إيمان الشافعي - مصر
مجادلة
النوم هبة إلهية. لولاها لاجتاح العالم الجنون. كل ما في الكون ينام ويصحو وينام، إلا آثامنا وذكرياتنا التي لن تهدأ أبدا.
ولكنني أخشى النوم. أهاب مجرد التفكير فيه، فكلما غططت في نمو عميق استفقت مفزوعا مفتوح العينين على ذات الحلم المفجع، فقررت ألا أنام إلا غفوات قصيرات متقطعات، فلم تفلح حيلتي، وهاجمني ذات الكابوس بين يقظتي وثباتي، بشكل متقطع.
لا فرار من هذه اللعنة التي أصابتني. أكاد أفقد عقلي. كلما تحاورت معه في أحلامي، وأمليت عليه تساؤلاتي، جاءني بإجابات مخزية، وذكرني بأشياء ربما اقترفت بعضها، وربما هممت وعزمت على القيام ببعضها الآخر. لكن صوتا داخلي لا أعرف مصدره، ولا أين يكمن، منعني منها، فيجيء هو ليجسدها أمامي ويستثير اشتهائي لها، فيعيدني إلى ما كنت منه انتهيت، لأسبح في بحر حيرتي اللامنتهي، وأبدأ معاناتي من جديد، بينه هو وبين صوت ساكن في جنباتي لا أعرف ما كنهه.
قررت اليوم ألا أغفو أبدا. أخذت كل الاحتياطات التي تكفل دوام يقظتي، أضأت النور من حولي مبهرا. الموسيقى الصاخبة تنسكب في أذني، توقظ ما يشوب رغبتي دون اليقظة. كلبي بجانبي. احتسيته القهوة معي كي لا يهاجمه النعاس. سكبت في فنجاني وهني وترنحي وثقل رأسي. وضعت بين راحة كفي كتاب معنون دع القلق وأبدأ الحياة. هكذا أحكمت قبضتي على جمرة اليقظة المقدسة التي كانت تراوغني فتتركني أتردى في غياهب الغفوات المتقطعة والثبات العميق، لألقى فيهما عذاباتي.
"ما هذا؟ أنت جئت مرة أخرى. كيف؟ يا إلهي ارحمني."
"قلت لك مرارا إنني لا أجيء، ولا أذهب. أنت الذي تجيء بي حيث تشاء، فأنا آتٍ إليك منك، وبك فيك. إنني أنبعث حين تريدني لأصوغ حلمك، أو أمد بساط خيالك، أو أقلب لك ما تدفنه من الذكريات. أنا حامل أوزارك وأوهامك ومآسيك. أنا الذي لا غنى لك عنه، ولا لغيرك."
"سأصك آذاني كي لا أسمع ترنيمة تمجيدك لذاتك، فلم أعد أطيق سماعها، ولا طاقة لطبلتي السماخية بها."
"أنت لا تحتاج لسماعها بأذنيك، فهي محفورة في وجدانك، كلما اقترفت أيا من آثامك، انتشيت بترديدها داخلك."
"أيها الملعون، أغرب عني بوجهك القبيح. أجرني يا ربي."
"الآن ترى قبحي؟ ووقت ارتكبت ما تفر منه الآن، ألم تكن تستعين بي وبقوتي لأعينك على ما أنت مقدم عليه؟ ألم تكن تستجديني لأخرس هذا الصوت الذي دائما ما يحول بينك وبين ما ترغب؟ ألم أكن أنا وحدي قادرا على هذا؟ أتنكر؟"
"لا أنكر استعانتي بك، وحاجتي إليك فيما مضى. ولكني الآن نويت الثورة على كل ما كان مني. سأغير حياتي. نعم سأبدأ من جديد كما يدعوني كتابي."
"تريد التخلص مني إذن؟ عليك أن تتنصل من ذاكرتك، وتمحو آثار ما اقترفت من قلوب من عذبتهم بنزقك وطيشك. وقتها ربما خففت من زياراتي، وربما انقطعت عنك إذا ..."
"بالله عليك أزح الغموض عن حديثك."
"لا تحلفني بذاك الاسم مرة أخرى، هكذا سأجيبك ولن أطيل حيرتك، ألم أقل لك إنني الوحيد الذي يريد لك الراحة والسعادة. سأكمل ما عنده انتهيت. إذا قتلت وحدك الصوت النابع من داخلك الذي يحرضك على ألا تفعل ما ترغب وتهوى. لن أزورك بعد يومي هذا، وسأتركك تنام أنى شئت. لن أرهقك بملاحقتي لك بما فعلت، أو أغويك بتجسيد ما ترغب عنه لكي تقدم عليه وتشتهيه قبل اقترافه. ستصبح شهوة الصمت التي يحركها الصوت المنبعث من ذاتك منعدمة، وفكرة العزلة التي فرضها عليك مستحيلة."
"لكنه لم يفرض عليّ العزلة أو الصمت. إنه كان قراري واختياري فلقد تركني أختلط فأخطأت، وحثني على الكلام ففعلت ما لا يجبه إلا المحو، وفي هذا استحالة كاستحالة هروبي منك، فخيرني، فقررت العزلة حتى أستقيم فأعود لأخالط الناس ويخالطوني على ألا أعود لمثل ما ارتكبت."
"انظر، هذا ما أراده لك: الوحدة والعذاب. ينتشي كلما أعاد لذاكرتك أجمل سنين عمرك، وألبسها أقنعة مفزعة يلون ماضيك بألوان قاتمة، بينما كانت ألوانه مبهجة تدخل السرور على قلبك المحزون. يجيئك ممتطيا صهوة جواده الجامح، شاهرا سيفه ليغرس نصله في قلبك فينزف دون انقطاع، مسلطا قنواتك الدمعية لتعلن الثورة على سكون عينيك فتحيلهما لنهرين من دموع. حتى روحك الساكنة يحيلها كرياح هائجة تضرب في جسدك، فتدمر أعضاءه وتصيبك بكل ما تعاني منه وتشكو."
"أيها الملعون أتراقب خطواتي؟ كيف عرفت أنني ذهبت في زيارات عدة لأكثر من طبيب؟"
"وترحل دونما تشخيص مقنع. تضع الخراطيم في يديك وينسحب الدم من أوردتك. يفحصونه فلا يجدون ما يدعو لما أنت عليه من حال يرثى لها. يضعون بين راحتيك بعض المهدئات وينصحوك بالراحة."
"أكنت معي؟"
"ألم أقل لك مرارا ألا تعيد عليّ هذا السؤال السخيف؟"
"لن أكرره ولن أحدثك تارة أخرى. سأنأى به عنك حتى لو أزهق روحي واعتصرها بين يديه. سيكون أرحم على من سطوتك وتجبرك، وربما اعتصر مع روحي ما يلاحقني من عذاباتي."
"لن أذهب عنك إلا إذا تخليت أنت عني ونزعتني من صدرك، أو نزعته أنت منك، هذا الذي أفسد عليّ حبك وائتناسك بنبضي في دمك."
"لن أنصرك عليه، وأعلم أيها المراوغ اللعين أنك تريد قتله لتتركني لنفسي، فلن أحتاج وقتها لك، نفسي ستغنيني عنك. آه يا من سكبت في أحشائي لعناتك فسكنتها."
هممت لأستنشق بعضا من هوائي المعبأ بأنفاس الغضب المشتعلة بداخلي بعدما كنت قد أقلعت عن استنشاقه منذ أكثر من ثلاثة أيام في محاولة مستميتة لأثبت لنفسي ولو لمرة أنني قادر على اتخاذ قرار سطوته مني دون غيري.
سمعت ضحكاته تملأ المكان، وتتطاير أصداؤها مع هوائي العفن.
"سأتركك الآن وأرحل عنك كما طلبت. لن أعذبك بوجودي فلا حاجة لي بك."
"إبليس انتظر. لا تتركني وحدي. دونك لن أشعر بلذة أثمي."
"هذه المرة لن تشعر إلا بلذة ما تفعل. ستلغي كلمة إثم من قاموسك. لقد قتلته."
"أيها المجرم. ألم آمرك أن تكف يديك عنه؟"
"ليس باستطاعتي قتله. أنا أضعف من ذلك بكثير. فقط كنت أجادله ليهدأ ويغفو عنك ولو قليلا."
"إذن من القاتل؟"
"إنه أنت. نعم أنت وحدك."
"يا لتعسي وحسرتي. أكاد أرى روحه تزهقها أنفاسي. لا لم يمت. أنت كاذب. باستطاعتي إيقاظه. سأستجدي رضاه هو دون غيره."
رميت نرجيلتي وقطعتي السوداء، وهجرت فراشي المدنس بالإغواء، وذهبت إلى حيث استكانت روحي واستشاط هو غيظا.
في المسجد سمع المصلون بعد أداء فريضة الفجر شهقة عالية تبعها سكون.