داليا الحاج - فلسطين
لو أنه لعق يده
ما بال هؤلاء القوم؟ منذ فتحت عينيها للمرة الأولى وجدتهم يحيطون بها، مجموعة من العمالقة، أشكالهم غريبة، ويصدرون أصواتا مخيفة. أحدهم يمد يده نحوها يريد أن يلمسها، فتنهره عملاقة أخرى تفوقه حجما. قد تكون أمه، لا بد أنها كذلك. وأخرى تقفز وتصفق بيديها، وشعرها الذي هرب من أنحاء جسدها ليتدلى من فوق رأسها كأنه أذنان كبيرتان يقفز معها. وآخر يضع شيئا مخيفا على عينيه يزيد من ضخامتهما. وأشياء غريبة مترامية بأنحاء الصندوق الذي يعيشون فيه. أي نوع من الكائنات هم؟ مخيفون، ومملون حد الضجر، لكنها ترى بهم شيئا من الغباء يطمئنها.
وقعت عيناها على ركنٍ بعيد بذلك الصندوق، تدخل أشعة الشمس منه مقسمة لمربعات تتسع كلما بعدت، وإلى جانبه شيء معلق، يصدر منه صوت يغريها، يُصدر ضجيجا لطيفا، يشبه زقزقة العصافير، ولكن العصافير تسكن الأغصان فلن يناسبها ضيق هذا الشيء.
تأتي العملاقة قاطعة عليها سلسلة أفكارها، مهددة اكتشافاتها بالبعثرة، تحمل بيدها شيئا تفوح منه رائحة تستفزها وتدفعها لترك زاوية أمنت بها والتوجه نحوه. يا لغباء هؤلاء القوم! لم يضيقوا على أنفسهم وعلى من حولهم؟ هذه رائحة أكل لا تفهم سبب وضعه بهذا الشيء، ليتها تعرف ما هذه الأشياء، ليتها تعرف أسماءها. ما بال هؤلاء القوم؟ لم يبحلقون بها هكذا؟ ألا يأكلون؟ لم تأبه لهم، فهي مسؤولة عن نفسها وحسب.
مرت بها الأيام وفهمت أموراً كثيرة. هذا الصندوق منزل، ومجموعة الصناديق الأصغر منه حجما غرفه. تلك الأم، وذاك الأب، وهؤلاء الأبناء، وهي سيدة هذا المنزل. لا يتردد عن خدمتها أحدا منهم، بل يتهافتون عليها. وهي تشفق عليهم، لو أن أحدهم يعرف.
ذهبت تتسلل ببطء نحو مصدر الضوء المقطع لأجزاء، وتلك العصافير المحبوسة. وبدأت تطل من زجاج باب الشرفة، عينها على الطريق، وتراقب رجلاً يبدو طاعنا في السن، وقف أمام مجموعة من الثمار بيضاوية الشكل تتدرج ألوانها بتدرجات لون الشمس، لا يميزها عن الشمس سوى تلك النقاط السوداء. وبينما هي تنظر للطريق إذ وجدت الأب يسير عليه ويختفي، لقد فعل ذلك قبلا، وكان يظهر مجددا من ذلك الباب الكبير. وقفزت راكضة نحوه، وقد حدث ما توقعت، وهنأت نفسها، لقد اكتشفت أمرا جديدا.
يدخل الأب. يهلل الطفلان ويندفعان نحوه، ويرتميان عليه، فيغلق الباب على يده. يصيح متألما، وينظر إليها متمتماً متأوها. لم كل هذا؟ كان يكفي لو أنه لعق يده.
ينفضّ التجمهر من أمام الباب، ويتجمعون مجددا حول تلك الطاولة، إنه موعد وجبة الغداء، ولهم طقوس غريبة على وشك البدء. فذهبت متسللة نحو تلك الشرفة مجددا، موجهة عيناً على الطريق، وأخرى على العصفورين في القفص.
تأتي الأم بالطعام، وتساعدها الفتاة بنقل الصحون. رائحة الطعام تستفز جوع الصغيرة، فتسرع لتسابق الوقت، تمر مسرعة من أمام أمها، فتفقد الأم توازنها، وتنجح بوضع الطبق على الطاولة، لا بد من بعض الأضرار فقد اتسخت يدها، وتسرع الأم لتريق الماء عليها. ما هذا العذاب؟ كان يكفيها لو أنها لعقت يدها. ولكن كيف ستُفهمهم هذا؟
تجلس بعيدا وهي لا تكف عن التحديق بهم، طريقتهم غريبة. إنها تحمد الله أنها ليست منهم. بهم غباء غريب. الحمد لله أنها على ما هي عليه. يبدأ الولد بالبكاء مؤكداً لها ما كانت تفكر به. ها هم يركضون مجدداً، ها هم يضعون على يده الثلج ويرشونها بذلك الرذاذ كريه الرائحة. لا بد أنه حاول أن يطفئ الشمعة بيده مجددا. ولكنها لا تفهم حقا، لماذا لا يلعق يده وحسب.
تقوم بتثاقل، فإفراطهم بتدليلها جعلها في غاية الكسل، تهم بالاتجاه لمقعدها، ولكنها تلمح الفتاة تحمل شيئا وتتجه للشرفة، فتركض نحوها، علها تفتح ذلك الباب فتتمكن من الخروج، وإن كانت الشمس على وشك الغياب. ولكن الفتاة تمد يدها لقفص العصافير. وتفكر (ليتني أصل إليه كما فعلت). تمد الفتاة ببعض الحبوب للعصفورين فيأكلان من يدها، ولكن أحدهما يقرضها خطأ. تلفتت الفتاة حولها وتأكدت من خلو المكان، وحصلت المعجزة: أخيرا قام أحد هؤلاء القوم بلعق يده. أكان ذلك صعبا؟
قامت بتململ، وعادت لمقعدها، سلة من القش عليها وسادة مخملية. إنها تكره مقعدها، لا يكف عن التشبث بشعرها، ولا يكف شعرها عن التشبث به. فهو لا يقل تعذيبا لها عن ثمرة الصبّار بيد ذلك العجوز. كم تشفق عليه. لو أنه يلعق يده.
كرة من الشعر لا تكف عن لعق يديها ومسح وجهها، قطة لا تعرف من عالم القطط شيئا سوى المواء، وتعرف عن عالم البشر كل شيء إلا الحديث.
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ