. إنه أنبل من عرفتُ في هذه البلدة، إنكم تنظرون إلى صور بعضكم في المرآة وفي وجه الماء وفي عيون الآخرين ولا تنفذوا إلى العقول والقلوب. من كان منكم وجهه كوجه البدر هو الأقبح في عيني لسوء ضمائركم. لو حملتم الخير في أنفسكم لما نبذتموه هذه السنوات الطويلة، وما سكن أغنياؤكم قصورًا وفقراؤكم أكواخًا من الصفيح، وما أكل أغنياؤكم شحمًا ولحمًا في صحاف الذهب والفضة وباتت بطون فقرائكم على الخواء. ومن استعبدتموهم في قصوركم خُدامًا تجودون عليهم بأبخس الأثمان وفضلات الطعام، وفرقتم بين فرد من خارج البلدة وآخر بداخلها وبين المذاهب والأديان، أما هو فلا يعرف شيئا من سوء نفوسكم، لكأنه مخلوق الآن من صلب أبينا أدم وهابط من جنان السماء، ولو كانت القلوب موصولة بخيط للوجوه لتميز لونه عن لونكم، فغشاكم سواد القلوب وكان لوجهه نور وإشراق.

حدق بي وقال لي بحزن عميق: "أيمكن لإنسان أن ينظر خلف وجهي؟ لقد أضفتِ إلى حياتي معنى وحولتني من قبيح مضطهد لا يعرفُ معنى الجمال إلى إنسان مليء بالحياة. إن الإنسانية والحق والمساواة جميعها ولدت من رحم المحبة، وإن المحبة التي تملأ قلبك وتفيض منه خلقتْ الإنسان الذي أكونه الآن، وما لبشرٍ يرى هذا القلب ويلمس أوتاره إلا السقوط والطواف حوله، فهل تقبلين الزواج بإنسان له هيأتي؟"

ترددتُ في الإجابة عن سؤاله، فلم أستطع تخيل وجهه الدميم نائما بجانبي أو يديه اللتين تعكسان تعاسة وجهه تمسك بيدي. لم أتخيل طلبه هذا. كنت أدرك تماما أنه يملك قلباً طاهرا وضميراً نقياً، إلا أن وجهه سيرافقني صباحاً ومساءً. لن أتحمل. هذا لكن أنّى لمن ينادي بالحق ونبذ التفرقة مثلي أن يقول أو يفعل خلاف ذلك؟ أجبتُ كمن يرغب بإكمال دور البطولة: "وما الضير في طلبك هذا، القلب وحده مرآة الذات يا صديقي".

أدركتُ يومها واكتشفتُ ذاتي بأنني لست صورة خالية من العيوب تعكس صدق أفكاري وكلامي، وأنني أحمل في داخلي صفاتٍ طالبتُ بوأدها إيمانا مني أني منزهة عنها. كنتُ أشبه الجميع وربما أسوأ، فهم أظهروا حقيقتهم وأنا لم يسمح كبريائي بإظهار حقيقتي. في اليوم التالي صليت صلاتي الأخيرة في البلدة، ثم حملتُ حقيبتي فجرًا، وتركتُ له رسالة لم أجد غيرها حلاً، كتبتُ فيها:

"عزيزي رفيق: لا أستطيع رفض قلب جميل كقلبك يا صديقي. لكن لا ينبغي لمن نذرتْ نفسها لخلاص البائسين المنتظرين في المدينة أن تتخلى عما التزمت به معهم. إني راحلة إليهم، وإن شاءت لنا الأقدار يوما سنلتقي. وحتى ذلك الحين فإني أتركك في عناية الله وحفظه. وداعا يا صديقي. لكنني أرجو أن تمشي في طريقك واثقا وشامخا ومعتزا بنفسك".

ثم اتخذت قراري، وعاهدتُ نفسي ألا أعود إلى البلدة أبدا، راجية أن يجد رفيق قلباً نقيا طاهرا أفضل من قلبي.

D 1 آذار (مارس) 2025     A إيناس ثابت     C 0 تعليقات

بحث



5 مختارات عشوائية

1.  تتويج حب

2.  نصوص قصيرة

3.  إشكالية تطبيق المصطلح اللساني في الدراسات اللغوية العربية

4.  تقديم لرواية نجيب محفوظ الشحاذ

5.  دار الآداب: موقع جديد

send_material


linked image to oudnad.net pdf_xive
linked image to oudnad.net/dox